وقفت مؤخرا وبدعوة من منتدى شرق وغرب في دبي من خلال رئيس المنتدى السيدة سلوى القدومي ومنتدى ليل في فرنسا، أمام رواية مهمة للكاتبة المرحومة ليلى الأطرش حين تم دعوتي لتقديم قراءة نقدية للرواية، والرواية تتكون من 292 صفحة من منشورات ضفاف ومكتبة كل شيء/ بيروت- الرياض 2014 م مزينة بلوحة غلاف للقدس القديمة دلالة مباشرة على محتوى الرواية، تتصدر الرواية عبارة “ومن هو ضعيف بالايمان فاقبلوه.. لا لمحاكمة الأفكار”، والرواية وهي تدخل تحت تصنيف الروايات التاريخية التوثيقية اعتمدت على عدد كبير من المصادر والكتب اضافة الى لقاءات شخصية للحصول على المعلومات التي صيغت على شكل رواية، أشارت لها الكاتبة خلال فصول الرواية وفي نهايتها فظهرت الرواية وكأنها بحث تاريخي فهي بعض من مشروع لتوثيق تاريخ القدس.
الرواية اعتمدت البحث في تاريخ القدس من خلال الحديث عن هذه المدينة المقدسة عبر مراحل محددة، فتحدثت عن الدور العثماني منذ البدايات تقريبا وصولا لمرحلة سيطرة جمعية الاتحاد والترقي على الحكم في تركيا وإضطهاد العرب ودور يهود الدونمة في السيطرة على تركيا، وتحدثت عن دور الاحتلال البريطاني منذ قبل الاحتلال حتى دخول الجنرال اللنبي القدس ومقولته الشهيرة بعنجهية: “الآن انتهت الحروب الصليبية” متناسيا دور العرب ضد الأتراك بعد أن طفح بهم الكيل، مرورا بدور بريطانيا بدعم العصابات الصهيونية وتهريب الأراضي لهم وقمع العرب لتنفيذ وعد بلفور، وتحدثت عن غدر اليهود بالعرب وهم الذين عاشوا وتنعموا بينهم وصولا لقيام دولة الكيان الصهيوني ومن ثم احتلال ما تبقى من فلسطين في هزيمة حرب 1967م، وعن دور الاتراك باحتلال اليونان للكنيسة الأرثوذكسية من العرب الأقحاح وما زال هذا الإحتلال قائما.
هذه الأحداث وهذا التاريخ نقرأه من خلال ما ترويه الرواية للرواية والساردة راوية بنت عيسى حين تمكنت من زيارة القدس تحت بند تصوير فيلم وأقامت عند الشخصية الرئيسة ميلادة واستمعت منها لكثير من الأحداث ودخلت المكتبة المغلقة لأخيها ابراهيم واطلعت على الأسرار المحفوظة التي لا تتحدث عنها ميلادة وروتها، ومنذ البداية وعبر الأسرار الموثقة في المكتبة بدأت بتوثيق قصص تاريخية وأسطورية وإجتماعية حول باب الخليل وباب الرحمة وباب التوبة وتجبر الأتراك بالضرائب والجباية والتجنيد سواء على مسلمي القدس أو المسيحيين وعن سبت النور لدى المسيحيين، وعن ما مر به أهل القدس من ظروف وسرقات من الاحتلال البريطاني لثريا ضخمة بكنيسة القيامة وهدم البرج العثماني وسرقة الساعة، وعن عاداتهم بشرب عصير الليمون وعن الراقصات في مناسبات أهل القدس “الجنكيات” ونَور باب حطة، وعن تأثير دخول الكهرباء عام 1928 على الحياة الاجتماعية بالقدس، والزلزال الكبير عام 1927 وعن مذابح اليهود في لفتا ودير ياسين وهي من قرى القدس، وعن هجرة الشباب لأمريكا بدون عودة، ومتحدثة عن العمة ميلادة ابو نجمة وما قيل عنها من حكايات وسبب لقبها ميلادة الحنش ودورها بالمعالجة بكاسات الهواء والفصد والرقية، وأشارت إلى الترابط بين المسلمين والمسيحيين في مقاومة الاحتلال البريطاني، فالعمة ميلادة من أخفت المفتي الحاج أمين الحسيني وهربته من أيدي الإحتلال، وأشارت لقصة غريبة حول غموض علاقة محرمة بين ميلادة وبين الخوري متري حداد وتورد التساؤلات حول هل كان زواج كسر قواعد الكنيسة أم علاقة محرمة؟ وتشير لتخوف الناس من الحديث بالموضوع خوفا من غضب الرب وتتضح الحكاية خلال الرواية.
