مقدمة
رغم مرور أكثر من سبعة عقود على النكبة الفلسطينية إلا أن الأدباء والفنانين ما زالوا مشغولين بتناول هذه القضية نظرا لما لها من تأثير ما انفك يتفاعل حتى اليوم، حتى ليبدو وكأن عملية الطّرد والتهجير التي بدأت سنة 1948 لم تتوقف بعد، وأنها ما زالت متواصلة. واللافت للنظر أن تناول هذه المأساة لا يقتصر على من عاش تلك الفترة بل تعداها إلى الأجيال اللاحقة من الأدباء والفنّانين على اختلاف اهتماماتهم. إن دلّ ذلك على شيء فإنما يدل على حجم هذه المأساة، وما كان لها من أثر نفسي دفع كثيرين إلى تكرار روايتها مشافهة وكتابة، أو التعبير عنها، رسما، تمثيلا وغناء.
قامت الروائية الفلسطينية سعاد العامري بإصدار رواية “بدلة إنجليزية وبقرة يهودية” (2022) باللغة العربية، بعد أن كانت قد نشرتها باللغة الإنجليزية. وهي معمارية أولا وكاتبة ثانيا، أقامت مؤسسة “رواق” التي تعنى بالحفاظ على التراث الفلسطيني. وقد رأت، بعد تجربتها في مجالها المعماري والتراثي، أهميةَ توثيق ما حل بالشعب العربي الفلسطيني كتابةً، فتوجهت نحو الرواية بالذات، لإدراكها ما لهذا الجانر الأدبي من سحر وتأثير في مخاطبة العقل والعاطفة في آن معا. كانت أولى إصداراتها رواية “شارون وحماتي” (2004) التي لفتت الأنظار، ثم تابعت في مشوارها الأدبي الذي حظي باهتمام القراء والدارسين، وترجمت بعض أعمالها إلى أكثر من عشرين لغة، ونالت العديد من الجوائز.
تدور أحداث الرواية المركزية في مدينة يافا، وتمتد فتطال مدينتي اللد والرملة وبعض القرى المجاورة، وذلك منذ سنة 1947، وحتى السنوات الأولى من خمسينيات القرن المنصرم. يطّلع القارئ على أهم الأحداث التي عصفت بمدينة يافا، المدينة الأهم في فلسطين آنذاك، وحالة الحصار التي تعرضت لها من المنظمات اليهودية المسلحة، وتمدُّد حركة الاستيطان اليهودية والسيطرة على مرافق الحياة، بشكل تدريجي، حتى يكون التهجير والضياع والتشتُّت، ثم محاولات البعض التسلُّلَ والعودة للبحث عمن ضاع من أفراد العائلة. تتكشّف مآس صادمة وغير متوقعة: إقامة جيتو عربي، تحوُّل حارات عربية بكاملها إلى حارات يهودية، مسح حارات عربية وتسويتها بالأرض، فرض منع تجوُّل منذ المساء وحتى السادسة صباحا، تشتّت أبناء العائلة الواحدة وجهل مصيرهم ومكان إقامتهم، والبحث عن صغار ضاعوا وتاهوا كمن يبحث عن إبرة في كومة قش.
تمهيد
إن التأويل هو ملء البياض والفراغات، وبحث في خبايا النص وفي ما يقال، وفي ما لا يقال، إذ حين يقول أحدهم جملة ما فإنه يضمر جملة أو قولا أو فكرة قد يتلقّفها مؤوِّل ما ويتلقّف غيرَها مؤوّل آخر. وتقع على المؤوِّل مهمّة البحث عن القرائن التي تثبت صدق ما ذهب إليه، وألا يكتفي بالممكن بل بالأكثر احتمالا حتى لا يكون التأويل مجرد تخمين. يتطلب ذلك منه تعقّب النص وما يحمله من إشارات ودلالات، ومتابعة اللغة ومستوياتها من خلال السرد والوصف والحوار، ومعاينة العنوان وعلاقته بالمضمون.
يجد القارئ في الرواية وصفا مفصلا لمرافق مدينة يافا وحاراتها وبيوتها، وللحياة الأدبية والفنية والمعمارية والاجتماعية ليافا الجميلة، “أم الغريب”، كما اعتاد أهل فلسطين على تسميتها، ثم يقف في مواجهة ضياع هذا الجمال واختفائه كليا عن عيون الناظرين بهدف تغييب هذا التاريخ وإبادته.
تتابع سعاد العامري ما بدأه بعض الروائيين الفلسطينيين في تسليط الضوء على النكبة وما تحمله من مآس وويلات، وتعمل على إعادة إحياء روح يافا كرمز حي من رموز فلسطين. لا يخفى على المثقف العربي الفلسطيني تلك الحرب التي تُشنّ، دون توقف، على الذاكرة، من ناحية، وعلى الرواية التاريخية الفلسطينية، من ناحية أخرى. تتصدى العامري ورفاقها الأدباء والمؤرخون والفنانون، كل من زاويته، لتفنيد رواية الآخر وبناء مشروع ثقافيّ فكريّ راسخٍ وثابت، مُدعَّما بأسانيد من ماض ليس ببعيد. فالصراع لا يبدأ جسديا ولا ينتهي جسديا، حتى لو مات الجسد، فهو يبدأ فكريا وينتهي فكريا، والغلبة للفكر أولا وأخيرا، والفكر يعني الرؤية والرؤيا والتخطيطَ للمستقبل.
إنها حرب لا يزال الفلسطيني الضحية الأولى لها، فالكتابة التخييليّة تحذّر وتحثّ وتسلّط الضوء على المسكوت عنه، وتكشف المستور وتشدّد على الظاهر ليتكشّف أكثر، من هنا جاءت رواية سعاد العامري دمج بين المكشوف والمستور، وبين المباشرة والرمز والإيحاء. ماذا يعني ذلك؟ وكيف بنت روايتها؟ ما دور التأريخ؟ وما دور التخييل؟ هذا ما ستحاول هذه المقالة معالجته وربطه بعناصر الخطاب الروائي وتبيان مدى نجاح الروائية في خلق رواية قادرة على المحاورة والتثوير.
