قصّة العبد شرف بريء – سعيد نفّاع

(قصّة)

عندما رُزق الياس وبديعة ببكرهما سميح لم تسع الدنيا الأسرة فرحًا، فهو المولود والحفيد الأوّل؛ ذكرٌ صبوحُ الوجه سليمُ الجسم. الفرحة الأكبر كانت من نصيب أمّ الياس التي دأبت أن تملأ الحارة روائحُ الثوم المحيوس، والقرفةِ المغليّة يتلاعب غليانها بحبّات الجوز البلدي التي كانت شالتها من تحويشة أيلول انتظارًا لحفيدها الآتي أواخر الخريف طبقًا لحساباتها وللتحقيق المعمّق الذي كانت أجرته مع بديعة، كنّتها، بعد أن رأت عليها العلامات وقبل أن تزفّ لها الكنّة الخبر.

آمنتْ، لا بل قطعتْ أنّ كنّتها حامل بحفيد ذكر وسيحمل اسم جدّه الذي كان سقط قبل أشهر، ولم يكن يعرف أنّ كنّته حامل، في معركة “أبو شْريتِح” غرب معليا في أوائل حزيران الثمانية وأربعين، التي كان خاضها متطوّعو المنطقة كتفًا لكتف مع شباب السريّة اليمنيّة المتطوّعين في جيش الإنقاذ.

وتروي أمّ إلياس، أن اليهود، بعد أن كانت سقطت الكابري، حاولوا احتلال معليا وترشيحا ولكنّ اليمنيّين وشباب المنطقة وأبو إلياس، وإن كان تخطّى الشباب، معهم، المهمّ أنّها تروي أنّهم هزموا اليهود وكبّدوهم عشرات القتلى والجرحى، وعلى ذمّتها قارب العدد على الثلاثين. وفي هذه المعركة والتي كانت هي الوحيدة التي عرفت أنّ أبو الياس ذهب حتّى يمنع من الياس ابنهما الوحيد الذهاب، وفيها راح أبو الياس لملاقاة ربّه وصار له “أجر” لم تعرف المنطقة مثيلًا له، ولم تعرف أمّ الياس أن تقول كم متطوّع من اليمنيّين راح في المعركة، رغم أنّ كلّ أهالي المنطقة يعرفون أنّه سقط منهم عدد دفَنهم رفاقهم في قبر جماعي قريبًا من أرض المعركة.

قطعتْ أمّ الياس بأنّ الربّ، تبارك وتعالى، سيرزقهم بسميح بدل سميح، قطعتْ لأنّ بديعة تميل إلى تناول المأكولات والأطعمة المالحة وكذلك المكسرات المالحة، وعليها تركّز وحامها. وأفضت بها تحقيقاتها مع كنّتها إلى أنّ الجنين حركته سريعة داخل الرحم، واعتمادًا على أنّ الجنين الولد أكثر نشاطاً وحيويةً من الجنين الأنثى، تعزّزت قناعتها.

وقد لاحظت أمّ الياس، أنّ وحامَ بديعة خفيف، وغيرَ مزعجٍ لها، ورغبتَها في تناول الطعام خفيفة، عكس الأم الحامل بجنين بنت، وكان وحامها تأخر ولم تشعر بالغثيان الصباحيّ المزعج المرافق لشهور الحمل الأولى. ولاحظت أمّ الياس أيضًا أنّ حمل كنّتها كذلك خفيف، وقد زادت حركتها ونشاطها، وكون الأم الحامل ببنت يكون نشاطها قليلًا وتحبّ النوم، حسب معرفتها، كلّ ذلك زادها قناعة أنّ الربّ العادل إن أخذ بيد يُعطي بالأخرى.

