“إذا قرأتُ كتابًا وأحسستُ بقشعريرة لا يُمكن حيالها لأيّ نار أن تبعث الدّفء في جسدي، عرَفتُ عندها أنّني إنّما أقرأ شعرًا. وإذا شعرت كما لو أنَّ قمة رأسي لم تعد في مكانها، أدركت أنَّ ذلك هو الشّعر. هذان هما سبيلاي لمعرفة الشّعر، فهل ثمّة سبيل آخر؟ ”
(الشّاعرةُ الأمريكيّةُ إميلي دِكنسُن (Emily Dickinson
تمهيد
تشكّل قصيدة تقدّموا نموذجًا يميّز الأسلوب الفنّيّ في شعر سميح القاسم وخاصّة الإيقاع في القصيدة، للدّلالة على مكوّن من مكوّنات الموسيقا، فالموسيقا من أهمّ العناصر والأدوات البنيويّة في الشّعر، وكثيرًا ما يرتبط الإيقاع بمجالات عديدة، منها الفيزيائيّة، وتكون معانيه مرادفة للسّرعة أو التّناوب أو الزّمن، ومنها مرتبط بظواهر طبيعيّة معروفة مثل إيقاع الرّياح والعواصف، وإيقاع فصول السّنة، فللمطر إيقاع وللخريف إيقاع وللنّباتات والأشجار إيقاعها وللحيوانات إيقاعها، وهكذا. نتساءل: هل للأحاسيس إيقاع؟ هل للمحبّة إيقاع؟ هل للغضب إيقاع؟ هل للحزن إيقاع؟ طرحنا لهذه التّساؤلات يعني أنّنا نؤمن بها. للقلب إيقاعات تكون حسب حالة الإنسان النّفسيّة، فتختلف نبضات الإنسان في حالة الحبّ عنها في حالة الغضب. وللرّئتين إيقاع التّنفّس الخاصّ بها، فسرعتها تتغيّر حسب الحالات النّفسيّة، وللدّورة الدّمويّة سرعة تتغيّر هي الأخرى حسب حالة الإنسان النّفسيّة. كّل هذا موجود عند الشّعراء والكتّاب بل ضروريّ.
ليئة غولدبرغ، شاعرة وباحثة في الأدب، تقول في مدخل خمسة فصول في أساسيات الشّعر: “للكلمة في القصيدة دور مضاعف في اللّون والأنغام، الكلمة ترسم وتعزف في الوقت نفسه” (غولدبرغ، 1966 ص 29).
الشّعر هو التّردّد الدّائم بين النّغمة والمضمون، من هنا تنبع أهمّيّة موسيقا الشّعر. فالشّعر هو لغة منفصلة، أو على وجه التّحديد هو لغة داخل اللّغة. معنى ذلك أنّ العربيّة، على سبيل المثال، هي اللّغة الاعتياديّة بالنّسبة لأيّ ناطق بها، وفي مكان ما داخل حدود هذه اللّغة ثمّة لغة أخرى هي “لغة الشّعر” الّتي يستخدمها بعض أبناء العربيّة أو بناتها، وحسب هذا التّعريف، يمكن مثلًا الحديث عن سميح القاسم وغيره على أنّهم أفراد كتبوا بلغة الشّعر، ومعنى هذا أيضًا أنّ من يريد أن يوصف بهذا الوصف عليه أن يمتلك جملة من المؤهّلات الضّروريّة: اللّغة المتدفّقة، والملكة التّعبيريّة الفذّة، والخيال المبدع، والقدرة على الخروج من فلك الكلمات إلى فضاءاتها الدّلاليّة والإيحائيّة الرّحبة، والإحساس بموسيقا الأصوات وإيقاع العبارات، إلخ. ففي ذلك ما يمكّنه من عبور لغته الاعتياديّة إلى لغة الشّعر ومملكته” (عبد الصّاحب، 2011، ص 238).
الشّعر أن تسمع صوت الحالة بالأحرف، إن قلت ماء اسمع خريرًا، وإن قلت اختناق أسمع قعقعة، إن تذكر عاصفة أسمع سادسة بيتهوفن، إن تذكر القدر أسمع أنغام الخامسة، إن تكتب عن السّعادة أسمع كورال التّاسعة، إن تكتب عن رجل عظيم أسمع أنغام الثّالثة للموسيقيّ العظيم، إن تكتب عن أحاسيسك، أسمع إيقاعات قلبك، في الشّعر أسمع أنين ناي في الحزن، وأسمع تصفيقًا عند الفرح، الشّعر لغة داخل اللّغة.
