سجن نفحة الصحراوي
28/11/2022
وصلني قبل أسبوعين عبر زيارة الأهل كتاب الصديق والأخ الراحل د. سعيد عياد “اغتيال الوعي”، وكنت قد حصلت عليه كإهداء عزيز من ابنته ضحى الإعلامية المميزة والمتميزة حضوراً وأداءً.
د. سعيد الذي تعود معرفتي به إلى منتصف تسعينيات القرن الماضي في رابطة الصحفيين العرب التي كان مقرها في عمارة النزهة في نهاية شارع صلاح الدين في مدينة القدس، حيث كان المكتب الذي كنت أعمل فيه. وبعيداً عن هذه العلاقة الشخصية الطيبة، سأتناول في هذه المقالة قراءتي لكتابه وما تضمنه من معلومات وأفكار قيمة.
يأتي هذا الكتاب الصادر عن (دار طباق للنشر والتوزيع-رام الله 2023) في ثمانية فصول تشتمل على أهم ساحات الصراع السياسي-الثقافي، علماً أن ساحات الصراع أوسع من ذلك بكثير، الأمر الذي يحتاج إلى مجهود وطني منظم للتصدي لكل التحديات التي تواجهنا في المجالات الاجتماعية والفنية والتراثية وغيرها، القضية التي يعجز عن حمل عبئها فرد بعينه ما لم يتم تبني إنتاجه على المستوى الرسمي، وتعميمه على أوسع نطاق ممكن.
هذا الكتاب من حيث المحتوى هو كطائر العنقاء يعيد إحياء سعيد الفكر والانتماء والتوجهات بعد رحيله المفاجئ، كما يعيد إحياء ما تم اغتياله من وعي لدى البعض منا ممن لديه القابلية للإحياء، وهذا ما توحي به لوحة الغلاف الموثقة ل (نادر أسمر) التي جاءت على شكل رأس إنسان مصمم من عيدان الثقاب، يقع في المنتصف منه عود واحد مشتعل، وكأني به يقول: المصطلح مثل عود الثقاب، كلما اشتعل واحد توهج الوعي وانتصر، وكلما انطفأ واحد أُغتيل جزء من وعينا في معركة المصطلحات التي تثبت رواية طرف وتنفي رواية طرف آخر، في رمزية واضحة للتمييز بين الاغتيال الجزئي والاغتيال الكلي، وتحذير عميق إلى أن الإهمال الجزئي سيؤدي حتماً إلى انهيار الكلي في معركة لا تتقبل الحياد، وكأنه بهذه اللوحة لخص بدقة متناهية كل ما هدف إليه الكاتب وحمل إلينا بأمانة رسالته الأخيرة التي أنجزها قبل لقاء ربه بفترة وجيزة.
الاغتيال الذي يتحدث عنه د. سعيد في كتابه هو من النوع الخطير جداً، فهو لا يعتمد على الرصاصة والقتل الفردي الذي يستهدف مباشرة المقاتلين والمناضلين في الميدان، وإنما هو ذاك النوع الذي يستخدم الفكر كسلاح باستهداف الوعي الجمعي لمختلف شرائح الشعب، لذلك يأتي إغتيالا تدريجياً يبدأ بتخدير العقل ثم شله ثم تطويعه فاغتياله، إنه اغتيال من طبيعة الاستعمار الكولونيالي الإحلالي نفسه، الذي يعكف منذ ما قبل النكبة على إحلال مفهوم إستعماري دائم كحقيقة وواقع في مكان مفهوم وطني وقومي تاريخيان.
كما أن اللغة السهلة التي لجأ إليها الكاتب في صياغة مقارباته ومفارقاته النقدية تحول دون تعثر القارئ في إدراك مقصده، لأنه يحاكيه من رواق الوعي ذاته الذي تسلل منه الاستعمار، وبالتالي يُنعش ذاكرته بإعادة إحياء ما تكلس منها “بالصدمة الذهنية” القادرة على النفاذ إلى نواة العمق الثوري الذي نشأ وتربى عليه الفلسطيني بغض النظر عن مستوى ودرجة وعيه الشخصي، وهذه الحبكة بالذات قيمة إضافية لهذه الدراسة تُسجل لصاحبها حياً وميتاً رحمه الله.