انغلاق النص وانفتاحه
إن ما يجمع بين المؤلّف والناقد هو النص، فالأول ينتجه فنيا، والثاني ينتجه جماليا، يعمل الأول على تضمين مؤلَّفه أفكارَه ورؤيتَه التي تنعكس أيضا على المبنى الفني، ثم يقوم الناقد بعملية تأويل المُنتج اعتمادا على ثقافته ومعارفه، وعلى ميوله الفكرية. إنّ الروائي، أيَّ روائي، ليس محايدا أيديولوجيا، حتى وإن نجح في أن يكون محايدا فنيا، وتقع عليه مهمّة إبراز صراع الأيديولوجيات، دون أن يعني ذلك أنه يقبل بها جميعها.
يتعلّق نجاح الروائي بمدى قدرته على “التحايل” الفنّي وإتقان “لعبة الإيهام بالواقع”، هروبا من المباشرة، فلا يتكشّف موقفه الصريح، ولا تتعرى أيديولوجيته، وذلك عبر توظيف وسائل فنيّة وتقنيّات تجعل النص أقرب إلى التخييل منه إلى الواقع، مهما كان هذا الواقع صعبا أو مؤلما. يرى الدارس أنّ نص العامري ليس بريئا حين تحدَّث عن البيئة الفلسطينية، وعن الظروف المادية والاقتصادية، وعن تغلغل اليهود في شتى مرافق الحياة، فهو يمهّد لما سيحدث عبر طرح صورة ما كان وخلق حالة من المفارقة الصادمة. لقد وقعت الروائيّة تحت تأثير الواقع المأساوي وثقله، ووجدته، على ما يبدو، أكثر تأثيرا وأشدّ إيلاما في النفس من عملية التخييل ذاتها، فلم تتخفّ، في كثير من المواقع، وراء الأقنعة التي يعمل الروائيون على خلقها لإفساح المجال لتغليب التخييل على الواقع وعلى التأريخ، إذ يقع القارئ على سرد مباشر مؤطَّر بزمان ومكان محددين يجعله أقرب إلى التوثيق منه إلى التخييل.
تقول الكاتبة عن ذاتها إنها حكواتية بالفطرة، وهذا اكتشاف هام للذات، وهي فعلا حكواتية ناجحة تجيد السرد بأسلوب جذاب، مما جعلها لا تتردد في اللجوء إلى اللغة المحكية التي كوّنت نسبة لا بأس بها من حيّز النص عامة. ولم تتردّد في إقحام رأيها في بعض الأحداث دون تحفّظ، وغلّبت الرؤية المونولوجية على الرؤية الديالوجية، وإن كانت الأحداث الرئيسية والثانوية تدور حول صراع بين طرفين، أحدُهما متجبِّر يلقى الدعم من قوى عالمية، وآخر يقف مذهولا إزاء ما يحدث، وكأنّ ما يحدث هو ضرب من الهذيان.
طرحت الروائية هذا الصراع وعملت على كشف أطرافه، وكانت جزءا غير منفصل منه، فلم تتردّد في إبداء رأيها بشكل مباشر، كما ذكر أعلاه، موظفة الراوي الذي يحمل صوتها، وكأنّها لا تثق بالقارئ ولا تكتفي بما يطرحه سردها، فتصرّ على إيصال الفكرة للمتلقي دون لفّ أو دوران، ولنا على ذلك أمثلة عدة مثل: “وبغض النظر عن الأسباب، فقد نالت الدولة الوليدة (إسرائيل- الباحث) تعاطف العالم الحر، واستمرت الجريمة، بل وتلقّت أيضا المديح والإعجاب”. (ص172)
لقد اعتمدت العامري النمط السردي الذي أطلق عليه جيرار جينيت “الرؤية من الخلف” وهو يتيح للسارد أن يكون عالما بكل شيء وخالقا وحيدا لكل شيء، فلا ينفسح المجال لتعدّد الرؤى ولا لتعدد الأصوات، وبالتالي تصبح الرواية في هذه الحالة رواية الصوت الواحد، أو ما يسميه باختين الرواية المونولوجية.
وبالرغم من بروز صوت الراوي الممثِّل للروائية إلا أن نص سعاد العامري، تمكّن من جذب القارئ، وذلك بفضل جماليات اللغة، ببساطتها، وتعدد مستوياتها بما يتلاءم مع الشخصيات ومع خصوصيات المكان والزمان، وبفضل سلاسة العرض والتنقّل بين مستويات حوارية مختلفة، فضلا عن دقّة التصوير القادر على خلق التناقضات. وقد تجلّى ذلك في المقارنات المباشرة وغير المباشرة بين يافا العربية وتل أبيب اليهودية، وبين الفقير والغني، وبين الحارات المختلفة، وبين ما كان قبل النكبة وما بعدها. هذا الوصف الدقيق والتصوير السينمائي كاد أن يتغلب على الصوت الواحد المونولوجي. ولو أتاحت الروائية المجال لبروز أيديولوجيا الطرف الآخر، بشكل حر ومستقل، عبر توظيف الضمائر وتعدد زوايا النظر، وخلق حالة حوارية بين الطرفين لكان العرض أكثر قوة وإقناعا، لكن الطرف الآخر في الصراع كان باهتا ولم يبرز إلا من خلال مواقف الطرف الأول المهيمن على الأحداث حتى لكأن الطرف الثاني شبح يعمل في الخفاء.