مدخل إلى القصيدة
عرفت هذه القصيدة بقصيدة الانتفاضة والمشهورة بعنوان “تَقَدَّمُوا” وهي الجملة الاستهلاليّة لها، واخترتها نظرًا لسياقها التّاريخيّ، فهي وليدة الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى أو انتفاضة الحجارة الّتي بدأت في 8 كانون أوّل 1987 واستمرّت حتّى 13 أيلول 1993، وكانت شكلًا من أشكال الاحتجاج والنّضال الفلسطينيّ ضدّ الاحتلال الإسرائيليّ، وأُطلق عليها هذا الاسم نظرًا لما تحمله من معانٍ سامية وأفكار نضاليّة تتحدّى المُحتلّ الإسرائيليّ أراد الشّاعر نقلها إليه حتّى سمّيت “رسالة إلى غزاةٍ لا يقرأون“، فضلًا عن كونها نصًّا شعريًّا نعتبره نموذجًا زاخرًا بكلّ ما تسعى إليه الوظيفة الفنّيّة للغة الشّعر كلغة داخل اللّغة.
كتب سليم الحسني: في «قصيدة الانتفاضة» للشّاعر سميح القاسم نقرأ خطابًا حماسيًّا ساخنًا، يحاول الشّاعر أن يستوعب فيه حدث الانتفاضة، من خلال إخضاعه حالة التّصادم بين الطّرفين. وقد توفّر القاسم في خطابه على حسّ ثوريّ متحدٍّ، حرص على أن يكون بدرجة الانتفاضة نفسها، من حيث قوّة الموقف وسرعة الحركة وسعة الآثار (جريدة البناء، 2021).
القصيدة نصّ حيّ للتّحدّي الّذي يعلنه الشّاعر والنّاتج عن عمق الانفعال والتّوتّر الشــّعوريّ الغاضب إزاء الأحداث المصيريّة الّتي يعيشها شعبه الفلسطينيّ، الّذي يرزح تحت الاحتلال. ورغم بســاطتها ووضوحها ومباشرتها، هي تمثّل صرخة يطلقها الشّاعر ضدّ العامل الأساسيّ في هذا الوضع ألا وهو الاحتلال الإسرائيليّ للأراضي الفلسطينيّة.
عندما نقرأ هذه القصيدة نجد أنّ سميح القاسم نسجها في لغة شعريّة وأساليب فنّيّة تستجيب لمضامينها، والّتي أراد أن يعبّر عنها. تعبّر هذه القصيدة عن تجربة شعريّة كبيرة وعن شاعر ملتزم ومنتمٍ لشعبه الفلسطينيّ، وفيها يعبّر عن أحاسيسه ومشاعره الدّاخليّة ويجعل مــن الكلمات والإيقاع والأساليب الأخرى قوّة فاعلة لتنمية الانتماء عند المتلقّي. سوف نسلّط الضّوء علی الأساليب الفنّيّة لهذه القصيدة الّتي تسهم إسهامًا كبيرًا في التّعبير عن المضامين، وفي خلق أجواء تثير المتلقّي ويتقبّلها ويتغنّى بها.
نرى في القصيدة صمود الشّعب الفلسطينيّ في وجه الاحتلال وعدم استسلامه، نرى تحدّيًا شجاعًا لجيش الاحتلال بأن يتقدّموا، ويتوعّد المحتلّين بأنّ المنتفضين سيوقعونهم في جحيم، ولن يستسلم أحد من أبناء الشّعب الفلسطينيّ أمام جيش الاحتلال الّذي يستعمل أسلحة فتّاكة: ناقلات جنود وراجمات، والشّعب الفلسطينيّ يقف صفًّا واحدًا في مواجهة الاحتلال: الأطفال والشّيوخ والأمّهات والأبناء.
الأساليب الفنّيّة في القصيدة
- أسس دراميّة
في الأسس الدّراميّة نجد أمرين هامّين: تعدّد الأدوار وتعدّد الأصوات.
تعدّد الأصوات: أسلوب تعدّد الأصوات يميّز المشاهد الدّراميّة، فالقصيدة في هذه الحالة تحتوي على مشاهد عديدة ويزداد تأثيرها على المتلقّي ممّا يجعلها تنقل الحالات الشّعريّة محمّلة بأجواء نفسيّة تشدّ المتلقّي وتدهشه.