والكاتبة أثارت قضية مهمة عن النضال الوطني ضد سيطرة اليونان على الكنيسة العربية منذ عام 1534م حين عين السلطان سليمان القانوني المطران اليوناني الشاب جيرمانوس بطرك للكنيسة بعد وفاة البطرك العربي عطالله حنا بتحالف بين الأتراك واليونان ضد القومية العربية، وهذا البطرك هو الذي جّرد الكهنوت العربـي من أي دور في إدارة أملاك الكنيسة، أو الرقابة عليها، وأنشأ البطرك رهبان أخوية القبر المقدس كأعلى مراتب الكهنوت بعده بالتسلسل ومن اليونان وحدهم، وتم إصدار قانون يجبر الخوارنة العرب على الزواج ليحد من ارتقائهم في الرماتب الكنسية، وهذه مسألة ما زالت مستمرة فطائفة الروم الأرثوذكس العربية والتي تعود بجذورها الى قبائل الغساسنة والمناذرة الأقحاح من افقر الطوائف لأن اليونان استولوا على كل الكنائس والأديرة التي تعود لهم وعلى مقدراتها، وقام البطاركة ببيع اراض كثيرة من أوقافها للاحتلال الصهيوني، وقد تحالف المسلمون مع المسيحيين العرب ضد اليونان فالقضية مسألة وطنية ونادوا بعروبة الكنيسة في خطبة المسجد الأقصى.
كما رجعت الكاتبة لبعض الوثائق التي تعود لبريطانيا ولتركيا ودور بريطانيا في محاولة اقناع السلطان عبد الحميد لإدخال اليهود الى فلسطين قبل الحرب واحتلال فلسطين، وعن دور الاتراك في بيع أراض لجهات غير عربية من خلال استخدام حكاية سالم أبو نجمة لوصف كيف كان يتم ذلك، وانغماس المسئولين الأتراك مع العاهرات اليهوديات وتنفيذ نصائحن التي ساهمت بتدمير الحكم التركي من اللواتي كن في خدمة البريطانيين، كما استندت الكاتبة لكتاب لورنس العرب ضابط المخابرات البريطاني لفضح وتوثيق ذلك وشكره لليهودية سارة ارونسون على دورها، ووثائق توثق بيع أملاك من عائلات عربية لليهود وبعض العائلات المتنفذة في فلسطين من مخلفات فترة الاقطاع وقرى الكراسي، وتسريب الاراضي من الاحتلال البريطاني لليهود، وخيانة القيادات العربية لفلسطين وللقائد الشهيد عبد القادر الحسيني.
الكاتبة استخدمت كما هو أصول السرد الروائي راوية للرواية وأسمتها راوية واعتمدت شخصية رئيسة وهي ميلادة كما استخدمت عدة شخصيات ثانوية لسرد الاحداث، وهذه من قواعد الرواية بأنها تتألف من راو يمثل الشخصية الرئيسة وشخصيات ثانوية تختلف بحجم حضورها وتأثيرها وسردها للأحداث إضافة للزمان والمكان وهنا كانت القدس المسرح المكاني وتاريخ القدس من القديم زمانها، والروائي يكتب الرواية ويلجأ لشخصية الراوي لتنوب عنه وتخلق هذا الوهم بأن الكاتب أو الكاتبة منفصل عن الرواية، فأي عمل ابداعي شاء الكاتب أم لم يشأ يعكس بعضا من شخصية الكاتب.
من الشخصيات الثانوية والتي لها دور أساس في الرواية شخصية سالم ابو نجمة والد ميلادة واخويها والذين تخلى عنهم أطفال في سفره للتشيلي، ولحقه ابناه وبقيت ميلادة تحت سطوة امرأة الخال وطمع الخال بما يصلها من ابيها فيستولي عليه، ومشروع سالم في إنشاء سكة الحديد والعثور على الآثار التي صادرها الاحتلال بعد حرب حزيران، ووصفه لرحلة الهجرة والمعاناة في البحر وصولا الى كوبا ومن ثم التشيلي وسوء المعاملة من المزارع الكوبي للعمال المهاجرين في مزرعته رغم تدينه، والتي اختصرها سالم بالمثل الشعبي: “يلي بطلع من داره قل مقداره”.
وشخصية أخرى والتي روت بعض من هذا التاريخ هو الخوري متري حداد القومي العربي بفكره والذي خالف التعليمات الكنسية التي تمنع زواج الكاهن الأرمل وعشق ميلادة وتزوجها سراً، والذي تحدث في رسائله لولده رفيق والذي اسماه على اسم صديقه المناضل الشاعر والمحامي رفيق رزق سلوم والذي أعدم 1916 بقرار من جمال باشا السفاح، عن أكثر من حكاية عشق وقع بها الكهنة مع النساء، كما تحدث عن الدور الذي لعبه الاتراك باستقبال الارساليات والبعثات المسيحية الغربية والتي لعب دورا سلبيا ضد طائفة الروم الأرثوذكس وتحول العديد من أبناء الطائفة لها رغم الجانب الايجابي الآخر الخاص بالتعليم والمشافي وغيرها والمفتوحة للمسيحيين والاسلام، وتحدث في رسائله لصديقه رفيق رزق سلوم عما يجري بالقدس والكنيسة، وحكاية نضال صديقه رفيق رزق سلوم حتى استشهاده على المشنقة رافع الرأس.