صحيح أنّ “سميح” وُلد وكثيرون من أهل بلدته الذين قرّروا لسبب ما أن يتركوا البلدة، بعد لم يُعرف مصيرهم، وكذلك الشباب الذين كانوا تطوّعوا مع جيش الإنقاذ أو الجهاد المقدّس، ومنهم “العبد شرف” والذي أشغل تركيب اسمه، عبد وشرف، قبل أن يشغل مجيئه الكثيرين من أهالي البلدة، وهو الغريب الذي حطّ فيها دون أن يفصح كثيرًا وهم لم يطالبوه بذلك ما دام حسَن السلوك. كان العبد شرف قد عمل أجيرًا بأجر الكفاف لدى كلّ من احتاج، قبل أن تستقرّ إقامته لدى المختار خادمّا مطيعًا باللّقمة وما يطلع من نفس المختار من قروش قليلة. العبد شرف هذا ويوم نادت البلاد أهلها للدفاع، لم يتوانَ وكان من أوائل من تطوّع لأحدى فرق جيش الإنقاذ وقد ذهب أعزل فما كان بإمكانه شراء بندقيّة ولا زوجة عنده ليبيع ذهبها لشراء بندقيّة، ذهب معتمدًا على جيش الإنقاذ أن يسلّحه أو يقوم بأيّ عمل خدماتيّ يُطلب منه، المهمّ أن يجاهد. ولولا ما صار مع العبد شرف ومع أمّ سميح ذلك الصباح الباكر لكان نُسي كغيره من المجاهدين الكثيرين الذين راحوا ولم يعودوا وبعضهم لم يُعرف لهم مكان دفن، هذا إن دُفنوا أصلًا. وانتصر اليهود بين مصدّق قليل وغير مصدّق كثير، وها هم جنودهم يجوبون أزقّة البلد عابثين يسألون كثيرًا دون أن يفهم عامّة الناس عن ماذا!

الحياة ستستمر انتصر اليهود أو لم ينتصروا، والخَبْز فيها سيستمر وأحسن ساعات الخبز في الصيف هي قبل أن يشق الفضاء العتمة، وكلّ ذلك كي لا تجتمع حرارة الموقدة وحرارة الشمس على الخبّازة. لكنّ لأمّ الياس كان قول آخر فكانت تقول إنّ يسوع له المجد كان مضى لتلاميذه في الهزيع الرابع ماشيًا على البحر، وهذا الوقت مبارك ويطرح البركة في الخَبْز.

كانت أمّ الياس قد حضّرت “العَجْنة” وخمّرتها وملّحتها ولفّتها بأغطية دافئة عاملة الّا تترك للعجين متنفّسا. وراحت تكسر نعاسها معتمدة على ساعتها البيولوجيّة، طبعًا دون أن تفقه في البيولوجيا والساعة البيولوجيّة شيئًا، إذ أنّ العجين بحاجة لثلاث ساعات حتّى يخمر، وما زال أمامها ترويجُه وتقطيعُه ولتُّه في الطحين الذكري أو طحين البليلة قبل أن يبدأ الخبيز. كلّ ذلك أخذ من أمّ الياس كلّ الهزيع الثالث من الليل، وقبل أن تنهض بديعة أو تنهضها مع بدء شقشقة الفضاء أوّل الهزيع الرابع الأخير، وبعد أن تكون حمّت الموقدة تحت صاج الحديد الترشحاني بأعواد الشجر البريّ اليابسة، لتبدأ بديعة مشوارها وقد ناداها الصاج المُحْمرّ فوق هسيس الحطب المشتعل، فلبّت رغم أشهر حملها المتقدّمة تقاسمًا للمهام مع حماتها.

اتّخذت بديعة مكانها جلوسًا على مقعد خشبيّ فوقه مخدّة عتيقة، وعلى يسارها الموقدة، ولجن العجين على يمينها فوقه الطارة، والمِرَقّة أمامها وتحتها صدرٌ نحاسي مليء بطحين البليلة. تتناول في يمينها قطع الخبيز لتبدأ برقّها على المرقّة بشكل دائري وما أن تستدير وتصير قرابة الشبرين قطرّا حتّى تأخذها بين يديها تلوحها بين ساعديها تناوبًا، إلى أن يصير القطر قدر ذراع وأبحّ فتلقح الرغيف على الطارة والطارة على الصاج ليصدر هسهسة مرافقة لرائحة العيش المحترق الطيّبة.