إن الأفق الذي يشرعه أمامنا الكاتب لإثارة الانتباه حول خطورة الصراع الثقافي والتربوي وما طرأ عليه من تطورات من حيث الشكل والمضمون في سياق حركة الصراع السياسي المُحتدم، يوضح خصوصية هذا الكتاب، لذلك سأسمح لنفسي جزئياً بأن أشارك روح صديقي د. سعيد في إجلاء المغازي التي كان يرمي إليها لاستخلاص العبر من الموقع نفسه الذي انتهى إليه في الكشف عن السلوك الخطير المترتب على التعاطي مع المصطلح الخاطئ، باعتبار الممارسة تتقدم على النظرية، وتحولها إلى أداة اغتيال في حال تبني المصطلح الاستعماري، وإلى أداة مقاومة واستنهاض في حال التمسك في المصطلح الوطني، باعتبار الساحة الثقافية واحدة من أهم ساحات المعركة التي تستهدف الوعي وتسعى إلى تقويضه وعلى الأقل إلى ترويضه.
فالاستخدام التلفيقي للمصطلح يُلحق ضرراً مركباً بالثوابت الوطنية، فمثلاً أشار د. سعيد إلى أن الإقرار الفلسطيني بوجود قدسين واحدة شرقية وأخرى غربية بمعنى الصفة لا بمعنى الجهة الذي يتبناها الاصطلاح الإسرائيلي “يُفسد التاريخ وما هو موجود سابقاً فيه من وجود بشري وثقافي وحضاري فلسطيني، فهو يطرح حلاً لمعضلة إسرائيلية بشأن اختلاق عاصمة للكيان الإسرائيلي” ص41 “فيكون الخطاب الفلسطيني بذلك، ومن خلال مسعاه لإيجاد حل للمعضلة الإسرائيلية قد هدم حقاً فلسطينياً وهو حق العودة للاجئين إلى قراهم”ص41.
إن الإرتباك المفاهيمي الذي أحدثته إتفاقيات “أوسلو” وما تقتضيه محاولات الانسجام معها من خلال “إختلاق فلسطيني لوقائع مغايرة للتاريخ” ص153، والذي برز جلياً في الخطاب الناجم عن الخلط المؤذي والموجع بين هذه المصطلحات، والذي حمل تبريرات المرحلية واسترضاء المجتمع الدولي على حساب الحق والوجود التاريخيان للشعب الفلسطيني في وطنه، وأدى إلى وقوعه في فخ المغالطة الفكرية التي قفزت فوق التاريخ الثابت الذي لا يمكن تجاوزه أو العبث به، بواسطة العملية السياسية المؤقتة، وكأن الدولة المأمولة بديل للوطن لا جزء أصيل منه، وإن قامت على الجزء الآخر منه دولة أخرى بحكم الاحتلال والنكبة والخلل الفادح في موازين القوى، لا بحكم الحق الشرعي أو التطور الطبيعي، حيث أدى هذا “الخطاب إلى توليد دلالات ملتبسة أنتجت تصورات ذهنية منافية للحقيقة، متأثره بزمن “أوسلو” الذي أُعتبر الزمن الجديد للصراع مع المحتل، فغدا الخط الأخطر هو المرجع التاريخي الفلسطيني لحدود هذا الصراع وإنهائه، فانكمش التاريخ الفلسطيني ودلالاته إلى مسار هذا الخط، بينما أنتج ذلك تصورات ذهنية عند المحتل أنه يمكن تحريك الخط الأخضر وتوظيفه بما يحقق أهدافه في تعميق احتلاله وتوسيعه….وهذا ما فعله حينما ضم القدس المحتلة عام 1980 متجاوزاً الخط الأخضر”ص95، كما أن هذه الصيغة تنفي صفة الفلسطينية عن مدن ومواطني حيفا ويافا وعكا والناصرة وغيرها، وتقر بأنها (إسرائيلية) وليست فلسطينية، وكذلك الحال ينطبق على سكانها الأصلانيين ص94.