في صفحة من الكتاب وعلى لسان الخوري متري حداد يقول “أن مسلمي بلادنا طوائف تتنافس فيما بينها مثلنا.. سني وشيعي، وحنفي وشافعي وصوفي وبهائي ودرزي.. ومن مجموع الطوائف والملل والأقوام ولدت القدس الجديدة.. بدأت بمجمع المسكوبية، ثم أحياء للعرب واليهود واليونان.” وهذه مغالطة بغض النظر عن المصدر ففلسطين لم تعرف الشيعة كطائفة، والحنفية والشافعية والحنبلية والمالكية مدارس اجتهادية لعلماء وليست طوائف ولم تشهد فلسطين أي صراعات بينها، وأما المتصوفة فهم ليسوا طائفة بل هم من اتباع الطرق الصوفية، والبهائيين ليسوا مسلمين والدروز لهم تاريخهم وكتابهم ولم تحصل بينهم وبين المسلمين أية صراعات.
شخصية أخرى تروي بعض من حكايات القدس وهي زهرة الأنصاري صديقة ميلادة وهي مسلمة وابنة شيخ، لتضاف الى الشخصيات التي ابتدعتها الكاتبة لتروي وتوثق حكايات القدس وتاريخها، وخاصة منذ القرن الخامس عشر وصولا للاحتلال الصهيوني في عام 1967 وما تلاه من اجراءات تهدف لتهويد القدس والاستيلاء عليها.
الرواية أكدت على مسألة التلاحم الوطني بين أهل القدس اسلام ومسيحيين، فأشارت لدور المفتي الحاج أمين الحسيني بإفشال خطة بريطانية يهودية لاشعال حرب طائفية بين المسلمين والمسيحيين، وأشارت لدعم المسيحيين للمفتي، لتنهي الرواية أن سائق المطران هو من هرب الأشرطة التي صورتها الراوية راوية الى عمَّان حتى لا يصادرها الاحتلال، ونلاحظ في الرواية اللجوء لجلد الذات في العديد من المواقع وأعتقد انه ان كانت هناك أخطاء من البعض فلا يجوز أن يتحملها كل الشعب الفلسطيني، وفي الحديث عن جيش الانقاذ يوثق التاريخ أن هناك عدد كبير من الشهداء من جيش الانقاذ استشهدوا من أجل فلسطين والقدس والأقصى وهذا ما اغفلت الاشارة اليه بوضوح، بينما القيادات كانت ترتهن لأوامر بريطانيا، وكذلك الحديث عن بيوت السهر والسكر والفحش والتي لعبت فيها اليهوديات دور كبير في اسقاط البعض وغالبيتهم من أبناء عائلات كان لها دورها الاقطاعي ضد ابناء الشعب، وشراء البيوت منهم سواء بوعي لافتقاد الحس الوطني او تحت تأثير الخمور والعاهرات، بينما في المقابل كان الفقر يعم غالبية الناس.
والرواية وإن تحدثت عن القدس وتاريخها لكن نلاحظ أن أسم القدس غاب عن الرواية وعن الغلاف، وأعتقد أن الروائية وضعت اسم “ترانيم الغواية” للرواية لجذب القارئ للكتاب واصفة بشكل خفي القدس بأنها امرأة الغواية فهي أغوت كل القوى التي احتلت القدس عبر التاريخ ولكنها طردتهم، ونلاحظ كثرة استخدام الأمثال التراثية في صفحات الكتاب وهي عملية ربط بين الشعب الفلسطيني صاحب الحق التاريخي منذ بنى اليبوسيين القدس وحتى الآن رغم الاحتلال الصهيوني، وفي نفس الوقت نلاحظ اللجوء إلى اللهجة المحكية ومن وجهة نظري هذا أضعف السرد المطلوب، واستخدمت للفصول عناوين لافتة للنظر في بعضها كانت بعيدة عن محتوى الفصل المعنون، امتلكت الأسلوب السلس الذي يشد القارئ واللغة الجميلة والتوثيق للمصادر حتى تخلي الكاتبة مسؤوليتها عن أية أخطاء وردت في الرواية، خاصة في أحداث تاريخية متعددة والتي وقعت في بعضها حين أوردت في رسائل الخوري متري حديث عن الحرب العالمية الثانية بينما الرسائل مكتوبة عام 1931م، إضافة لأحداث أخرى مثل ايراد الحديث عن الخلافة العثمانية في بعض المواقع والتي انتهت وتشكلت بدلا منها الدولة التركية، كما نجحت الكاتبة بروايتها المتكونة من مجموعة من الفصول تنقلت فيها معتمدة أسلوب الاسترجاع لدى كل شخوص الرواية وليس التسلسل الجاف، فأوردت الوجه الآخر للقدس وهو جانب المتعة والسينما والمسرح والثقافة والسهر والراقصات، غير المعروف للناس وخاصة لم يعيشوا فيها ولا يعرفون إلا وجه المقدسات والصلوات، لكنها حافظت على منهج البناء للرواية والعلاقات بين عناصر الرواية فهذه العلاقات تخضع لقوانين التركيب والبناء التي شكلت الأنموذج للبناء الروائي.
“عمَّان 8/10/2022م”