يُقصد بتعدّد الأصوات تحاور وتفاعل عدّة جهات (شخصيّات – فعاليّات) داخل القصيدة، لا جهة واحدة، ممّا يؤدّى إلى الاشتباك والتّداخل مع نوع أدبيّ قديم ومعروف وهو “الدّراما”. وقد يقصد الشّاعر إلى ذلك بصورة مباشرة، حيث ينصّ على مفردات معروفة وتسميات معهودة في هذا النّوع الأدبيّ (السّروري، 2020).
نجد في قصيدة الانتفاضة ثلاثة أدوار، ولكلّ دور صوته كما يلي:
- دور الشّاعر المتكلّم Narrator Role)) وهو القائد.
- دور الجوقة Chorus) – (Collective character وهم جنود القائد.
- دور الحضور (Role Viewers) وهم شعب القائد.
قصيدة الانتفاضة [رسالة إلى غزاةٍ لا يقرأون]
القائد:
تَقَدَّمُوا. تَقَدَّمُوا!
جنود القائد:
كُلُّ سَـمَاءٍ فَوْقَكُمْ جَهَنَّمٌ
وَكُلُّ أَرْضٍ تَـحْتَكُمْ جَهَنَّمُ
القائد:
تَقَدَمُّوا
الشّعب:
يَـمُوتُ مِنَّا الطِّفْلُ وَالشَّيْخُ
وَلاَ يَسْتَسْلِمُ
وَتَسْقُطُ الْأُمُّ عَلَى أَبْنَائِهَا الْقَتْلَى
وَلاَ تَسْتَسْلِمُ
القائد:
تَقَدَّمُوا
بِنَاقِلَاتِ جُنْدِكُمْ
وَرَاجِـمَاتِ حِقْدِكُمْ
جنود القائد:
وَهَدِّدُوا
وَشَرِّدُوا
وَيَتِّمُوا
وَهَدِّمُوا
الشّعب:
لَنْ تَكْسِرُوا أَعْمَاقَنَا
لَنْ تَـهْزِمُوا أَشْوَاقَنَا
نَـحْنُ قَضَاءُ مُبْرَمُ
القائد:
تَقَدَّمُوا
طريقُكُمْ وراءكم
وغَدُكُمْ وراءكم
وبحرُكم وراءكم
وبرّكُم وراءكم
الشّعب:
ولم يزلْ أمامَنا
طريقُنا وغدُنا وبرُّنا وبحرُنا
وخيرُنا وشرُّنا
فما الّذي يدفعكم من جثّةٍ لجثّةْ
وكيف يستدرجكم من لَوْثةٍ
للوثةْ
سِفْرُ الجنونِ المُبهمُ
القائد:
تَقَدَّمُوا
جنود القائد:
وراء كلّ حجرٍ كفٌّ
وخلف كلِّ عشبةٍ حتفٌ
الشّعب:
وبعدَ كلِّ جثّةٍ فَخٌّ جميلٌ مُحكَمُ
وإنْ نجتْ ساقٌ
يظلُّ ساعدٌ ومعصَمُ
القائد:
تَقَدَّمُوا
جنود القائد:
كُلُّ سَـمَاءٍ فَوْقَكُمْ جَهَنَّمٌ
وَكُلُّ أَرْضٍ تَـحْتَكُمْ جَهَنَّمُ
القائد:
تَقَدَّمُوا
الشّعب:
حرامُكُمْ مُحلّلٌ
حلالُكُم مُحرّمُ
القائد:
تَقَدَّمُوا
بشهوةِ القتلِ الّتي تقتُلُكم
جنود القائد:
وصوِّبوا بدقّةٍ لا تَرْحَمُ
وسدِّدوا للرحّم
إنّ نُطفةً من دمنا
تضطرمُ
القائد:
تَقَدَّمُوا
كيف اشتَهيتُم واقتلوا
الشّعب:
قاتِلُكُم مُبَرَّأٌ
قتيلُنا مُتّهَمٌ
ولمْ يَزَلْ ربُّ الجنودِ قائمًا وساهرًا
ولمْ يَزَلْ قاضي القضاةِ المجرمُ
القائد:
تَقَدَّمُوا
الشّعب:
لا تفتحوا مدرسةً
لا تُغلقوا سجنًا
ولا تعتذروا، لا تحذروا
لا تفهموا
جنود القائد:
أوَّلُكمْ آخِرُكمْ
مؤمِنُكمْ كافِرُكُمْ
وداؤكم مُستحكِمُ
القائد:
فاسترسلوا
واستبسلوا
واندفعوا
وارتفعوا
واصطدموا
وارتطموا
لآخِرِ الشّوطِ الَّذي ظلّ لكُمْ
وآخِرِ الحبلِ الَّذي ظلّ لكُمْ
فكُلُّ شوطٍ ولهُ نهايةْ
وكُلُّ حبلٍ ولهُ نهايةْ
الشّعب:
وشمسُنا بدايةُ البدايةْ
القائد:
لا تسمعوا/ لا تفهموا/ تَقَدَّمُوا
جنود القائد:
كُلُّ سَـمَاءٍ فَوْقَكُمْ جَهَنَّمٌ
وَكُلُّ أَرْضٍ تَـحْتَكُمْ جَهَنَّمُ!!