قبل أن يحمرّ الرغيف تكون قد تناولت قطعة العجين الثانية، وخلال رقّها تكون قد قلّبت الرغيف المحمّر على الصاج وبطريقة فنيّة تمنع احتراق الأصابع رغم سخونة الصاج، وما أن تنزعه واضعة إيّاه على صدر نحاسيّ حُضّر خصيصًا حتّى تكون الدائرة درات على غيره وهكذا دواليك، ودون أن تنسى بين الفينة والأخرى تحريك النار في الموقدة وتزويدها بالحطب حفاظًا على الحرارة المطلوبة للخَبْز منعًا لالتصاق الرغيف بالصاج من ناحية واحتراقه من الأخرى معرفة إحساسيّة قلّما تخيب.

كان الخَبْز في الخُشّة الطينيّة الملاصقة للدار، ولها باب يفتح على باحته وشبّاك يفتح على الزقاق الترابيّ المحاذي للبيت. وكانت كلّ حواس بديعة، بطبيعة الحال، مع الخَبْز فأيّ خلل في التركيز سيأتي بأثره السلبيّ على الأرغفة احتراقًا أو عدم استواء، وستسجّلها عليها حماتُها مثلبة، وهي التي عملت الكثير والطامحة ألّا تكون من أصحاب المثالب.

الجلبة التي يحدثها تجوال جنود اليهود في أزقّة البلد ليلًا صار أمرًا معتادًا ألفه الناس، لكن الجلبة التي سمعتها بديعة قريبًا من الخُشّة كانت أقوى وبدا لها وكأنّ كلمات بعربيّة مكسّرة تخالطها، حين أصاخت سمعها موقفة رقّ العجين. سمعت وقع خطوات ركض وصوت يقول: “وكّف… منكوّس”، همّت أن تقوم نحو الشبّاك غير أنّ زخّات من رصاص وجسد رجل تكوّم أمامها على العجين والخبيز كانا آخر ما سمعت ورأت.

لم تطُل الأيّام بسميح حتّى بدأ الذبول يغزو وجهه الصبوح، والاعتلال ينهك جسده السليم. لا الدكتور عطالله الوحيد في المنطقة أيّامها فاد، ولا فاد الماء المقدّس “ربيع الحياة” المجلوب من القسطنطينيّة والمحفوظ في كنيسة البلدة، ومثله ماء “أفرا” المجلوب من بلاد المسكوب. ولم تفد حتّى كلّ “رقْوات” و”وصْفات” كهنة وشيوخ وشيخات البلد وجاراتها الذين لم تترك أمّ الياس باب أحد منهم لم تطرقه.

حتَمَت أمّ الياس أنّ “النّقْزِة” التي أغمت بديعة حين سقط العبد شرف أمامها من الشباكّ على العجين مضرّجا بدمائه، كانت وراء اعتلال سميح في بطنها والذي لم يمهله طويلًا بعد أن رأى النور صبوح الوجه، وسرى حتمُها هذا سريان النار في الهشيم بين مقتنعٍ قليلٍ وصامتٍ مواسٍ كثير.

رُزق الياس بعدها ببنين وبنات، وظلّ الياس يزور مقبرة البلد تباعًا، وكلّما زارها كان يضع الزهور البريّة التي يقطفها من جنباتها ربيعًا، وتلك التي كان يجلبها في الخريف من أحواض الحاكورة، على قبور سميح الكبير وسميح الصغير والعبد شرف!

سعيد نفّاع

أيلول 2022

 

 

 

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*