الوقفة الأولى… مع غسّان كنفاني
وُسم الملتقى هذه السنة بفعاليّات مختلفة بمناسبة مرور خمسين عامًا على ارتقاء الأديب الفلسطينيّ؛ غسّان كنفاني. وحسبما رشح أقيمت فعّاليّات مختلفة في مناطق السلطة الفلسطينيّة وأخرى أقامتها وزارة الثقافة الفلسطينيّة بالتعاون مع مؤسّسة الأسوار- عكا. نجوم الأمسيات هذه من الدول العربيّة كانوا؛ الكاتبة رزان إبراهيم رئيسة لجنة تحكيم جائزة غسّان كنفاني، فلسطينيّة – أردنيّة. الكاتب واسيني الأعرج، الجزائر، لم يحضر (لأسباب فنيّة على ما أظنّ وبعض الظنّ إثم). الكاتب أحمد المدينيّ، المغرب، حضر. الكاتب زهير الجزائريّ، عراقيّ، لم يحضر (كذلك).
الوقفة الثانية… مع التطبيع.
كنا نحن الاتّحاد العام للكتّاب الفلسطينيّين – الكرمل48 طرحنا موضوع التطبيع في زاوية حواريّات على مدوّنتا الإلكترونيّة www.alkarmel48.com وقد ساهمتُ في ذلك الحوار بمداخلة حملت العنوان: “التطبيع والفاعل والمفعول معه”، وممّا كتبت:
“أعتقد أن التطبيع كمصطلح أُطلق على العلاقة مع كلّ ما في إسرائيل ومع كلّ من في إسرائيل، واعتُمد بعد اتفاقيات السلام مع مصر ومن ثمّ مع الأردن، و”الفاعل” هم نُخبٌ سياسيّة ونقابيّة وثقافيّة في هذين البلدين ولحقتهم نُخبٌ في دول أخرى من العالم العربيّ التي فتحت أبوابها لإسرائيل ودون اتفاقيّات سلام، ونحن صرنا في هذا السياق وما زلنا “المفعول معه” سياسيّا ونقابيّا وثقافيّا، حاملين وزر بقائنا!”
وأضفت: “الغالبيّة العظمى من أصحاب مواقف “عدم التطبيع” في العالم العربيّ سياسيّا وثقافيّا، حسمت القضيّة في صالح استثنائنا والتواصل معنا سياسيّا وثقافيّا، اللّهم إلا أنها اقتصرت ذلك على منابرها هي وفي رحاب بلدانها، ليظلّ السؤال الشاغل لنا نحن: هل اعتلاؤهم منابرنا نحن في حيفا والناصرة ويافا تُعدّ تطبيعا؟!”
وأردفت: “واضح أن القضيّة بالنسبة لهم ليست حيفا والناصرة ويافا، القضيّة هي إسرائيل المحتلّة كامل التراب الفلسطينيّ من النهر إلى البحر، ولن يلطّخوا جوازات سفرهم بختم شرطة الحدود الإسرائيليّة، ففي ذلك اعتراف بطبيعيّة ما هو غير طبيعيّ. لو تعمّقنا في هذا الكلام لوجدنا أنّ الاعتراف قائم نظريّا ولكن بحكم الأمر الواقع وغصبا و-“ما في اليد حيلة”، ولكنّ الزيارة هي الاعتراف بطبيعيّة غير الطبيعي أو تطبيعا وهذا يعني الاعتراف فعليّا.”
بغضّ النظر عن هذا الكلام والموقف ووجهات النظر، أكثر من شرعيّ هو السؤال: هل في وصول هؤلاء “النجوم” أراضي ال48 تطبيعًا؟! وهل خرجوا بذلك عن الموقف الغالب، على ما أعتقد، بين الأدباء العرب؟! ولماذا خرجوا؟! وهذا بغضّ النظر عن فحوى محاضراتهم وعينيّا المديني والتي بيّنتْ محاضرته كم يجهل الرواية الثمانوأربعينيّة، وأتحفنا بأن “زفّ” لنا أنّ المغرب قد أدخل غسّان كنفاني للمنهاج الدراسيّ الثانويّ!
الوقفة الثالثة… مع المعلومة وأشياء أخرى والسطو عليها.