الشّعب:
لا خوذةُ الجنديِّ
لا هراوةُ الشّرطيِّ
لا غازِكُم المُسيلِ للدُّموعْ
القائد وجنود القائد والشّعب:
غَزّةُ تُبكينا
لأنّها فينا
ضراوةُ الغائبِ
في حنينِه الدّامي إلى الرّجوع
القائد:
تَقَدَّمُوا
مِنْ شارعٍ لشارعٍ
الشّعب:
مِنْ منزلٍ لمنزلٍ
مِنْ جثّةٍ لجثّةٍ
القائد:
تَقَدَّمُوا
جنود القائد:
يصيحُ كُلُّ حجرٍ مُغتَصَبٍ
تَصرخُ كُلُّ ساحةٍ مِنْ غَضبٍ
يضجُّ كُلُّ عَصَبٍ:
الشّعب:
الموتُ … لا الرّكوعْ
موتٌ … ولا رُكوعْ!
القائد:
تَقَدَّمُوا
جنود القائد:
ها هو ذا تقدّم المخيّمُ
تقدّم الجريحُ والذّبيحُ والثّاكِلُ
والمُيتّمُ
الشّعب:
تقدّمت حجارةُ المنازلْ
تقدّمت بكارةُ السّنابلْ
تقدّم الرُّضَّعُ والعُجَّزُ والأراملْ
القائد وجنود القائد والشّعب:
تقدّمت أبوابُ جنين ونابلس
أتت نوافذُ القدسِ صلاةُ الشّمسِ
والبخورِ والتّوابلْ
تقدّمت تُقاتلْ!
تقدّمت تُقاتلْ!
القائد:
لا تسْمعوا
لا تفهموا
القائد وجنود القائد والشّعب:
تَقَدَّمُوا
كُلُّ سَـمَاءٍ فَوْقَكُمْ جَهَنَّمٌ
وَكُلُّ أَرْضٍ تَـحْتَكُمْ جَهَنَّمُ
(القاسم، 1993، ص 408-409)
- الاستدارة
اِفتتح الشّاعر القصيدة وأنهاها ب:
“تَقَدَّمُوا
كُلُّ سَـمَاءٍ فَوْقَكُمْ جَهَنَّمٌ
وَكُلُّ أَرْضٍ تَـحْتَكُمْ جَهَنَّمُ”
وجاء نفس المقطع في وسط القصيدة للتّوكيد. في هذا الأسلوب يكون غالبًا المضمون وجدانيًّا يريد الشّاعر أن يحتضنه كاحتضان أيّ شيء نحبّه، ونريد تأكيده والتّأثير على المتلقّي.