العنوان: علامتان فارقتان
للعنوان وظائف عدة أهمها وظيفته الدلالية، التي لا تنكشف إلا بعد الانتهاء من عملية القراءة والقيام بالربط بينه وبين الأحداث. وهو أشبه بإشارة يرسلها المؤلِّف إلى المتلقّي لحثّه على متابعة اكتشاف كنه النص وتفاصيله. وبالرغم من تعدد الدراسات، التي تناولت العنوان و”عتبات النص” و”النص الموازي” من جوانب مختلفة أفقية وعمودية، وعلاقته بعناصر الخطاب الأدبي ومركباته، إلا أن عملية التطبيق هي الأكثر صعوبة. فقد يرى قارئ ما في العنوان إشارة ما، ويرى غيره إشارة أخرى، وذلك وفق انتماء المتلقي الفكري وثقافته وأيديولوجيته، لذا من الطبيعي أن يُعنى القارئ العربي الفلسطيني، بشكل خاص، بالوصفين، “إنكليزية” و”يهودية”، وبمتابعة دورهما في مجمل النص لكونه مسكونا بمخلَّفات الصراع مع الإنجليزي واليهودي وما جلبه ذلك من تبعات ومن ويلات.
لقد اختارت سعاد العامري عنوانا مثيرا يتكون من موصوفين ووصفين، ما يحثّ القارئ على البحث عن العلاقة بين هذين المركَّبين المعطوفين على بعضهما؛ “بدلة إنجليزية”، “وبقرة يهودية”، من ناحية، وتحديد علاقتهما بأحداث الرواية، وبمجمل عناصر الخطاب الروائي، وأبعاد هذه التسمية، من ناحية أخرى. تحمل البدلة، فيما تحمله، معنى الأناقة والجمال الشكلي، ولكنها حين تصبح إنكليزية فهي ترتبط ثقافيا وفكريا وتاريخيا بكل إيحاءات الدولة الإنكليزية عبر تاريخها الأسود تجاه الشعب الفلسطيني، وفق وجهة النظر الفلسطينية. أما البقرة اليهودية فهي الجانب الآخر من المأساة الفلسطينية. وهي، اعتمادا على القرائن والأحداث الروائية، تحث الفقير على تناول لحمها حين تفرغ معدته، كما يغري الفقيرَ لبسُ البدلة الإنكليزية حين يكون الجيب فارغا. وقد كان أحد طموحات الفتى صبحي، إحدى الشخصيات المركزية في الرواية، الذي ينتمي طبقيا إلى عامة الناس أن يلبس بدلة مثل تلك التي يلبسها أغنياء يافا، ولما تحقّق ذلك، بفضل اجتهاده ومهارته، “شعر صبحي بأن البدلة الإنكليزية كانت أقرب ما تكون إلى جواز سفر إنكليزي أتاح له الدخول إلى أماكن محرَّمة عليه في مدينته، أماكن كان يراها من بعيد ولكنه لم يجرؤ أبدا على الذهاب إليها”. (الرواية، ص67)
لم تكن البدلة مصدر فرج لصبحي على الصعيد الشخصي أبدا، ولا فتحت له أبوابا كانت مغلقة، إذ هناك ما هو أكبر بكثير من هذا “الطموح” الذي لا يحلّ مشكلة جوع ولا يحسّن وضع لابسها الاجتماعي إلا على صعيد الشكل الخارجي لا أكثر، ولم تزوّده بأي قوة وبأي وسيلة كي يقف في وجه الإنجليزيّ أو اليهوديّ، بل وُجّهت إليه تهمة سرقتها بحجة سعرها المرتفع وعدم قدرته على توفير المبلغ، فسُجن وصودرت منه. ولما خرج من السجن أعادوا إليه الجاكيت فقط، ليكتشف لاحقا أن البنطال قد أعطي لأحد العملاء العرب الذي يعمل لصالح “الهاجناة”، فتعارك معه واستعاده ممزّقا نتيجة هذا العراك، كما مزّق الإنجليز واليهود فلسطين، وكما تمزّقت أحلامه.
أما البقرة فكانت مصدر وبال هي الأخرى، فقد تحوّل أهل يافا واللد والرملة والقرى المجاورة إلى مجموعات هائمة على وجهها بعد أن فقدوا الأرض والمسكن ومصادر عيشهم، وناموا في العراء جياعا عطاشا، فكان ظهور البقرة فجأة منفذا لسدّ جوع الصغار قبل الكبار، فذبحوها وأكلوا لحمها معتقدين أن مالكها شخص عربي يعرفونه جيدا، فكان ذلك حجة للسلطة اليهودية الحديثة لاعتقال بعض أبناء القرية وسجنهم واختفاء آثارهم بتهمة سرقة بقرة يهودية وذبحها.
قام الفنان الإيطالي أندريا جيرميا بتصميم غلاف الرواية للنسخة الإيطالية، وهي ذاتها التي تتصدر الطبعة الخاصة بفلسطين. تفتح هذه اللوحة باب التأويل على مصراعيه، إذ يلفت النظر صورة بقرة يجلس على القسم الخلفي منها فتى يبدو في غاية الأناقة يرتدي بدلة وطاقية، وهو ينظر من مكان مجلسه إلى بقية أجزاء البقرة التي تغطيها لوحة لافتة نقرأ عليها كلمة “فلسطين”، واسم يافا باللغة الإنجليزية (jaffa). كما يرى المتلقي أن الزركشات والإشارات التي تغطي جسم البقرة مستوحاة من عالم فلسطين، ففيها بحر ورمل وأشجار وبيوت سقفها من قرميد إشارة إلى بيوت أهل يافا الأغنياء، ولربما ما يغطي الرقبة هو صورة الصفحة الأولى لإحدى الصحف التي كانت تصدر في فلسطين آنذاك. يسمح المتلقي لذاته أن يرى أن البقرة، وما عليها من أشكال، هي فلسطين مجزأة ومقسمة إلى مناطق، وأن ما تبقى منها للفلسطينيين هو ذلك الجزء الذي يجلس عليه الفتى لا أكثر. نشير إلى أن هناك تفاصيل أخرى صغيرة تكشف بتفاصيلها الدقيقة جمال فلسطين وبالتالي فداحة الخسارة. كل هذه التفاصيل محاطة باللون الأزرق الذي قد يكون لون بحر يافا أو سمائها. لكن ما يلفت النظر أكثر من غيره هو هذه التجزئة التي تكشفها اللوحة التي تغطي جسد البقرة كله، والتي توحي، برأينا، إلى ما تعرض له الجسد الفلسطيني من تمزُّق، كما تمزقت البدلة الجميلة.
