قرأت رواية “الأسير 1578” للأسير هيثم جابر ثانية للمشاركة في ندوة مقدسيّة حولها (صدرت الطّبعة الأولى عن المكتبة الشعبية ناشرون في نابلس، أمّا الطّبعة الثانية ستصدر عن مكتبة سمير منصور في غزّة).
وجدتها رواية مباشرة تتناول الأسر وبطولة الأسير المشتبك؛ تناول تاريخ الحركة الأسيرة ودور المرأة بلغة بسيطة انسيابية سلسة وشاعرية.
أبطال الرواية:
- المكان: الزنزانة والمعتقل “عبارة عن غرفة طولها مترين أو أكثر وعرضها متر ونصف بالكاد تتسع لشخصين، كان يوجد بداخلها “كردل” لقضاء الحاجة” تم طلاؤها بلون الاسمنت القاتم وجدرانها خشنة، وبها ضوء أحمر خافت جدا لا تتناسب مع الحياة الإنسانية، ضيقة، لونها قاتم، خشنة الملمس، لا يوجد فيها ضوء. هذا هو مكان الأسير وحيّزه في سجون الاحتلال؛ مكان يترك أثره على صحّة المعتقلين والأسرى، الجسديّة والنفسيّة “تمكث فيه شهورا عدة لا تبدل ملابسك، حتى يصاب الأسير بالأمراض الجلدية في أغلب الأحيان”.
- الوقت والزمن: الوقت يشكل عامل ضاغط ومثقل على المعتقل؛ فالوقت متوفر بالجملة داخل السجن “تتوقّف الساعات والدقائق، حيث يدخل الوقت في مرحلة اللا وقت” ممّا يعيدنا إلى الزمن الموازي ووليد دقة “حيث يتوقف الزمن ويتوقف الوقت مع دخولك السجن، ويبقى عمرك هو عمرك، تدخل ابن عشرين عاما، يتوقف الوقت وتتوقف عقارب الساعة” وهذا ما لمسته حين لقائي بهيثم وأسرى أخرين وكأنّي بهم عشرينيّين رغم مكوثهم في الأسر عقدين وأكثر، حين يصير الوقت هو الحاكم والأسير هو المحكوم، ويترتّب عليه أن يخضع له: “عقارب الساعة تأبى أن تدور وزمن متوقف في صمت القبور
” (ص112). - افتقاد مظاهر الحياة الطبيعية، وما فيها من شمس تشرق كل يوم، وليل وما فيه من نجوم وقمر، كل هذا يجعل الوقت غير مجدي، لا يشبه الوقت الذي عرفه في الخارج، فهناك الكثير من الأمور التي يشير إلى مضي الوقت، لكن في المعتقل لا يوجد أي من هذه المظاهر مطلق وأخذني إلى ما سمعته كثيرًا من أسيرات الدامون “اشتقت للسما الحقيقي”.
تناول الكاتب الأسير مرحلة التحقيق والتعذيب الجسدي والنفسي “مكبل اليدين منطفئ العينين، كان يغتصب النوم من جفن الليل الحالك. يوقظه صوت محقق ضخم الجثة، حليق الرأس معكوف الأنف تفوح منه رائحة الحقد والإجرام والشماتة، ليقف أمام ضعفه وحيدا، في تلك الغرفة الصغيرة، التي لا شيء فيها سوى طاولة وكرسي، مشبوحًا (يداه إلى الوراء إضافة لتكبيل القدمين)؛ مشهد سرياليّ: مكان ضيّق جدًا يجلس المعتقل على كرسي صغير منخفض وبالمقابل يقف محقّق ساديّ ضخم الجثّة وبشعها، وللمفارقة نلمس الضخامة مقابل الصغر، ونجد بأن هذا الجسد الصغير مكبل اليدين والقدمين، مقابل الرجل ضخم حر اليدين والرجلين، مصوّرًا المفارقة بين الضحية والجلاد محاولًا تقزيمه.
تناول الأسير الكاتب محاكم الاحتلال بسخرية سوداويّة قاتلة؛ يصفها بخشبة مسرح، المايسترو والمخرج هو ضابط التحقيق، هو المؤلف والمشرف على العمل، يرسم ويوجه ويضع الحركات وما على الممثّلين إلّا تنفيذ تعليماته، محاكم صوريّة مزاجيّة “الحكم على المتهم بالسجن المؤبد إضافة إلى عشرين عاما بتهمة القتل والتحريض والمس بالأبرياء العزل، إضافة إلى شهرين آخرين بتهمة إهانة المحكمة، رفعت الجلسة” (ص180) ناهيك عن الاعتقال الاداري، الذي يحكم فيه على المعتقل ستة أشهر قابلة للتجديد، والتجديد قد يستمر لأكثر من عشر مرات والشارع هو سيّد الموقف، وجاءني الحكم على معتقلي هبّة الكرامة من طمرة، حوكموا صباح اليوم في مركزيّة حيفا بالسجن الفعلي سبع سنوات، بينما في وضع عادي كان من المفروض الحكم عليه بأقّل من سنتين!
