“التعـــــاطــــــــــف الإنسانيّ يربـــــطنا ببعضنا، ليــــس بالشـــفقة أو بالتـــسامح، ولكن كبشر تَعَلَّموا كيفيّة تحويل المعاناة المشتركة إلى أمل للمستقبل”
(نلسون مانديلا)
مقدّمة: الألم والأمل ثنائيّة ضدّيّة لحالة إنسانيّة صعبة جدًّا، والتأرجح بينهما يتطلّب حلًّا لأنّه يعكس صراعًا داخليًّا يجعل الإنسان متوتّرًا، ويضعه في حالة من البحث عن التوازن الضروريّ لحياة أفضل تتّسم براحة بال ما يستطيع إليها سبيلًا. يحدث أن يستسلم الإنسان كي يصل لحالة من التقبل والشعور بالسلام كي يتعايش مع كل هذه المشاعر، ويحدث أن يهرب من الألم إلى حالة جيّدة وربما تكون متخيّلة.
الألم والأمل بلاغيًّا:
جناس ناقص مقلوب
يُقال في تعريف الجناس الناقص إنّه ما اختلف فيه اللفظان في واحدٍ من أربعة أمور، وهي نوع الحروف أو عددها أو ترتيبها أو هيئتها “أي حركاتها وسكناتها”، والمقلوب هو أحد أنواعه.
الجناس المقلوب هو الجناس الذي يختلف لفظه في ترتيب الحروف فقط، وينقسم هذا النوع إلى “القلب الكلّيّ” وهو الذي ينعكس ترتيب حروفه تمامًا، وذلك على نحو: حسامه فتحٌ لأوليائه حتفٌ لأعدائه، فإنّ “حتف” هي مقلوب “فتح“، والنوع الثّاني للقلب “قلب بعض” وهو الذي تنعكس فيه ترتيب الحروف جزئيًّا، وذلك على نحو قولهم: رحم الله امرأً أمسك ما بين “فكّيه” وأطلق ما بين “كفّيه“، فإنّ القلب قد أصاب أوّل حرفين من اللفظين فقط دون غيرهما.
أمّا النوع الثالث للقلب فهو “المجنّح” وهو ما كان أحد الألفاظ المقلوبة في أوّل البيت والثاني في آخر البيت، وسمّي بذلك لأنّه يعدّ كالأجنحة للبيت الشّعريّ، ومن ذلك قول الشّاعر: سَاقٍ يُريني قَلْبُهُ قَسْوَةً وَكُلّ ساقٍ قَلْبُه قاسِي، فـ”قاس” هي عكس حروف “ساقٍ” وقد وردت أحدهما في أوّل البيت والثانية في آخره، وأمّا النوع الأخير للقلب فهو “المستوي” وهو ما يمكن قراءة ألفاظ العبارة فيه طردًا وعكسًا، وذلك على نحو قول الشّاعر: “أرانا” الإلهُ هلالًا “أنارا“.
وقول أبي تمّام: بيض الصّفائح لا سود الصّحائف في متونهنّ جلاء الشّكّ والريبِ. “الصّفائح” و “الصّحائف” جناس ناقص، نوعه مقلوب، وقد وقع القلب في آخر حرفين فقط، فهو “قلب بعض” (الدّندل، 2020).
جدليّة الألم والأمل:
الجدليّة هي فنّ الحوار والجَدَل. وتعني كلَّ فكر يأخذ بعين الاعتبار طرح الواقع عبر تفاعلات اكتسبت عند هيغل معنى فلسفيًّا جديدًا وعميقًا، ما زال سائدًا حتى يومنا، لأنّه كمؤسِّس المثالية المطلقة فقد جعل منها قانونًا يحدِّد مسيرة الفكر والواقع عبر تفاعلات النفي المتتالي للطريحة Thesis والنقيضة Antithesis، وحلِّ إشكاليات المتناقضات القائمة من خلال الارتقاء إلى الشميلة Synthesis – تلك التي سرعان ما يجري تجاوزُها هي الأخرى، ومن نفس المنطلق. وهكذا، يتحول “الفعل السلبيّ” ليصبح جزءًا من الصيرورة، الأمر الذي يجعله، وفق هيغل، محركًا للتاريخ وللطبيعة وللفلسفة.