يجمع العنوان، في مركبيه، بين مرحلتين فارقتين في العمل التخييلي؛ القسم الأول منه يحدثنا عن عائلة الفتى “صبحي” وما يحدث لها أثناء النكبة، والقسم الثاني يحدثنا عن الفتاة “شمس” وما حل بعائلتها وبأهل بلدتها نتيجة النكبة. وبالتالي تكتمل المأساة وخيوطها؛ يفترق الحبيبان إلى الأبد وتتشرد العائلتان وتتشتتان كما يتشتت كل أهل فلسطين. أما على الصعيد العام فإن الرواية تتناول مرحلتين هامتين من تاريخ القضية الفلسطينية، الصراع مع الاحتلال الإنجليزي، والصراع مع الاستيطان اليهودي، وكلاهما، في نظر الفلسطيني، خصم لدود اجتمعت مصالحهما، وفق الرواية، من أجل تهجير أهل فلسطين والسيطرة على أرضهم وأملاكهم، وتزييف تاريخهم وروايتهم. وهذا ما كان على الصعيد الواقعي فقد حكم الإنجليز فلسطين مدة من الزمن (1917-1947) وكانت هناك مرحلة تماس انتقلت فيها السيطرة على فلسطين من الإنجليزي إلى اليهودي، فالتزمت الروائية بالتاريخ وحيثياته وعملت على تثبيته وترسيخه وتوثيقه.
الوصف، أهميته ودوره
تقوم لغة الرواية على السرد والحوار والوصف، يكمل أحدها الآخر ويتحاور معه، وكل عنصر من هذه العناصر يقوم بدوره لينتُج في النهاية نصٌ لغوي روائي. تكمن أهمية الوصف في دوره التشخيصي، ويرى جينيت أنّ التشخيص يعني بث الحياة في الأشياء وفي الشخصيات، وهو ما تفعّله الروائية أكثر من أي عنصر آخر في الرواية. فقد يوظَّف الوصف لكشف الحالة النفسية لشخصية معينة أو لفئة معينة من الناس، وقد يوظّف لوصف الطبيعة أو لخلق صورة طبق الأصل عن الواقع، أو خلق صورة لا تحاكي الواقع بقدر ما تحمل من دلالات. مهما كان الوصف مهمّا في أية رواية فإني أرى أن الصورة أكثر عمقا من الوصف، لأن الوصف قد يكون محاكاة للواقع، أحيانا، لا أكثر. أما الصورة فهي ذات دلالات غنية، وواسعة أفقيا وعموديا في آن معا، وهي أداة اختراق داخلية للشخصيات الروائية، ومحفزة للمتلقي كي يبحث عن أبعادها ودلالاتها.
إننا نميل إلى الاعتقاد أن نجاح هذه الرواية يعود إلى قدرة الروائية سعاد العامري على الوصف على جميع مستوياته، ولنا على ذلك أمثلة عدة نكتفي بالمثال التالي: “وهو يهرب غربا باتجاه البحر، شعر وكأنه يهرب من جحيم إلى آخر. وجد نفسه وجها لوجه مع مشهد آخر من مشاهد يوم الحشر: كانت المدينة بأكملها تهرب باتجاه البحر، آلاف مؤلَّفة من الناس تندفع إلى الشاطئ مثل شلال من الأجساد البشرية، ومثل السمك خارج الماء كانت أجسادهم تتلوى ألما. كانوا يركضون ويتدافعون ويتحدثون في آن واحد مثل أسراب النمل الهائج […] تحوّل ميناء يافا إلى سوق كبير، تباع فيه الأجساد البشرية وتشترى: عائلة كاملة، أو نصف عائلة، ربع عائلة، ثلث عائلة، أو حتى شخص واحد.
“خذ هاي كل المصاري اللي معي، بس طلّع إمي وولادي من هون”. (الرواية، ص160)
لا يخفى على القارئ ما يقدمه هذا المشهد، وما يحمله من تأثير نفسي سواء على الروائيّة التي خلقت هذه الصور أو على المتلقي. فإن تحدّث المنظرون عن النص ودوره في الجمع ما بين المؤلِّف والقارئ، وعن التأثير والتأثّر بين النص والقارئ فالمشهد أعلاه يثبت ما قاله بعض المنظرين. وقد تكررت مثل هذه المشاهد في أكثر من موقع، يتلقفها المتلقي كما يتلقّف غيرها فتتبلور لديه صورة شبه متكاملة عما حلّ بيافا وأهلها. وبالتالي فقد حقّقت الروائية أحد أهدافها الأيديولوجية: تجنيد القارئ وتثويره.
لقد أحسنت الروائية في اختيار المشاهد والصور المؤثِّرة وكأنها مخرج سينمائي يجيد اختيار ما يدخل عميقا في وجدان المتلقي، تخترق التفاصيل الصغيرة جدا، فتتضخم المأساة أمام العين والقلب معا، وذلك عبر التصوير الخارجي، وما يتخلله من حوارات سريعة تدور كلها باللغة المحكية، لتبيّن هول ما يحدث، وسرعته المذهلة التي جعلت الناس تقف عاجزة عن استيعاب الفاجعة.
