قرأت رواية “بدلة إنكليزيّة وبقرة يهوديّة” الصّادرة عن منشورات المتوسط (٢٠٢٢) للكاتبة سعاد العامري، والتي تقع في (٣٠٨) صفحة من الحجم المتوسط، أهدتها الكاتبة إلى أبيها وإلى اللّاجئين فكتبت: “إلى أبي واللّاجئين الذين قضوا في الشّتات منتظرين العودة إلى الوطن”، وقد نوّهت الكاتبة أنّ روايتها هذه مبنيّة على مقابلات شخصية، أجرتها عام (٢٠١٨) مع صبحي البالغ من العمر ٨٨ عاما، وهو يقيم حاليّا في عمّان، وشمس (٨٥) عام المقيمة في يافا.
تدور الأحداث حول قصّة صبحي الذي وصفته الكاتبة “أشطر ميكاكيني” والذي اختار العمل ميكانيكيّا عند مصطفى بأجرة (٣٠) قرشا في اليوم، منذ صيف عام (١٩٤٧)، رافضا أن يكون مزارعا كوالده أو صيّادا مثل جدّه.
يقوم معلمه باختياره للذّهاب إلى بيّارة الخواجا ميخائيل لإصلاح مضخّة المياه، وفي الطريق يعده الخواجا ميخائيل إن تمكّن من إصلاح المضخّة، أن يهديه بدلة من قماش إنكليزي فاخر ثمنها (٨) جنيهات فلسطينيّة، فيصلح صبحي المضخّة وينقذ موسم البرتقال لميخائيل ويحصل على البدلة، التي يرتديها متباهيا بها وبطلّته الأنيقة.
ينحصر تفكير صبحي في البدلة الفاخرة وفي محبوبته شمس، التي أحبّها حين التقاها في موسم النبي “روبين اليافاوي” وقرّر الزّواج منها، لكنّ أحداث النّكبة تتسارع وتتشتّت العائلات الفلسطينيّة فيفترق العاشقان، يهاجر صبحي وتبقى هي في يافا، فتأخذها الأقدار إلى الزّواج من أخيه أمير، أمّا البقرة اليهوديّة، ففي خضّم أحداث النّكبة وما نتج عنها من تشتّت وجوع، يذبح البعض بقرة ومنهم والد شمس، فيعتقلون ويتّهمون بسرقتها، وتبقى شمس وأختاها بلا أب أو أمّ بعد أن فُقِدت الأمّ في الأحداث عينها، فيقوم عبد المصري وزوجته رفقه اليهوديّة برعايتهنّ حتى عودة الأب خليل، وبحثه عنهنّ، وتزويج شمس من أمير شقيق صبحي لتستقرّ في يافا.
تنتهي الرّواية بزيارة الكاتبة لصبحي في عمّان، في العام (٢٠١٨) وهو في الـ ٨٨ من عمره، وتتحاور معه حول البدلة وحبيبته شمس التي بلغت الـ ٨٥، فيجيب بعد أن أخرج خرقة رماديّة مخطّطة بالأحمر: “هادا كل اللي بقيلي من فلسطين”!
تعرّفنا الكاتبة على مدينة يافا وطبيعة حياة سكّانها قبل العام (1948م) وكيف كانت تنبض بالحياة، مزدهرة ومنفتحة، وتطرّقت إلى معالمها الاقتصاديّة، الميناء والبيّارات وتجارة الحمضيّات والبرتقال، كما صوّرت مظاهر الحياة الثقافيّة والاجتماعيّة فيها.
كُتبت الرّواية بأسلوب سلس مشوّق، لم نجد هناك شخصيّة ثانويّة أو حدثا هامشيّا، فكل ما جاء بين طيّاتها كان له دور في نسيجها، حتى الأحلام والطّرقات والبيوت، المقاهي والأشجار والبيّارات، كانت إشارات هامّة في صناعة الحدث، الشّخوص باختلاف توجّهاتهم وأعمارهم، مشاعرهم وصراعاتهم، والمكان بكلّ ما يملكه من ماضٍ وتاريخ ومصائر، حتى اللّهجة المحليّة التي أخذت شكل المكان وهويته، أنجزت ما عليها في بناء الحدث.
من العبارات الجميلة التي استوقفتني بين السّطور ص (244): أن التّعاطف الإنسانيّ وحده، وليس الدين أو القوميّة، هو القادر على أن يغزو القلوب.
يدور الخطاب حول الوقائع الفلسطينية التي تقع بين طرفين منفصلين، والنّكبة وما تلاها بعد ذلك من معاناة، تنقّلت الكاتبة بين الأزمنة: الزّمن الذي وقعت فيه الأحداث، والزّمن الذي توجّهت فيه الرّواية إلى القارئ، والزّمن الثّالث وهو استذكار صبحي وشمس لتلك الأحداث، وهو أسلوب مميّز يحتاج لكاتب متمكّن يتقن استخدامه، وقد أحكمته العامري حين تنقلت بسلاسة بين زمن وآخر.