ويقبل ماركس وإنجلز جدليّة هيغل كطريقة، لكن، على حدِّ قولهما، “بعد إنزالها من السماء إلى الأرض”، فيطبِّقانها على دراسة الظواهر التاريخيّة والاجتماعيّة، وبشكل خاصّ على دراسة الظواهر الاقتصاديّة، لأنّ الروح أو الفكرة، من منظورهما، ليست هي التي تحدِّد الواقع، إنّما العكس. وكان هذا هو المفهوم الذي طوَّره فيما بعد الماركسيّون اللّاحقون، كلينين وماو تسي دونغ، الذين جعلوا من تلك “المادّيّة الجدليّة” منظومة فكريّة شبه متكاملة.
أصبحت الجدليّة خلال القرن العشرين تعني كلَّ فكر يأخذ بعين الاعتبار، بشكل جذري، ديناميَّة الظاهرات التاريخيّة وتناقضاتها. من هذا المنطلق، كان مفهوم باشلار عن “فلسفة اللا” محاولةً عقلانيّةً لتطوير المفاهيم العلميّة، التي وصفها أيضًا بـ “الجدليّة”، كي يبيِّن، في العلوم، الحركة التدرجيّة لنظريات سبق أن كانت مقبولة عالميًّا، ثم تمَّ تجاوزها، وذلك من خلال شَمْلها ضمن مفاهيم أوسع وأكثر انفتاحًا (ويكيبيديا، 2021)
الألم والأمل وما بينهما عند سميح القاسم
قصيدة “تعالي لنرسم معاً قوس قزح” نموذجًا:
في كتاب: “في انتظار طائر الرعد، 1969”. (القاسم، 1979، ص 405-411).
ما هو الألم؟
الألم هو تجربة حسّيّة وعاطفيّة بغيضة متعلّقة بضرر نسيجيّ فعليّ أو كامن، أو موصوفة بمصطلحات تمثل ضررًا كهذا. الألم عادة هو إحساس أو شعور سلبيّ بعدم السعادة والمعاناة. قد يكونُ مادّيًّا أو معنويًّا بحسب العوامل التي تسبّبه، فقد يكون نتيجة إحساس أو شعور. المادّيّ قد يكون مثل الصداع أو المغص والمعنويّ مثل الحزن والقلق والتوتّر. وظيفة الألم هي التنبيه لوجود مرض معيّن أو خلل.
لقد صاغت الجمعية الدولية لدراسة الألم التعريف الأكثر شيوعاً للألم: “الألم هو تجربة شعورية وحسيّة غير سارّة تصاحب أذيّة نسيجيّة محتملة أو فعليّة، أو توصف بالأوصاف المعبّرة عن هذه الأذيّة.” (فولتارين، 2020).
قد يبذل بعض الأفراد جهدًا كبيرًا لتعلّم طريقة تسكينه. قدرة الفرد على الشعور بالألم هي التي تمكّنه من تجنّب الأذيّة الدائمة، ممّا يشير إلى أنّ الألم تطوّر كآليّة دفاعيّة تنبهنا إلى وجود أذيّة، لتتيح لنا بذلك حماية أنفسنا.
يحدث الألم عندما يقوم مثير خارجيّ، كلمس النار مثلًا، بتفعيل الخلايا المستقبلة العصبيّة، لتقوم بإرسال رسائل عبر النخاع الشوكيّ إلى الدماغ. وتمتاز هذه المستقبلات بالقدرة على الشعور بالحرارة، والبرد، والضوء، واللمس، والضغط، والألم. كما قد يؤدّي الألم إلى ظهور أعراض جسديّة أخرى، كالغثيان، والدوار، والوهن. وفي معظم الحالات، فإنّ رد الفعل الأوّليّ على الألم يكون بالتوقّف عن الحركة، ويعتقد العديد من الأشخاص بأنّ الراحة قد تساعد على الشفاء، ولكنّ الحركة الخفيفة قد تساعد في بعض الحالات على تسريع التعافي (فولتارين، 2020).