ما دمنا في ملتقى فلسطين للرواية، فالكلّ يرى مؤخّرًا السيل “العرمرم” من الروايات إلى درجة أن لم يقوَ الشعراء في الوقوف بوجهه فشدّهم أو أغراهم فركبوا السيل وليس دائمًا بالأدوات الملائمة فجاء ركوبهم مهتزّا (أقول ذلك كقارئ ومن باب حريّة القول)، ويبدو أنّ في ذلك لعبرة!
بغضّ النظر ولعلّ من يفيدنا إجابة على الأسئلة: إلى أيّ مدى يستطيع الروائي التدخّل في المعلومة التاريخيّة التي ينقلها؟! وهل يشفع له التخييل أو التخيّل أو الخيال أن يقتبس و\ أو يترجم المصدر وكلّ ذلك دون الإشارة إليه؟! وإذا كانت الرواية تاريخيّة، إلى أي مدى يستطيع الراوي أن يستعمل المادّة التاريخيّة نادرة المصدر، وقيّض له أن يطّلع عليها ظانّا أنّ غيره لم يفعل؟! ومتى يتخطّى الاستعمال الحدّ الفاصل بين الاعتماد والسطو؟!
أطرح هذه الأسئلة استنكاريّا وليس لكي أجيب عليها (أترك ذلك للنقّاد) أطرحها وقد تناوبت على عقلي كثيرّا في السنوات الأخيرة وفي خضمّ قراءاتي ما استطعت التقاطه من السيل. وعلى سبيل المثال، كنت قرأت في أواخر الثمانينيّات كتاب بالعبريّة للكاتبة الشيوعيّة الإسرائيليّة، روت لوفين (لوفيتش)، عنوانه: “المستقيمون كانوا معها – إسبانيا 1936-1939″، يحكي الكتاب قصّة قرابة ال-300 متطوّع “أرض إسرائيلي” بمصطلح الكتاب، ومنهم حوالي ال-30 امرأة وبعض شباب من الأرمن، وعربيّان يسرد الكتاب سيرة تطوّعهما مع صورتيهما وقصّتيهما مثلما قصّها رفاقهم اليهود في الرسائل التي تبودلت مع ذويهم وتعتمدها الكاتبة اقتباسًا، هما؛ عليّ عبد الخالق التوبني (الجُبلي)، وفوزي صبري النابلسي.
تذكّرت الكتاب يوم قرأت رواية محليّة أخذت لها حيّزًا واسعًا في المشهد الروائي المحلّي وأكثر، وفي هذا السياق لا يهمّني اسمها ولا اسم كاتبها فليس إلى هنالك أورد إبلِي، أسوقها مثالًا ومرجعًا للتساؤلات أعلاه.
كتاب روت ليفين هذا هو محاولة للإجابة على السؤال الذي طرحَتْه في المقدّمة: “كيف ولماذا تطوّع قرابة ال300 شابّ وشابّة (قرابة ال30 شابّة)، يهودًا وعربًا، من البلاد…، وعدد منهم بقي مدفونًا في أراضي إسبانيا…؟”.
وتكتب الآتي عن أحد المتطوّعين(ترجمة): “بين الأرض إسرائيليّين الذين عرفتهم لفت انتباهي رفيقان عربيّان، واللذين طلبا بشدّة أن يشملوهما مع الرفاق من البلاد في اللواء على اسم نفتالي بوتوين. الرفيق عليّ عرف جيّدا اللغتين الإيدشيّة والروسيّة. كان طويل القامة وليس شابّا… كان صاحب فهم (إدراك) عميق في السياسة، إنسان صموت وصاحب ثقافة واسعة، كما يتلاءم وقائد شيوعيّ.”
وتضيف في ص134-135: “هل جئنا إلى هنا كي نموت؟! “هجوم كبير للجيش الجمهوري في أسترامدورا: في الهجوم تشارك الكتيبة على اسم نفتالي بوتوين وفيها متطوّعون كُثر من البلاد، بينهم علي عبد الخالق، عضو اللجنة المركزيّة للحزب الشيوعي الفلسطيني، في الماضي خبّاز في القدس، والذي قضى سنوات في السجن الانتدابي… والآن وبعد أن عرفتهما عن قرب، فهمت، لماذا أصرّ علي وفوزي بشدّة على طلبهم الانضمام للفرقة الأرض- إسرائيليّة في لواء بوتوين: هما أرادا أن يكونا مع الناس الذين بالنسبة لهم التضامن الأممي هو أمر طبيعيّ ومفهوم ضمنًا وأنّ اليهودي، العربي، …، الإسباني و … يجب أن يكونوا معًا كعائلة واحدة…”.