هذا الخلط غير المغفور ذنبه يتحمل مسؤوليته بالدرجة الأولى ما بات يعرف بالنظام السياسي الفلسطيني، بكل مكوناته السياسية والاجتماعية، سواء تلك المؤيدة منها أو المعارضة لهذه الاتفاقية، وإن تفاوتت نسب المسؤولية بين طرف وآخر، ومن أخطر القضايا المترتبة على الانقسام الفلسطيني ما بات يتداوله الإعلام الرسمي والساسة بالدعوة إلى إعادة اللحمة بين شطري الوطن للدلالة على الضفة الغربية وقطاع غزة، “وبفعل الخلط المقصود بين حدود الدولة ومفهوم الوطن، ستتولد دلالة مشوهة أن هذه الحدود الجغرافية المحصورة هي الوطن المطلق، وبالتالي ما يترتب على ذلك من حقوق، ستنحصر في حدود هذا الوطن الجديد… وضمنياً في هذا تنازل عن حق العودة إلى كل فلسطين” ص103.
وهكذا يقوم د. سعيد بالدور التوعوي المطلوب في هذه المرحلة انطلاقا من موقف وطني وأخلاقي يستند إلى المصطلح كسلاح في الصراع الدائر بين الشعب الفلسطيني والحركة الصهيونية، لكون المصطلح له وظيفة أساسية في حماية وتحصين الوعي والانتماء والهوية، أو في تحصين كل ما ذكر وأكثر. لكن السؤال الجوهري الذي عالجته هذه الدراسة هو: كيف يقوم السياسي والإعلامي والتربوي بتوظيف هذا المصطلح؟ وكيف يجيدون أو يسيئون استخدامه؟
من الواضح أن د. سعيد حرص من خلال هذا الكتاب على تأسيس قاعدة بيانات فكرية، ومنصة تربوية يمكن الاعتماد عليها في توجيه فكر ناشئة، وإثارة حفيظتهم وانتباههم إلى كل ما من شأنه أن يلحق ضرراً بوعيهم على الصُعد السياسية، الاجتماعية والوطنية، ويسهم في تعزيز ثقافتهم، ويحميها من الانحراف في ظل المعركة المحمومة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني منذ ما يزيد على القرن، وذلك من خلال تحديد الخلل وتجديد أدوات مواجهته، وإطلاق العنان لمعرفة مقاومة تأبى الخلط بين الوهم والحقيقة في متاهات الواقع السياسي الراهنة، فمثلاً “يقترح الكتاب اصطلاح (الجدار العسكري) بدلاً من جدار (الضم والتوسع)، أو جدار (الفصل العنصري)، أو جدار (العزل). لأن ذلك يولد الدلالة الحقيقة وليس المجازية من غاية إقامته، وهي دلالة تحويل الوسط الشرقي من فلسطين (الضفة الغربية) إلى معسكر اعتقال جماعي.”ص86.
وبالعودة إلى السؤال الجوهري الذي طرحناه سابقاً، سنجد أن الإجابة الشفافة والخانقة في نفس الوقت الكامنة في ثنايا هذه النصوص تؤكد بأن “اعتقال الوعي” الذي تمارسه التيارات والقوى السياسية الفلسطينية في إطار برامجها التأطيرية والتعبوية لعناصرها، وكذلك المؤسسات الرسمية التي تفرض شروطها القاهرة على فكر موظفيها مقابل لقمة عيشهم، إلى جانب الدور القامع الذي تقوم به المؤسسات التقليدية كالقبيلة والعشيرة التي إزداد نفوذها، كلها بدورها وآدائها الاستحواذي تشكل بيئة مناسبة تسهل على أذرع الاستعمار النجاح في مهمة “اغتيال الوعي” التي تمثل ركناً أساسياً من سياساته الإستعمارية، والخارطة الفكرية التي يرسمها لنا الكاتب لوقف هذا التدهور المصيري تشير إلى أن أولى الخطوات الصحيحة باتجاه مقاومة هذا الخطر الداهم تكمن في إطلاق الفكر الحر وضمان تعدديته، وتبني الديمقراطية كنهج حياة، وليس مجرد آليات ميكانيكية، وفي تحقيق المساواة الكاملة بين الجنسين، واحترام الآخر ورأيه باعتبار التنوع بأشكاله المختلفة ثروة وطنية ومصدر قوة، وليس خطراً إلا على الفكر الجامد، وعلى الدكتاتورية والإستبدادية!!
