محفزات الوعي في رواية “نارة” للكاتبة الفلسطينية دينا سليم حنحن – بقلم خضر عواد الخزاعي – العراق

 

مرة أخرى تلج الكاتبة الفلسطينية دينا سليم عالم المرأة من أوسع أبوابه، تحاول اللحاق بخطى بطلاتها في رواية “الحافيات” لتقدم للقاريء نصًا سرديًا جديدًا عن عالم المرأة، وكل ما يرتبط بها، وما ارتبطت به، سواءً في شرق الكرة الأرضية أو في غربها، في روايتها “نارة” الطبعة الأولى الصادرة عن بيت الشعر الفلسطيني في رام الله 2016،  محاولة من الروائية دينا سليم أن تجعله تكملة لنص “الحافيات”، لكنها تجعل من ذلك النص متكئا للإنطلاق إلى عوالم المرأة الأكثر رحابة وتعقيدًا، من أستراليا موطنها الجديد تنطلق رحلة السرد مع جنيفر، وميري، وسوزانة، ونورما، وبعيدًا عن الثيمة الرئيسية التي أرادت لها الكاتبة أن تستحوذ بطريقة دراماتيكية على النص، وهو عقدة العلاقة بين آدم، وهيام، وندى، وميس، ونارة، فإن المستوى العام للرواية لم يستطع أن يتحرر من موضوعته الرئيسية التي نجحت فيها الكاتبة كمرتكز ثيمي في معظم أعمالها الروائية ألا وهي قضية المرأة.

وبين أستراليا، وبيروت، والشام، والقاهرة، ورام الله، تتجول الكاتبة لتراقب مصائر شخوصها، بل تحاول أكثر من ذلك أن تكون الشاهدة على ما يحدث حولها وأمامها، كما يحدث حين الخوض في حيوات هذا الكم المتنوع من النساء العربيات والغربيات.

في الوهلة الأولى تبدو وكأن الرواية تنحى للبحث عن قضية وجود الرجل في حياة المرأة سواءً كانت شرقية أو غربية، من خلال الطرح المباشر الذي تتبناه الساردة بصوت صديقتها الاسبانية جنيفر”من لا تبحث عن رجل تعشقه ويعشقها تكون إما شاذة أو معقدة.ص24”. ولتعميق هذا الوجود الاعتباري وتبريره، فهيّ تؤكد لنارة  انها ستتعرض لكثير من الشائعات مثلاً أن تتهم بأنها “سحاقية مثلاً”، فيما لا تجد سوزانة المسيحية حرجا في التخلي عن ولدها والهجرة إلى طرابلس للارتباط برجل مسلم، في بيئة تنظر إليها الأخريات على انهن كافرات، في محاولة استثنائية لكسر حاجر الكراهية بين حضارتين وديانتين كانتا على الدوام في حالة استنفار لمواجهة بعضهما البعض، حين تسألها ميري ان كانت نظرة الآخر لها ككافرة وداعرة تمنعها من الارتباط بعشيقها اللبناني حمدي “سوف أدربهم على أشياء أخرى، ربما يبدلون نظرتهم، هم يحكمون علينا من مجرد الشائعات، سأكون هناك بينهم وسوف يعتادون على تقبل الآخر والمختلف عنهم.ص28”. فيما تعيش ميري المطلقة والأم محنة الانشطار الذي أصبحت تعاني منها، ممارسة حياتها كأنثى كاملة كالأخريات، أو أن تنقلب على ذاتها وتستجيب لغرائزها المرتبكة والملتبسة، بين الأنوثة والذكورة، في  بداية الشعور للنزوع نحو المثلية: “يتعبني الاحساس المغيب لكياني، أستطيع القول أني امراة كاملة وأريد الاستجابة لمشاعر أنوثتي التي بدأت تتسرب مني، وأحيانًا أشعر أن لي ميولاً مثلية، وفي الوقت ذاته أشعر بعدم انتمائي لأي شيء، لست امرأة ولست رجلاً فماذا أكون؟.ص28.” وأزمة ميري الحقيقية ناتجة من حالة الاحساس العميق بالاغتراب الروحي، بعد طلاقها عن زوجها، وتحدي  صريح لأنوثتها بعد أهمالها المتعمد من زوجها وارتباطه بامرأة أخرى “أشعر بحالة اغتراب عن نفسي من جهة وتغييب لكياني كامرأة، ومن جهة أخرى أحاول أن أقنع نفسي اني قادرة على السيطرة على هذا الفراغ العاطفي.ص27”.