وتضيف: “في جبهة أسترامدورا في الهجوم الأوّل للواء بوتوين، جُرِح الرفيق عليّ جرحًا بليغًا وبعد يومين في المستشفى الأممي في ألابَسيتِهْ (البسيط) أسلم روحه في ذراعي صديقته للنضال، حانّا، من أرض إسرائيل، والتي كانت ممرّضة في ذاك المستشفى. وقد دُفن في احتفاء عسكريّ في المقبرة في بلدة ألابسيتة. ولم يُسمع لاحقًا صوت علي يترقرق بأغاني الاشتياق لتحرير بلده…”
هذا الكلام نجده وغيره مترجمًا في الرواية المحليّة المشار إليها أعلاه وبنفس الكلمات. والمعلومات هنالك وغيرها مترجمة حرفيّا، وحتّى العنوان مشتقّ من العنوان، وكلّ ذلك دون الإشارة إلى صاحبة الكلام والكلمات والمعلومات ولا مصادرها، فهل هذا توارد أفكار، أو يحقّ للروائي ما لا يحقّ لغيره؟!
الوقفة الرابعة… مع الملتقى والاتّحاد العام الكرمل48
حقيقة هي ناجزة، عدّة وعددًا، أنّ الاتّحاد العام للكتّاب الفلسطينيّين – الكرمل 48 هو الإطار التنظيميّ والجسم الأكبر والأغنى في المشهد الثقافيّ الفلسطينيّ في ال48. فعددًا؛ نحن اليوم 143 كاتبًا وكاتبةً (كان هذا 157 يوم كُتب المقال وللتقيّة ملعونة الوالدين لم ينشر حينها أمّا اليوم فالعدد 157 عضوًا) من خيرة الكتّاب والكاتبات وفيهم روائيّون من الصفّ الأوّل. وعدّة؛ نحن الجسم الثقافيّ الوحيد الذي في عدّته: فصليّة ثقافيّة تصدر للسنة الثامنة تواليًا؛ “شذى الكرمل”، ومدوّنة إلكترونيّة “الكرمل48” وقد بلغ عدد الزيارات لها حتّى أواخر حزيران 108,821 زيارة من 29,715 زائرًا رغم عمرها القصير نسبيّا، وصفحة فيس بوك وفيها عدد المتابعين 1,361 متابعًا و-12,994 زائرًا هذا الشهر، ومؤتمران ثقافيّان قطريّان الأًوَل على الساحة قطريّا، والمؤتمر القطريّ الأوّل لأدب الأطفال، والمهرجان القطريّ الأوّل أيّار النكبة، والقائمة تطول.
هذا الرصيد الكبير، والمميّز وغير المسبوق عددًا وعدّة، لم يكن كافيًا للقائمين على الملتقى الفلسطينيّ الخامس للرواية العربيّة، أن يوجّهوا دعوة رسميّة للاتّحاد للمشاركة في الفعاليّات، رغم أنّ عددًا من المشاركين هم أعضاء اتّحاد ولكن مشاركتهم و\أو دعوتهم كانت على المستوى الشخصي. ولا يفهمنّ أحدٌ أنّنا “مدلوقون” ومكانتنا مختزلة ممّا نعطي لا ممّا نأخذ، ولكنّ يتأوّد تأوّدا شمسيّا وأرضيّا السؤال الاستنكاري: لماذا؟!
الوقفة الخامسة… مع الإبل مرّة أخرى.
ليس هكذا تورد الإبلُ في الثقافة وبين المثقّفين، وإن استمرّ الحال فستظلّ الإبلُ عطشى!
سعيد نفّاع
الأمين العام للاتّحاد العام للكتّاب الفلسطينيّين – الكرمل48
أواسط تموز 2022