لا تكتفي الروائية بتصوير مشاهد البيوت التي هُدِّمت والحارات التي سوِّيت بالأرض فحسب، بل تذهب عميقا في تصوير حالات الفزع والمتاهة والضياع، وانفصال الأب عن أبنائه والأم عن أولادها، إذ يشعر القارئ كأنه أمام لقطات سينمائية سريعة ليد طفلة تفلت من يد أمها، في خضم الجموع التائهة التي تركض يمينا ويسارا، خوفا من الرصاص المتطاير من عصابات المقاتلين اليهود مثل الليحي والإيتسل والهاجناة.
يقف القارئ أمام مشاهد عديدة تبيّن انقلاب الحال بشكل سريع، دون أن يستوعب العقل ما يحدث، فمن كان وجيها من وجهاء المدينة أصبح خلال دقائق معدودات فقيرا ومشردا لا يملك من متاع الدنيا سوى لباسه، ومن كان يملك بيارات البرتقال وعمالا يقطفون الثمر ويزرعونه تحوّل إلى لاجئ هارب من الموت، ومن كان لديه بيت فاخر فقد بات في رمشة عين مشردا تائها يبحث مع الجموع المشردة عن الأولاد الذين ضاعوا، فيكتشف لاحقا أن قسما من العائلة قد قتل، وقسما قد هرب مع الأم، فيما بقي من بقي مجهولي المصير. فقد تساوى الفقير والغني في النكبة والضياع والتشرد.
لا تلجأ الروائية إلى الكثير من السرد بقدر ما تذهب نحو الصور والمشاهد السريعة المتراكمة التي لا توقف الحدث بقدر ما تساهم في تسريع الأحداث وإبراز المأساة، وقد ضمّنتها حوارات سريعة كجزء هام من المشهد. تختار الكاتبة ما تراه العين حتى ليحس القارئ أنه أمام فيلم وثائقي يُعنى بتصوير بعض تفاصيل المأساة: طفلة تركض هنا، وأم تصيح هناك، وجدة تُترك مُلقاةً على قارعة الطريق لا حول لها ولا قوة، وجثث متراكمة فوق بعضها البعض، تنقلها عين الكاميرا في ثوان معدودات للمشاهد، فيقف القارئ مذهولا أمام التقاط كل هذه التفاصيل، مصابا بحالة من الهلع وكأنه جزء مما يحدث.
ساهم الوصف مساهمة كبرى في نقل صورة مجسدة وبارزة للمأساة، وعمل على كسر روتين السرد ودعمِه في آن معا، فالوصف لدى العامري لا يكتفي بالخارج ولا يتوقف عند الداخل، بل يبعث برسائل عبر اللغة الشاعرية الإيحائية مؤديا دورا هاما في اقتصاد حيّز النص الروائي وتكثيفه بعيدا عن السرد المباشر.
الفضاء الروائي
تدور معظم أحداث الرواية، كما ذكر أعلاه، في مدينة يافا التي كانت تعتبر أهم مدينة في فلسطين وأكبرها عددا. يتعرف القارئ على المدينة ومعالمها؛ أسماء بعض شوارعها، دور السينما والمسرح، حاراتها وبيوتها ومقاهيها، بحرها وشاطئها، بياراتها وأسماء بعض عائلاتها، وأهم احتفالاتها، خاصة موسم النبي روبين وإقامة “مدينة الخيام” حتى لتبدو يافا مدينة عريقة تضاهي في شكلها وفي جوهرها أي مدينة غربية عريقة.
يرى القارئ أن الروائية ترمي من خلال هذه التفاصيل الدقيقة إلى إثبات نقيض ما تقوله الدعاية الصهيونية: “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، والإثبات على ذلك أن هذه الجملة، بالذات، قد جعلتها الروائية عنوانا فرعيا لأحد الفصول. (ص171) من هنا فإننا نرى أن أهم ما تتناوله هذه الرواية هو فقدان المكان/ البيت/ الوطن، وما يجرّ ذلك من تأثير على الإنسان.
لم يكن احتفاء الروائية بالمكان عفويا، على الصعيد الخاص والعام، فقد عاد والدها إلى يافا سنة 1968 للبحث عن بيته، فلم تفتح له “سيدة” البيت الجديدة الباب، ولم تسمح له بالدخول، فعاد أدراجه حزينا دامعا، وظل هذا المشهد يرافق الابنة سعاد التي أصرت على البحث عن البيت رغم مرور عشرات السنين، لكنها عادت بخفي حنين ولم تهتد إليه، فعمدت إلى استعادته كما تستعيد بناء البيوت الفلسطينية التراثية القديمة، ولو عبر الخيال. تصر سعاد العامري على الكتابة عن هذه التجربة المؤلمة. والكتابة، كل كتابة، لها دوافعها المتعددة ولعل أهمها ما قاله بعض الكتاب عن تجاربهم بأنهم يكتبون بدافع “الاستشفاء”، فالدفاع عن الذات له دوافعه النفسية التي لا يمكن كبتها.
إن ما يميز معظم روايات النكبة هو احتفاؤها بالقرية ومركباتها، لأن المجتمع الفلسطيني، آنذاك، كان في معظمه مجتمعا فلاحيا، فكانت القرية هي الفضاء الأهم الذي حفلت به القصة والرواية الفلسطينيتان، لكن أحداث هذه الرواية، كما ذكرنا، تدور معظمها في المدينة، وهي تتقاطع بذلك مع رواية غسان كنفاني “عائد إلى حيفا” (1969)، إذ يستطيع القارئ أن يجد الكثير من التشابه بين فضائي هاتين الروايتين، وبالذات في مشهد الناس وهم يهرولون راكضين في الشوارع والأزقة باتجاه البحر هربا من الرصاص والموت. لكن العامري أولت تفاصيل مدينتها عناية أكبر وأوسع مما أولاها كنفاني، وبالذات في إبراز مركبات مدينة يافا الاجتماعية التي تجلّت في وصف معالم المدينة وحياة أهلها الذين يعمل بعض أغنيائها في زراعة البرتقال وتصديره، والبعض الآخر في صيد السمك، وبروز طبقة العمال الذين يعملون في ورشات العمل لدى الأغنياء، أو في ورشات عمل صغيرة لانعدام المصانع الكبيرة التي تميز المدن الكبرى بشكل عام، في حين أولى كنفاني الحدث عناية أكبر فبدا فيها المفكر الذي يبني للمستقبل وفق ما تمليه عليه رؤيته الفكرية والفلسفية.