- الثّنائيّة الضّدّيّة
الثّنائيّة الضّديّة تعني تواجد أمرين أو قضيّتين أو قيمتين في آن واحد، غالبًا ما يكونان متعاكسَين، مثل: النّور والظّلام، الخير والشّرّ، الذّكر والأنثى. والثّنائيّون هم الذين يقولون بأصلين للوجود مختلفَيْن تمام الاختلاف، لكلِّ منهما وجود مستقلّ في ذاته، وبدون هذين الأصلين لا يمكن فهم طبيعة الكون، الّذي تتصارع فيه القوى المتضاربة، الّتي ينتمي بعضها إلى أحد المبدأين، وينتمي البعض الآخر إلى المبدأ الآخر، ممّا يعني أنّ حقيقة الوجود تنطوي على انقسام داخليّ وتقابل ضروريّ دائم بين أصلين، لكلٍّ منهما قوانينه وأطواره الزّمنيّة الخاصّة به، وأوّل من صاغ المصطلح حديثًا هو W. D. Hart .(Hart, 1996, 265-267)
الثّنائيّة الضّدّيّة في قصيدة الانتفاضة هي “طباق حقيقيّ” وهو ما كان طرفاه لفظين مُتضادّين في الحقيقة، وأن يُؤتى بألفاظ تدلّ على معناها الحقيقيّ، ويكون هذا النّوع من الطّباق بين صور مختلفة، فهو بين فعلين أو اسمين، أو حرفين أو مختلفين، والطّباق يكثّف المعنى ويبرزه عن طريق إبراز الضّدّيّة، وقد ورد الطّباق كثيرًا في القصيــدة، وله أثر في إحداث جرسٍ موســيقيّ، مثل:
- “حرامُكُمْ مُحلّلٌ
حلالُكُم مُحرّمُ”
- مُبَرَّأٌ – مُتّهَمٌ
- لا تفتحوا -لا تُغلقوا
- أوَّلُكمْ -آخِرُكمْ
- مؤمِنُكمْ –كافِرُكُمْ
- سماء – أرض، بحر – برّ، خير – شرّ، فوق – تحت.
- التّصالب Chiasmus
هو عبارة عن ترتيب مقلوب للتّعابير بين جملتين، أو بين صدر بيت الشّعر وبين عجزه. هذه المقابلة تخلق ضدّيّة قويّة وكثيفة جدًّا.
- “حرامُكُمْ مُحلّلٌ
حلالُكُم مُحرّمُ “.
التّصالب على شكل x بين حرامُكُمْ ومُحرّمُ وبين مُحلّلٌ وحلالُكُم.
- التّكرار
تمتاز هذه القصيدة بالتّكرار كأسلوب تعبيريّ لإبراز التّحدّي وتأكيده وتكثيفه ولزيادة التّرغيب في الشيء، لاستمالة المخاطب، لتناسق الكلام، للحثّ، لإثارة روح التّحدّي في نفس المخاطب، للتّهويل، وغيرها. ويحدث ذلك بذكر الجملة مرّتين أو ثلاث مرّات فصاعدًا. في هذا النّصّ نجد تكرارًا للّفظة الواحدة في أوائل جمل متعاقبة غرضها بلاغيّ، ويسمّى تكرار الصّدارة أو التّكرار الاستهلاليّ (Anaphora)، ويراد به إثارة التّوقّع لدى المتلقّي، وتأكيد المعاني وترسيخها في ذهنه، كما يلي:
- كلمة “تقَدَّمُوا” – 15 مرّة
- كلمة “تقدّم” – 33 مرّات.
- كلمة تقدّمت – 5 مرّات.
أضف إلى ذلك تكرار متتالٍ ” تَقَدَّمُوا. تَقَدَّمُوا!” للتّوكيد.
يجدر بنا الإشارة إلى الوظيفة الإيقاعيّة للتّكرار إذ يساهم في بناء إيقاع داخليّ يحقّق انسجامًا موسيقيًّا خاصًّا.
- اِستخدام الأفعال
يأتي استخدام الأفعال في خدمة معنى النّصّ والتّذوّق الجماليّ له، وإبراز الطّاقة النّاتجة من تكرار الأفعال ما يجعل القصيدة تنبض بالحركة.
الفعل الماضي: من دلالاته في النّصّ:
- يدلّ على تحقّق الأمر وثباته.
- يساهم في إقناع المتلقّي أنّ الأمر صار واقعًا.
- يساهم في سرد الحوادث والذّكريات.
وردت الأفعال: تقدّم 3 مرات، وتقدّمت 5 مرّات للدّلالة على تحقّق الأمر.
الفعل المضارع: يدلّ على الاستمرار والتّجدّد في موضوع النّصّ.
وردت الأفعال: يَـمُوتُ وَتَسْقُطُ للاستمرار والتّجدّد، والفعل “لا يستسلم” للتّوكيد، والأفعال لن تكسروا ولن تهزموا تفيد الرّفض والتّحدّي.
الفعل الأمر: ينقل الحالة الانفعالية للشّاعر، وقد يعكس الالتماس أو الدّعاء أو التمنّي أو الطّلب.
وردت الأفعال الأمر التّالية: تَقَدَّمُوا 15 مرّة، وَهَدِّدُوا وَشَرِّدُوا وَيَتِّمُوا وَهَدِّمُوا وصوِّبوا وسدِّدوا، فاسترسلوا واستبسلوا واندفعوا وارتفعوا واصطدموا وارتطموا.