هزيمة أم نكسة؟
الألم في سياق القصيدة هذه هو نتيجة للهزيمة وهو الطريحة Thesis.
لم يستعمل القاسم في قصيدته التعبير “النكسة” إنّما استعمل “الهزيمة” لأنّ كلمة النكسة تلطّف ما حدث بالفعل. ورد هذا في القصيدة كما يلي:
نازلًا كنت: على سلم أحزان الهزيمة (سطر 1).
أغمضي عينيك من عار الهزيمة (سطر 38).
يبَّست حنجرتي ريح الهزيمة (سطر 41).
أحزان الهزيمة (سطر 75). (القاسم، 1979، ص 405-411).
لقد طرح صادق جلال العظم تعبير الهزيمة وعلّل ذلك بما يلي:
“دفعتني حالة الإنكار والهروب هذه الى العمل بمزيد من السرعة (والتسرّع أيضًا) لإصدار كتابي، مع الإصرار الشديد على استخدام تعبير “الهزيمة” لوصف ما حدث بدًلا عن عبارة “النكسة” التي كانت قد دخلت حقل التداول الرسميّ والفكريّ والشعبيّ بغرض تمويه حقيقة ما حدث ووقع، وبالفعل كان كتاب النقد الذاتيّ بعد الهزيمة أوّل عمل واسع الانتشار يُسمِّي الهزيمة باسمها علنًا وصراحة وعلى رؤوس الأشهاد وبلا أيّة محاولة للتلطيف والتهوين على المكتوين بنارها ونابالمها. من العلامات المُذهلة على حالة الانكار المذكورة قيام أحد أبرز قادة حركة القوميّين العرب في لبنان يومها، محسن إبراهيم، وأحد أهمّ المُنظّرين للناصريّة والمُدافعين عن الخطّ الناصريّ في العالم العربيّ بنشر مقال في مجلة الحرّيّة الصادرة في بيروت فورًا بعد الهزيمة يحمل عنوانًا يفسِّـر نفسه بنفسه: “كلّا لم يخطئ عبد الناصر ولم يُهزم العرب” أمّا في دمشق فقد كان الشعار المتداول بكثافة هائلة رسميًّا وشعبيًّا قبل الهزيمة بأيّام يقول: “لن يمرّوا”، وبقي الشعار ذاته متداولًا لفترة مديدة بعد أن مرّوا وقضي الأمر وانتهت الحفلة” (العظم، 2007، ص 6-7).
أصبحت الهزيمة جرحًا هزَّ الكيان العربيّ كلّه ثقافيًّا وأدبيًّا واقتصاديًّا وعلميًّا وسياسيًّا، وهذه القصيدة هي موقف سميح القاسم من هذا الجرح، إذ صدمت الهزيمة الشاعر فحزن، وسيطر الحزن عليه، وفي هذا يقول السماعنه: “غاص فيه واستسلم له، ولم يعد يشعر بالحياة وقد تراكمت عليه الأحزان قديمها وجديدها، فرضي بالاحتراق من غير عمل ومن غير جهد من أجل الخلاص (السماعنه، 2020، ص 1).
عبّر القاسم عن ألمه الكبير مستعملًا تعابير بلغة المفرد بضمير المتكلّم “أنا”: “كنت، أحزاني، وحدي، سجني، أبكي، أصلي، أتطهّر، صدري، ناديت، يمتصّني موت بطيء(مرّتين)، في العتمة وحدي، فمي ناي مكسّر. وتعابير مشحونة بألم شديد، مثل: كانت عيونًا مطفأة، الجرح الجديد، العار الجديد، المنفى الكبير، الغربة، السجن الكبير، الصوت المشحون حزنًا وغضبًا، انكسارات العرب، ليدلّ على حزنه وألمه الشخصيّ وليعبّر عن عمق ألمه، وكلمة “نازلًا” ترمز إلى الانكسار وطأطأة الرأس بسبب الهزيمة.