كما يستطيع القارئ أن يتوقف عند تشابه فضاء هذه الرواية “المديني” وفضاء رواية “المصابيح الزرق” (1954) للكاتب السوري حنا مينة التي تعاين مجتمع مدينة اللاذقية إبان الحرب العالمية الثانية، فاللاذقية تحاول التعايش مع واقع سوريا الحديث في صراعها مع المحتل الفرنسي وبداية النهاية، ويافا تحاول التعايش مع الاحتلال البريطاني وبداية النهاية، واحتدام الصراع العربي اليهودي. أما على الصعيد الداخلي فيبرز الفارق الطبقي، في الروايتين، بين الغني والفقير مما ينعكس بوضوح على مساكن الفقراء والأغنياء وحاراتهم، من ناحية وعلى النظرات الفوقية والدونية المتبادلة بينهما من ناحية أخرى.
لا يستطيع الباحث أن يفصل بين عنصري المكان والزمان إذ يكمل أحدهما الآخر، فمدينة يافا قبل سنة 1948 مدينة تزخر بالحياة من جوانب متعددة وتتّسم بالحركة والانتعاش على أكثر من صعيد. هذا التوصيف لمدينة يافا يأخذ حيزا لا بأس به من النص الروائي يتعرف فيه القارئ على مدينة يافا بأحيائها المتعددة وشوارعها الرئيسية وأزقتها ومعالمها الرئيسية حتى لتكاد ترسخ في ذهن المتلقي، لكن سرعان ما يتغير ويتبدّل هذا التوصيف، بشكل تدريجي، مع مرور الزمن، فتبرز سيطرة الجانب اليهودي على الجانب العربي وتتبدّل الأحوال، حيث يتساوى الفقير الفلسطيني مع الغني الفلسطيني في حالة التشتّت والضياع حين يفقد كلاهما الأرض والمسكن ومصادر الرزق. فقد طالت أعمال السرقة والنهب المكتبات العامة مثل المكتبة الإسلامية، والمكتبات الخاصة. يقف وراء ذلك ثلاثة أهداف: الإشارة إلى وجود طبقة مثقفين فلسطينيين، والثاني سرقة هذه الثقافة شأنها شأن سرقة الأرض، وبالتالي حرمان الفلسطينيين منها وتحويلهم إلى فئة اجتماعية غير قارئة تجهل ماضيها.
يمكن للمتلقي أن يرى تفاصيل المكان بكل أبعاده وتنوعاته، فيقف عند الأحياء المتعددة وشكل بيوتها ونظامها وعلاقتها الوثيقة بنوعية ساكنيها، فلا يقتصر ذلك على الصورة الخارجية للأمكنة والحواري والأزقة والبيوت بل يتعداها إلى لباس السكان وعاداتهم وتقاليدهم واختلاف الرؤى وفق الحارات وساكنيها.
لقد عني الباحثون بدراسة الفضاء ودوره في حماية البشرية ورصد تطورها، وتحدثوا عن العلاقة الحميمة التي تربط الإنسان بالمكان، فكان من الطبيعي أن تولي الأعمال الأدبية والفنية الفضاء عناية خاصة، ويقيني أن كل الروايات العالمية التي تحدثت عن التهجير قد أعطت للفضاء مواصفات خاصة تفوق تلك التي تحدث عنها المنظرون والباحثون. بدا المكان في الإبداع الفلسطيني جنة مفقودة، ولكن جنتهم هذه لها مواصفاتها الخاصة، فهي الأرض وما عليها من بيوت يسكنها فلاحون آمنون، يعيشون متجاورين متحابين قانعين بالقليل دون الكثير، وهي في بعض الروايات، مثل رواية العامري مدينة نابضة بالحياة وبالتراث وبالحضارة، لكن هذه الجنة طرد منها أهلها دونما ذنب اقترفوه، ودون أن يرتكب آدم الفلسطيني أي جرم أو خطيئة، ولم يأكل من شجرة المعرفة ولم يقضم ولو قطعة صغيرة من التفاحة.
بنت العامري الرواية على العديد من الثنائيات المتناقضة، وكان فضاء الرواية أحد أهم هذه الثنائيات؛ ما كانت عليه يافا قبل النكبة وما صارت عليه بعدها. فلم تتوقف عند الجغرافيا وطوبوغرافيا المكان بل تعدّته إلى من يسكن فوق هذه الجغرافيا وتصوير ما كان عليه من قبل ومن بعد. من هنا نرى إلى أهمية الوصف الدقيق لتفاصيل الحياة في يافا، وعمق خسارة المكان بكل مركباته الشكلية ومعانيه الرمزية والنفسية.