مع “نورما” يبدو الأمر مختلف مع تفاقم معاناتها بسبب تقدم العمر، وعدم وجود رجل في حياتها،” لا وجود لأي حبيب في حياتي، العمر يمضي بي سريعًا وأخشى إني بدأت أعاني من عقد العوانس.ص34″. هذه الفاصلة التعيسة في حياتها ستكون مقلقة لها وهي تخوض غمار البحث عن رجل يملأ عليها حياتها، ويمنحها ما حرمت منه، وما يجعل منها امرأة سوية كالأخريات، أن يكون هناك رجلاً ما في حياتها “بدأت أشعر بالغيرة من الأخريات لأني لم أحظ حتى الآن بحبيب يلغي عني صحراء روحي، ويمنحني ماء العشق على شكل قطرات متتالية لا تتوقف من التدفق كما تخيلت.ص34”. هذه النماذج الانسانية التي تمر عليها “نارة” يمكن اعتبارها تقدمات لعينات مجتمعية تحيط بها، قبل الخوض في حياتها الشخصية، حين تحوّل السرد إلى تعبير عن “الأنا الخارج على نطاقه” على حد قول رولان بارت، وهو هنا عند الساردة “ناراة” محاولة لإسقاط ذاتها في حياة الآخرين أو العكس، فهيّ أيضًا تعاني من المشكلات ذاتها التي تعاني منها صديقاتها، حيث الاغتراب الروحي، والافتقاد إلى علاقة حميمية ثابتة تمنحها الشعور بالاستقرار والثبات والديمومة، ففي لحظة ضياع ترد على صديقتها نورما المعلقة بحلم قد لا يتحقق” أنا مثلك ضائعة يا صديقتي.ص35″. ثم في مكان آخر تصف وحدتها وتفردها “لا أحد غيري في الغرفة.ص38”. وربما تكون رحلتها “النفستحليلية” في تتبع حيوات بطلاتها في الحافيات، جزء من البحث الدؤوب الذي تسعى إليه عن ذات جوهرية، توزعت دون إرادتها في تلك الحيوات المشتتة، والمبعثرة في أصقاع متباعدة من الكون، عندما اختارت “الكتابة” متنفسًا ومبررًا لوجودها، فهي لا تشعر بالحرج حين تواجهها بطلتها المعذبة بالشبق “شروق” في لحظة انهيار أو تحدي “ألغيتِ حياتك من أجل هدف واحد وهو الكتابة. ” لتجيبها بكل هدوء ” لهذا الهدف أنا أحيا فأنا كاتبة لا تنسي ص45″. لكنها في أعماقها، تشعر بتلك الحاجة الروحية إلى يد حانية تلامس روحها قبل جسدها “لو تعلم كم أشتاق إلى يد آدمية تترفق بي”. لتنطلق من أزمتها الذاتية وأزمات الأخريات، إلى أزمات أكبر تطوق أعناق النساء العربيات، وهيّ أزمة العبودية، ومسخ شخصيتها، وذوبان كينونتها في شخصية الرجل “المرأة العربية تحيا حالة الرعب الحقيقي، والشعور بالذنب، والخوف من غضب الله إن لم تطع زوجها، ناهيك عن الخوف من الآخرة ففوبيا الآخرة تعم الرؤوس وتعمي القلوب، أما هو فيستطيع التستر على عيوبه جيدا لأنه ضمن الآخرة، ومؤهل، ومرحب به هناك.ص49”. وربما لهذا السبب نجد هذا التيه والاضطراب أو (erotomania) الشهوة الجنسية العارمة، التي تعاني منها بطلات نارة/شروق،نهى، ميري. والذي سيقود حتما الى  (Paranoia) جنون الارتياب، الذي يصبح متلازمة مرضية في حياتهن تؤثر سلبًا في مراحل لاحقة على الخط العام لحياتهن، وهذا ما يدفع نارة للسؤال عن الأسباب التي قادت بطلاتها إلى هذا المصير، والامتحان العسير بين الاستجابة لرغبات الجسد، وبين التقنين، والتوازن بين متطلبات الجسد، والروح “هل الذي يحدث معك أصبح عادة أم هو مرض أم حرمان، أم قلق على ضياع الشباب، أم هيّ الحروب وما خلفته من فساد، أم هيّ الهواجس المقلقة والرعب الذي نعيش فيه، أم هيّ التخبطات التي عرّت الذوات المجروحة وجعلتنا عراة تمامًا أمام شيء أسمه الشرف والكرامة، أم هم الرجال المشجعون؟ص55”.

وفي استعراض لمجريات السرد، وما منحته لنا الساردة من إطلالات على حياة بطلاتها، نجد أن ما يحدث لهن هو بالحقيقة مزيج من كل هذه المعطيات والتي هيّ بالأصل “نطاقات” محيطة، ومطوقة للمرأة الشرقية، بدءاً من بيت الأسرة، إلى البيئة المحافظة ظاهريًا، إلى بيت الزوجية الذي عليه أن يكون “المقدس” بالنسبة للمرأة وحدها دون زوجها، إلى المجتمع المضطرب بالنفاق، والسياسة، وتغليب المصالح الشخصية والفئوية، إلى الحروب، والمجاعة، والفقر، والأمراض، من كل هذه المعطيات تتشكل ذوات وشخصيات نص “نارة” والذي تحاول به الكاتبة دينا سليم من خلال تحديها العنيد لشروط هذا المجتمع، لا أن تصنع (MECHANISME ) آليات الدفاع عن النفس، بل لتقديم نص مهمته الرئيسية هو أن يكون محرضًا للوعي المستلب أمام قضايا خطيرة تحفل بها مجتمعاتنا الشرقية، وربما كانت هذه هيّ المهمة العسيرة لدينا سليم، وهيّ التي لم تمتلك من حطام هذا العالم غير قلمها وأوراقها وحبها، لتواجه قسوته واغترابه ” إذا كان قيدك قلم، فلا تفكر سوى بورقة بيضاء، وأنا قيد يدي أقلام كثيرة تبحث عن أوراق بيضاء”، فيما يبقى الحب حلمًا آخر يضاف إلى لائحة الانتظار المزمنة، ليس من السهولة العثور عليه، إذا كان بالتعريف الصوفي الذي تطرحه نارة لعشيقها آدم الذي اعتقدت به مشروعها الحياتي القادم ” الحب أثمن من أن يثمّن وأرقى من أن يُعرّف.ص123″.

رواية”نارة” نص عميق، ودراسة قيّمة في حياة المرأة عامة، والمرأة الشرقية خاصة، وسفر استخدمت به الروائية دينا سليم حنحن كل ما تمتلكه من أدوات أسلوبية، وتقنية في اللغة، ومستويات السرد والدلالات، ليكون محفزًا في إثارة الوعي، وليس إماطة اللثام عن قضايا ومشكلات مجتمعية مزمنة. هنيئا للمكتبة العربية هذه الإضافة الهامة.

“نارة” الطبعة الثانية دار كيوان – سوريا.

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*