وبعد هذا انتقل القاسم إلى لغة الجمع بضمير المتكلّم “نحن”، مثلًا: “لنكن، لم أكن وحدي، استوى المارق والقدّيس، وكأنّا التقينا، احترقنا، وغيرها”. هدف الانتقال من لغة المفرد إلى لغة الجمع هو تأكيد عدم ذاتيّة الموضوع وإبراز شموليّته لكلّ الشّعب، وكأنّه يعترف بأنّه لم يكن وحيدًا في هذا الشعور، وأنّ كثيرين عاشوا حالة حزن وألم ومعاناة مثله، وفي هذا إشارة واضحة إلى المعاناة الكلّيّة للمجتمع العربيّ بعد الهزيمة. هذا الأسلوب يؤدّي إلى تماهي المتلقّي مع مطلب الشّاعر، ممّا يخفف من حزنه، فها هو ليس وحيدًا في ألمه، وكما يقول المثل المحكي: “الموت بين الناس نعاس”.
ما هو الأمل؟
الأمل هو النهضة المتأمّلة مستقبلًا وهو النقيضة Antithesis.
الأمل يعني أن نكون مستعدّين في كلّ لحظة لذلك الذي لم يولد بعد، ومع هذا لا نصبح يائسين إذا لم يولد بعد إبّان حياتنا. أولئك الذين لديهم أمل واهن يكتفون بالراحة أو بالعنف، وأولئك الذين لديهم أمل قويّ يرون ويستريحون لكلّ أمارات الحياة الجديدة وهم مستعدّون في كلّ لحظة للمساعدة بفرح في توليد ذلك الذي مهيّأ لأن يولد (فروم، 2010، ص 25).
عبّر القاسم عن أمله مستعملًا تعابير فيها نهضة من الذلّ ومن الانكسار:
“وكان الحزن مرساتي الوحيدة
يوم ناديت من الشط البعيد
يوم ضمّدت جبيني بقصيدة
عن مزاميري وأسواق العبيد” (القاسم، 1979، ص 407).
“وتحدّثنا عن الغربة والسجن الكبير
عن أغانينا لفجر في الزمن
وانحسار الليل عن وجه الوطن
وتحدّثنا عن الكوخ الصغير
بين أحراج الجبل” (القاسم، 1979، ص408).
وتعابير مثل: يا حبيبي، احضنيني، شبك الحبّ يديه بيدينا، طفلة، ديوان غزل.
الأمل يعني أنّ القاسم لا يستسلم للبكاء ولا ينزل ثانيّة، وها هو يخاطب حبيبته قائلًا:
” ارفعي عينيك!
أحزان الهزيمة
غيمه تنثرها هبة الريح
ارفعي عينيك، فالأمّ الرحيمة
لم تزل تنجب، والأفق فسيح” (القاسم، 1979، ص410).
يخاطبها قائلًا إنّ ما جرى غيمة ستزول فلا تيأسي، ارفعي عينيك وواجهي الواقع فما زالت الأمّ والأرض تنجب وها هو الأفق فسيح، فلماذا اليأس؟ انظري إلى الغد المشرق، وإلى الزوال الحتميّ للظلام. وسيتحقّق ما حلمنا به: الكوخ والجبل والهدوء والطفلة “طلل” والورد والحبّ، وكل هذه علامات التفاؤل والثقة بمستقبل جميل:
“وسآتيك بطفلة
ونسميها طلل
وسآتيك بدوري وفلّة
وبديوان غزل !!” (القاسم، 1979، ص 411).
ما هو الـ “ما بينهما”؟
السلام هو المُهيّأ لأن يولد وهو الشميلة Synthesis.
يحلم القاسم بالسلام على الرغم من آلامه من وجع الهزيمة، وأحزان الهزيمة، والسلام الذي يريده يأتي بعد الألم والجرح والدم والحزن والغضب من “زحف التتار وانكسارات العرب”، يأتي على أنقاض أبراج الحمام:
“جعلوا جرحي دواة، ولذا،
فأنا أكتب شعري بشظيّة
وأغنّي للسلام!” (القاسم، 1979، ص 410).