بين الحقيقة والخيال
تشير الروائية قبل الدخول في عملية سرد الأحداث إلى أن هذه الرواية مبنية على مقابلات أجرتها سنة 2018 مع بطلي الرواية: “صبحي” (88 عاما) الذي يسكن في عمان، ومع “شمس” (85 عاما) المقيمة في يافا. ثم تعود مرة أخرى في الفصل الأخير للحديث عن ذاك اللقاء لتسرد بعض ما جاء فيه. فهل ترمي الروائية إلى إخبار المتلقي أن كل ما قرأه هو حقيقي ولا علاقة له بالتخييل؟
من عادة الروائيين أن يعملوا على تغليب الخيال على الواقع، حتى ليعلن البعض في افتتاحيات رواياتهم أنّ أي تشابه بين أحداث الرواية والواقع هو محض صدفة، وأن أي تشابه بين شخصيات الرواية وشخصيات من الواقع هو أيضا محض صدفة. لكن سعاد العامري تنحو منحًى آخر، وكأنها تصر على القول بأن ما يسرد هنا هو حقيقي، وبأن هذا الواقع الذي يسرد على المتلقين أكبر وقعا وتأثيرا من فعل التخييل الذي يعمد إليه الروائيون. مهما يكن من أمر فإن المتلقي يتعامل مع الأحداث وفق قدرة النص على الإقناع، فالطريقة التي نتصور فيها العالم الواقعي لا تختلف عن الطريقة التي نتصور فيها الوقائع الممكنة التي تطرحها عملية التخييل، وفق رؤية أمبرتو إيكو.
إن أحد أهم أهداف العمل التخييلي هو انتزاع القارئ من قيود الواقع والتحرّر منه والعيش في “واقع” يمكن للقارئ أن يحلق معه. تحاول العامري أن تأخذ القارئ من واقعه إلى واقع آخر كل ما فيه “حقيقي”، وكي لا يفلت من هذه الحقائق صوب الخيال فإنها سرعان ما تعيده إلى أماكن وأحداث ذكرتها كتب التاريخ أو سمع مثيلا لها من الكبار في السن. ولكن هل يعني ذلك أنها تكتب توثيقا أو تأريخا؟
لا شك أن العامري، كما يشير تصريحها، قد تأثرت بحقيقة ما حدث بين “صبحي” و”شمس”، وبما حدث لعائلتيهما، وبالتالي بما حدث مع والدها في زيارته بيته في يافا وعدم السماح له بالدخول، وبما حدث لفلسطين كل فلسطين. إن عملية الكتابة حول هذه التجربة الخاصة والعامة هي بلا شك عملية “استشفائية”، وكل كتابة لها دافع استشفائي، منذ غابر الأزمان، كما يقول إيكو، إذ يلجأ الكاتب إلى التفريغ والتحرر من الهموم. ويضيف أن كتابة السردية هروب من العالم الفوضوي نحو العالم المنظم؛ فالكتابة السردية تسعى إلى تنظيم الأفكار وطرحها بطريقة يراها المؤلّف قادرة على تحريك القارئ، وبالتالي تصبح عملية الكتابة عملية إبداعية لأنها آثرت الانزياح عن التاريخية ومالت نحو التخييل.
لقد متحت سعاد العامري أحداث روايتها من الواقع، كما أشارت، وكما بينّا أعلاه، لكن الأحداث الواقعية مبعثرة عبر أمكنة وأزمنة وشخصيات متعددة، وبالتالي ظلت “ميتة” حتى قامت هي بجمعها وتنظيمها وربطها ببعضها البعض موظّفة تقنيّات عدة لإحيائها عبر التخييل. تبدأ الرواية بسرد قصص من حياة أهل يافا اليومية، وفيها سلسلة من الأحداث العادية، ولكنها كانت عبارة عن تمهيد لما سيأتي، إذ يبث الراوي بعض الحكايات هنا وهناك عن الجنود البريطانيين، وعن تعاون الانتداب البريطاني وممثليه مع الجالية اليهودية، ومع القادمين الجدد من اليهود، ويتطرق إلى بعض النقاشات بين المواطنين العرب، فيطّلع القارئ على الخلفية التاريخية والتوترات في العلاقات بين اليهود والعرب، وبين بعض الثوار والبريطانيين، واختلاف وجهات النظر بين “الأحزاب” العربية وطريقة التعامل مع حكم الانتداب البريطاني والاستفادة من تجربة ثورة 1936 والإضراب الطويل وحيثياته. وكي تكسر الروائية رتابة مثل هذا السرد “التاريخي” المباشر، أو شبه المباشر فإنها تعمد إلى الحوارات، خاصة وأن الحوار يفتح المجال لتعدد الأصوات، ويفتح النص على عوالم متعددة تتيح للقارئ ان يتقبّل الواقع الروائي. وبما أن سكان يافا ليسوا من طينة واحدة وفيهم تنوع سكاني متعدد الانتماءات الفكرية والثقافية والطبقية فقد عمدت إلى تنويع الشخصيات وانتماءاتهم فانتقلت إلى المقاهي على اختلاف مستوياتها، حتى وصلت إلى المقاهي الشعبية وما يدور هناك من نوادر وطرف وحكايات عن النوادي الليلية التي تنتشر في مدينة تل أبيب المقامة حديثا لليهود إلى جوار مدينة يافا، حيث يقوم بعض الشباب العرب بزيارة هذه الأماكن للتسلية وإشباع الرغبات الجنسية مع زانيات يهوديات، لكن هذه النوادر والطرف فيها قدر كبير من الجِد يعادل المزاح والهزار. وما الهدف من رواية هذه الطرف والنوادر إلا خلق حالة من المفارقة بين و”عي” الشارع العربي العام وبين ما يدور في العلن وفي الخفاء في الجانب الآخر، والتمهيد لما سيأتي من مصائب وويلات.
إن الموضوع الرئيسي للرواية مثقل بالأسى والحزن والألم وفيه من الأحداث ما يبعث على الإحباط والاكتئاب، فمال السرد قليلا، أحيانا، إلى الهزار والتهكم والدعابة وسرد الطرائف بهدف زرع الابتسامة وتخفيف حدة التعاسة والكآبة.