- الاستعارة
هي مجاز لغويّ يشير إلى علاقة التّشابه بين المعنى الحقيقيّ والمعنى المستعار. وظّف سميح القاسم الاستعارة للدّلالة على معاناة الشّعب الفلسطينيّ وإبراز هذه المعاناة وتأكيدها بصورة شعرية مثيرة. يقول الشّاعر: وَرَاجِـمَاتِ حِقْدِكُمْ – لَنْ تَكْسِرُوا أَعْمَاقَنَا – لَنْ تَـهْزِمُوا أَشْوَاقَنَا – يصيحُ كُلُّ حجرٍ مُغتَصَبٍ – تَصرخُ كُلُّ ساحةٍ مِنْ غَضبٍ – يضجُّ كُلُّ عَصَبٍ.
- السّخرية
السّخرية هي طريقة تعبير، يستعمل فيها الكاتب تعابير تعكس المعنى بعكس ما يقصده المتكلّم حقيقة. وهي من طرق النّقد، وهي تثير الضّحك والاستهزاء، والهدف الأساسيّ للكاتب هو النّقد، وهو تصوير لحالة أو لشخص أو لمكان ولكلّ شيء تصويرًا مضحكًا، وأحيانًا لتضخيم النّواقص والعيوب، وكلّ ذلك بطريقة خاصّة غير مباشرة.
يقول رياض كامل: “هذه القصيدة نموذج للأسلوب السّاخر الغاضب، حيث يوظّف الشّاعر المفارقة بشكل بارز من خلال تكثيف أفعال الأمر والطّلب الموجّهة للمخاطَب بما فيها من تحدٍّ بين الأنا/نحن وبين أنت/أنتم، فيبرز التّضادّ في أوضح صوره بين المخاطِب والمخاطَب، كلّ من موقع مناقض للآخر. (كامل، 2020، ص7).
خاتمة
قمنا في هذه المقالة بدراسة الأساليب الفنّيّة في قصيدة الانتفاضة “تَقَدَّمُوا” لسميح القاسم نظرًا لأهمّيّتها كنموذج يميّز الأسلوب الفنّيّ في شعره وخاصّة الإيقاع في القصيدة. وجدنا أنّ القصيدة دراميّة وملائمة لمسرحتها كمسرحية غنائيّة متعدّدة الأدوار والأصوات. تطرّقنا أيضًا إلى الأساليب الفنّيّة التّالية: الاستدارة، الثّنائيّة الضّدّيّة، التّصالب، التّكرار، اِستخدام الأفعال، الاستعارة والسّخرية.
من يقرأ شعر سميح القاسم منذ بدايته الإبداعيّة، وصولًا الى قصيدة الانتفاضة يصل إلى نتيجة مفادها أنّه كان يسعى دائمًا إلى التّعبير عن غضبه بشكل إنسانيّ، مع رؤية قوميّة نابعة من إيمانه بحق الإنسان ليعيش بكرامة، وهذا ما يتّضح من خلال مضامين شعره منذ البداية. لقد فعل هذا بأساليب عديدة. هذه الأساليب كانت مثيرة للقارئ ومريحة له ممّا جعلها مقبولة عليه، وهذا يعني أنّ شاعرنا أصاب أهدافه الّتي صوّب شعره نحوها.
المراجع والمصادر
جريدة البناء. (2021). قراءة في «قصيدة الانتفاضة» للقاسم. البناء.
https://www.al-binaa.com/archives/article/12563
السّروري، صلاح. (2020). تعدّد الأصوات: المشهد الدّراميّ في شعر أمل دنقل. الكاتب. https://alketaba.com
عبد الصّاحب، مهدي عليّ. (2011). في مفهوم الشّعر ولغته: خصائص النّصّ الشّعريّ. مجلّة جامعة الشّارقة للعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة. 8(3)، 237-257.
القاسم، سميح. (1993). الأعمال الکاملة: المجلد الثّالث. الکويت: دار سعاد الصّبّاح.
غولدبرغ، ليئة. (1966). خمسة فصول في أسس الشّعر. تل-أبيب: مكتبة بوعليم.
كامل، رياض. (2020). قراءة تمهيديّة في شعر سميح القاسم. جريدة الاتّحاد، حيفا، 15.5.2020.
Hart, W. D. (1996). Dualism. In Samuel Guttenplan (Ed.), A Companion to the Philosophy of Mind (265-267). Oxford: Blackwell.