تتناول التعامل مع قضاء المحتل ووجهة نظر هيثم التهكميّة، “ليس لي محام .. أنا لا اعترف بشرعية هذه المسرحية التي تسمونها محكمة، … أنتم القتلة الذي تلطخت أيديكم بدماء أطفالنا ونسائنا … أريد أن أسأل هذا الجلاد الذي وصفني قبل قليل بالقاتل والإرهابي والمجرم، كم فلسطينيا قتلت من ابناء شعبي؟ … احفر تحت بيتك الموجود الآن في إحدى مدن بلادي التي استوليتم عليها بالقتل والإرهاب، أحفر هناك، ستجد رائحة أجدادنا تفوح منن تلك الأرض”.
تناول هيثم العاشق دور المرأة، رفيقة درب الأسير، من الأم إلى الحبيبة، تجيئه أثناء التحقيق لتمدّه بالقوة والعنفوان والصمود “لقد رحل بفكره وقلبه خارج تلك الجدران المعتمة وترك محقّقه يتحدث ويهدّد ويتوعد وحده وكأنه تحدث مع جدران، وراح يتذكر أول يوم له في لجامعة، حيث كان أسعد يوم في حياته حين التقى خطيبته التي يحبها ويعشقها” (ص31)
لفت انتباهي دور ومكانة الرسائل في حياة الأسير، فهي تحييه وتغذّي الأمل والحياة فيه “إلى قمري الذي غاب عني أياما وشهورا، وكأنه الدهر كله. هذه المرة الأولى التي تغيبين عن عيني فترة طويلة، تلك الشهور كانت قاحلة”. ويقول بشاعريّة مفرطة “هو يفرح بالبرق ويطرب للرعد، وينتشي قلبه برائحة المطر، وأريج الشوق الذي يجتاح النفس، خلف قتامة المشهد ينطلق شوقه في أثير المساء، يبحث عن وجهها الفتان في زحمة الصور.. عله يقتات من عيناها، ما يعينه على السير في تلك الطريق الطويل المؤذية إلى وجه الشمس الأخضر”. قمّة الشاعريّة.
هيثم شاعر مرهف الإحساس “لك حرية الاختيار بين أزهار البنفسج وبين طول انتظار، ربما حان الوقت كي تتحرري من فضاءاتي المتعبة، وأزقة قيدي المرهقة، ربما حان الوقت كي تحلقي بعيدا في الفضاء الرحب. ولك الخيار أن تحط أشرعتك في أي مرفأ تختارين، ولك أن تحلقي شرقا وغربا، يسارا ويمينا، وترتشفي الورود الشاخصة أبصارها نحو أجنحة الغمام، يستطيع عطرك أن يقطف شذى ما يختار من أزهار.
ملاحظات لا بد منها؛ استطرد الكاتب أحيانًا بتقريريّته حين تناول تاريخ الحركة الأسيرة، وهذا ملائم لأبحاث ودراسات ولبيس لرواية كهذه ممّا أرهق النص ونشّفه.
جاءت الطبعة الأولى مشوّهة ومليئة بالأخطاء اللغويّة والنحويّة والمطبعيّة، وهذا ما لمسته في الكثير من إصدارات الأسرى الكتّاب، فالأسير يُخرج حروفه بشقّ الأنفس ولا يتمتّع برفاهيّة الكتّاب خارج القضبان، فلا يمكنه مراجعة المخطوطة بعد الطباعة وقبل النشر، ممّا أزعج بعض الكتّاب الأسرى وأحبطهم، واستشاط هيثم غاضبًا حين استلم ديوانه الأخير وشبّهه بالمولود المشوّه! ومن هنا أناشد أهل القلم بمدّ يد العون لمراجعة وتنقيح وتنضيد كتابات أسرانا، وهذا أضعف الإيمان.
وأخيرًا، جاء في الرواية: “هنا في عالم الجدران والصقيع ما أنت إلا بضعة أرقام مصفوفة على قارعة تاريخهم المُلطّخ بالدماء.. هنا حيث تحجب المرايا عن وجوه النجمات المتدثّرة برذاذ الفضاء… هنا تختفي الحروف والأبجديّات، خلف رمال الصحراء الرّاحلة في الفراغ”.
شمس الحريّة تليق بك وتتوق لك عزيزي هيثم.
***مداخلتي في ندوة مناقشة الرواية يوم الخميس 24.11.2022 في ندوة اليوم السابع المقدسيّة بالتعاون مع نادي الموظفين بالقدس