إن هذا الحوار المفتوح الذي زجنا في خضمه د. سعيد عياد بعد وفاته، يحررنا من قفل الكلمات التي تعطل العقل، وتُعيقه نسبياً، وينقذنا من مكر المصطلح الذي يسعى إلى الاستحواذ على وعينا بوعي المُستعمر، وإحلال روايته الزائفة في مكان روايتنا التاريخية، في الوقت الذي يضعنا فيه أمام مسؤوليات جسام تستوجب منا هدم كل ما من شأنه إعاقة تقدمنا نحو الحرية والاستقلال! فعملية الهدم وإعادة البناء الذهني التي أشار إليها د. سعيد يمكن الاستدلال عليها في كثير من الشواهد، فمثلاً يمكننا توضيح اصطلاح “التسوية السياسية” الذي يعني حل “يقبلها الطرف الأضعف لتفاوت مصادر القوة المادية وليست الحقوقية بينهما؛ فهو في إطار هذه التسوية/الصفقة سيتنازل عن الحد الأقصى لدلالة حقوقه مقابل أن يحصل على ما هو ممكن أو ما هو متاح أو الحد الأدنى…ومثل هذه الطروحات التي يرومها الاصطلاح، تسعى في دلالتها البعيدة إلى شطب علة الصراع وذروته وهي النكبة، وما ترتب عليها من تهجير قسري واحتلال وطمس 78% من معالم وجود فلسطين الجغرافية والبشرية”ص224-225، بينما يؤكد سلمان ناطور في كتابه (رحلة سبعة وستين عاماً) بأنه لا يمكن حل الصراع إلا “بالاعتراف بالنكبة وبحق العودة”.
كُنت أُفضل لو أن د. سعيد –رحمه الله- استهل هذا الكتاب بإطار نظري وضح فيه كل المفاهيم المُتعلقة بالوعي، وصنف أشكال ودرجات الاغتيال المُختلفة مثل (الاغتيال الثقافي، الاغتيال المادي، الاغتيال الآيدلوجي….الخ)، ووصف أساليب العلاج المُحتملة لكل شكل، كما كُنت أتمنى لو كان بإمكاني الإسهاب أكثر في استعراض كل الجوانب القيمة لهذا الكتاب الذي ينقر في العقل والروح مثل “نقار الخشب”، غير أن هذه المقالة لا تسمح بأوسع من ذلك، كما أن قارئ اليوم لا يحبذ الاستطالة على أهميتها، ومع ذلك يُمكنني القول أن هذا الكتاب بمثابة بوصلة فكرية على كل فلسطيني أن يقتنيه بغض النظر عن موقعه الوظيفي أو دوره أو مستواه الثقافي، خاصة العاملين في المجالين الإعلامي والسياسي، لأنه سيرشده إلى جادة الصواب في عالمنا المعولم الذي تسعى فيه قوى الاستعمار ورابيبتها (إسرائيل) بما يمتلكونه من هيمنة على تكنولوجيا الاتصالات وفضائها المفتوح، إلى تزوير التاريخ، وضرب ثقافتنا القومية والوطنية، وعليه أقترح على وزارتي التربية والتعليم العالي اعتماده كمادة إضافية وقاموس اصطلاحي في مساق التربية الوطنية.