أمّا العنوان، عتبة النصّ وفاتحته نحو الدّلالات والتخيّيل، فقد كان العلامة الأولى التي يقاربها القارئ على سطح الغلاف، جاء دالّا على الأحداث مشيرا إليها، مع تكثيف عميق تحلّ به ألغازها ونسقها الدراميّ.
تذكّرني هذه الرّواية بقصّة المعطف التي كتبها الأديب الروسي الشهير نيقولاي غوغول، وهي من أشهر الكلاسيكيات الرّوسية، وجه التّقارب بين قصّة المعطف ورواية البدلة الإنجليزيّة كبير، يبدو أن الكاتبة قد تأثرت فيها بشدّة، ولولا أنها قد نوّهت في البداية إلى أن أحداث روايتها حقيقية ومأخوذة من الواقع لظننت أنها اعتمدت بعض الأفكار من القصّة المذكورة، مع ذلك فقد خرجت الكاتبة بروايتها عن الشكل النمطي السردي المتعارف عليه، كما نجحت في التّعامل مع صياغة الصّورة والحدث، لكنّها عالجت فكرتها- بقصد أو دون قصد- بطريقة مشابهة لفكرة قصّة المعطف، وسأشير هنا إلى بعض نقاط التّشابه والالتقاء:
– اختيار المعطف كعنوان للقصّة حمل بعدا رمزيّا كما حملت البدلة الإنجليزيّة في رواية العامري، لم تكن البدلة شيئا مَادِّيّا مجرّدا، فقد حملت بين طيّاتها معاني الحياة، الحلم والفرح، وكذلك المعطف في قصة غوغول.
– من المعطف انطلقت الأحداث لترجع إليه بشكل مؤثّر في زمن القصّة (1842م)، وهي ذات الطريقة التي اعتمدتها العامري للتعبير عن واقعنا في فترة زمنية محددة (قبل النّكبة وبعدها).
– من خلال المعطف ناقش غوغول مواضيع عديدة، منها الواقع الاجتماعي والاقتصادي للروسيين آنذاك، بالضّبط كما نجد في رواية العامري التي طرحت الواقع الاجتماعيّ والسياسيّ والتاريخيّ مع فكرة البدلة.
– يشعر القارئ وكأن المعطف كان بطلا هامّا ورئيسيا في القصّة، تماما مثل البدلة الإنجليزيّة، إذ تصف الرّواية ذلك الشعور الحميم بينها وبين لابسها، إلى الحدّ الذي تحوّلت به تلك البدلة إلى شخصيّة نابضة، كما ظهر البطل صبحي في أشدّ مشاعره فرحا واحتفالا بالبدلة، وكذلك الروسي “أكاكي أكاكيفتش” بطل قصّة المعطف.
– أوصل غوغول للقارئ تلك الأجواء الرّوحية؛ ليستشعرها مع البطل “أكاكي” ومع كلّ الفقراء، كما صوّر لنا مشاعر الإحباط والشعور بالظّلم حين تمّت سرقة معطفه، الذي مثّل مبلغ الآمال والأحلام بالنسبة له، وذلك بالضّبط ما حدث مع صبحي وما صوّرته العامري في روايتها، فقد وضّحت لنا المعنى الحقيقي لسرقة الحلم وأبعاد ذلك على الفلسطينيّ، من ضياع للأرض والممتلكات، الماضي والمستقبل.
– من خلال قصة “المعطف”، ورواية ” بدلة إنجليزية وبقرة يهودية”، ندرك ذلك الواقع المضطرب والمأساويّ الذي عاشه الأبطال والشّخوص، والذي انسحب على حقبة معيّنة من الزّمن.
ملاحظتي الأخيرة تتعلّق باللّهجة العاميّة المحليّة التي وردت بكثرة في هذه الرّواية، فقد استغرقت الكاتبة في استعمال الألفاظ الجنسيّة الشعبيّة وغيرها من الألفاظ والمصطلحات، أعرف أن الكاتب حين يقرّر الكتابة بالعاميّة يسعى لأن يعكس الثقافة الشعبيّة في مجتمعه، لكنّها لو اقتصدت في ذلك لكان أفضل، فالمبالغة في هذا الأمر غير محمودة، كما أنّ الكتابة بالفصحى هي الكتابة الصّحيحة التي يفهمها الجميع مهما اختلفت بيئاتهم وأماكنهم.
في النّهاية تبقى “بدلة انكليزية وبقرة يهودية” رواية جميلة مؤثّرة، عزّزت مفهوم عشق الوطن، واحتوت على التّفاصيل التّاريخيّة الدّقيقة التي توثق النّكبة ووقائعها، مع مزيج من الشّخوص الحيّة التي بثّت الرّوح في كلّ سطر فيها.
11 ديسمبر 2022