لا يمكن للروائي أن يلتزم بالحدث كما هو على حقيقته ولا أن يقوم بمحاكاة الواقع فوتوغرافيا حتى في كتابة السيرة الذاتية؛ هناك العملية الانتقائية، والعملية السردية بكل مركباتها الفكرية والفنية، وهنا يكمن دور الروائي الأهم في صياغة الحدث، إن عملية اللقاء ببطلي القصة الحقيقيين لم يحوّل السرد إلى سيرة غيرية، بل إن قصة حبهما هي نواة العمل، مثل كثير من الأعمال الروائية التي تستمد أحداثها من الواقع، ثم يقوم الروائي عبر الراوي/ الرواة بعملية التخييل.
ترى العامري أن ما حدث مع هذين الفتيين أكبر بكثير من مجرد قصة غرامية مؤلمة، بل رأت فيها حكاية شعب بأكمله لم يمارس حقه في الحياة كما يمارسه غيره من شعوب الأرض، وبما أنها كتبت الرواية، بداية، باللغة الإنجليزية فقد كان قارئها الضمني هو ذاك الأجنبي الذي لا يمكن محادثته ومحاورته بنفس اللغة والمفاهيم التي نحاور فيها العربي الفلسطيني الذي يرى بعينيه ويسمع بأذنيه حكايات مثل حكاية صبحي وشمس، أو ما هو أصعب من حكايتهما، لكن هذه القصص والحكايات تطوى وتحفظ في الذاكرة ولا تتحول إلى أعمال فنية تخاطب العالم.
آمنت العامري، برأيي، بأن هذه القصص وهذه الحكايات اليومية لا تقل تأثيرا في الآخر عن الأعمال التخييلية والفنية، على اختلافها، شرط أن نحسن سردها وبناءها وتوجيه خطابها للبعيد والقريب، فكتبت بالإنجليزية وترجمته إلى العربية. وأنا على يقين أن الترجمة التي شاركت فيها بشكل شخصي لم تكن طبق الأصل عن النص الإنجليزي ودليلي على ذلك هو اللغة الحوارية المحكية التي لا يمكن أن تؤدي دورها عند القارئ الإنجليزي، كما تؤدي دورها عند القارئ العربي المولود، بالذات، في بلاد الشام.
العامري مسكونة بالتوثيق، وتدرك مدى أهميته، من خلال عملها في ترميم البيوت العربية الفلسطينية، ومن خلال إقامتها مؤسسة “رواق”، وبالتالي جاء عملها الروائي استمرارا للتوثيق المعماري، لكن معمار الرواية له أصوله وله أدواته، كما للمعمار الحجري والطيني أصوله وأدواته. ومهما تمسكت بالتوثيق وبالواقع فإن عملية التخييل تعمل على خلخلة التاريخ وتنظيم الأحداث وفق مقتضيات بناء النص الروائي.
خلاصة
يبدو للقارئ وكأن هذه الرواية تتغيا إثبات فكرة أنّ الواقع قد يكون أصعب من الخيال. فقد بُنيت الرواية على أحداث وقعت بالفعل بين عاشقين مراهقين فرّقتهما النكبة وحالت دون تحقيق رغبتيهما بمتابعة مشوار الحب والزواج وبناء عائلة. قامت الروائية بمقابلتهما في أواخر حياتهما، واستمعت إلى تفاصيل حكايتهما فكانت أكثر قسوة من أي تخييل، فحولت هذه الحكاية إلى حكاية شعب تشتّت وحُرم من أهم مقومات الحياة اليومية البسيطة.
يقول البعض إن أحد أهم دوافع الكتابة هو الاستشفاء، وقد حملت العامري عبء التهجير والطرد والتشتّت، وحرمان الناس حتى من رؤية بيوتهم، فكتبت لتكشف هول “الصدمة” التي تعرض لها الشعب الفلسطيني؛ الطرد من البيت طفلا، والحرمان من العودة عجوزا. الكتابة هي انطلاق الفكر الحبيس إلى حيز التنفيذ؛ “أنا أفكر إذن أنا موجود”. تبدأ الفكرة من هاجس أو هواجس ترافق صاحبها وتلحّ عليه كي تخرج إلى حيز النور بهدف المشاركة والتعميم. والمشاركة مع الغريب أو القريب ميزة إنسانية خاصة به. من هنا يجب النظر بإسهاب في فضاء الرواية الذي يأخذ حيزا واسعا وهاما من عملية السرد، ما يستوجب إقامة دراسة مسهبة تتناول الفضاء أفقيا وعموديا وتحليله من جوانب سوسيولوجية وسيميائية تكشف الإشارات والدلالات وأهمية الوصف التفصيلي لعالم يافا قبل النكبة وبعدها.
لم تتمكن الروائيّة سعاد العامري من التخلص من سلطة الواقع المر الذي أثقل كاهل الصغير قبل الكبير وأتاحت للراوي أن يتدخل من خلال التعليقات المباشرة، فمسّ ذلك بانسيابية الأحداث، ووسم الرواية بالمونولوجية، رغم أن الرواية مبنية من أول سطر حتى آخر سطر على صراع بين طرفين، أحدهما يدافع عن ذاته وعن كيانه والثاني يطل برأسه من خلال أفعال الطرف الأول وتعليقاته، لكنّ جماليات الوصف التي تم توظيفها بمهارة عالية، والتصوير الدقيق الذي ينافس قدرة الكاميرا السينمائية في التقاط مشاهد بذاتها دون غيرها، في لحظات معينة، ودور الحوار في إخراج السرد من رتابته كي لا يغوص في التوثيق ويغرق فيه، فتح باب التأويل على مصراعيه ووضع حدّا لترهل النص الذي كان يطول أحيانا.
لقد جمعت العامري في روايتها بين التأريخ والتوثيق والتخييل، لكن التأريخ والتوثيق بقيا في الخلف، فيما تقدمت العملية التخييلية إلى الأمام وعلت على السطح لتخاطب القارئ المتلقي وتحرّك عواطفه ومشاعره لمتابعة مصائر شخوص الرواية سواء كان ذلك واقعيا أم خياليا.
رياض كامل