قال نلسون منديلا: “الشجعان لا يخشون التسامح من أجل السلام”. هكذا هو القاسم، إنّه شاعر شجاع، فهو يغنّي للسلام ويخاطب حبيبته راسمًا عينيها على جدران سجنه، وإذا حلّ الظلام يتراءى وجه حبيبته المعبود في باله، وعند ذلك يبكي ويغنّي وفي الوقت ذاته يعلن لها:
“نحن يا غاليتي من واديين
كلّ وادٍ يتبنّاه شبح
فتعالي… لنحيل الشبحين
غيمة يشربها قوس قزح!” (القاسم، 1979، ص 411).
لقوس قزح مكانة خاصّة، ففي أساطير وخرافات الشعوب لعب دورًا هامًّا:
في الأساطير اليونانية قوس قزح هو مسار إيريس، إلهة قوس قزح، بين الأرض والسماء.
في الاساطير الإيرلندية طرف قوس قزح هو المكان الذي خبأ فيه الشيطان هلفركون مخزون الذهب الذي يمتلكه.
في الأساطير الإسكندنافية (النوردية) يسمى قوس قزح “جسر بيفروست ” وهو الجسر الذي يوصل بين “إسكارد” عالم الآلهة وبين “ميدكارد” عالم البشر.
وفي سياق قصيدتنا “تعالي لنرسم معًا قوس قزح”، قوس قزح هو اسم لإله الطقس والمطر والخصوبة Jordan, 2005, p. 260)).
والقاسم يعلنها صراحة وخاصّة أنّ هذا المقطع ذُكر مرّتين في وسط القصيدة وفي نهايتها:
“وسآتيك بطفلة
ونسميها ” طلل ”
وسآتيك بدوريّ وفلـّة
وبديوان غزل!!” (القاسم، 1979، ص 411).
شعريّة القصيدة والعلاقة بين المضمون والشكل
الشعر هو نتاج إبداعيّ له بناء ترتبط أجزاؤه ببعضها البعض، يحتوي على مضمون معيّن وشكل فنّيّ يفترض أن يلائم المضمون. الشكل الفنّيّ يحتوي على صور ذهنيّة وأصوات وحركات وموسيقا واستعارات ورموز وغيرها. ففي حالة الفرح نسمع أحرفًا وكلمات راقصة وإذا كانت حالة حزن نسع صوت أنين. الشعر كما يعتقد الشاعر الفرنسي بول فاليري (Paul Valéry) هو التردّد الدائم بين النغمة والمضمون، يقول: “الموسيقا قبل كلّ شيء”، للكلمة رسم ونغمة. الإيقاع الداخلّي في القصيدة من ضرورات الشعر فيجب أن يجمع بين المضمون والصور، بين صوت الأحرف والكلمات وحالة الشاعر النفسيّة، فهذا هو الرابط بين مضمون القصيدة وشكلها الفنّيّ. في الحالات الجميلة نسمع إيقاعًا هادئًا، وفي حالات الغضب نسمع أصواتًا عالية. في حالات الحزن نسمع صوت بكاء وانهمار دموع.
يفعله الشاعر كلّ هذا بكتابة الحالات بوسائل وأدوات فنّيّة، مثلًا:
- التكرار
تمتاز قصيدة “تعالي لنرسم معًا قوس قزح” بالتكرار كأسلوب تعبيريّ يبرز الاستنكار وتأكيده وتكثيفه ولجذب المتلقّي وإثارته، للتهويل والاستنكار، ويعكس أيضًا جانبًا نفسيًّا وانفعاليًّا عند الشاعر يريد نقله إلى المتلقي. في هذه القصيدة نجد عدّة أنواع منه:
- تكرارًا للّفظة الواحدة في أوائل جمل متعاقبة غرضها بلاغيّ ويسمّى تكرار الصدارة أو التكرار الاستهلالي (Anaphora) مثلًا:
- نازلًا ثلاث مرّات، واغفري لي مرّتين، أغمضي عينيك مرّتين، وكأنّا ثلاث مرّات، وستأتيني مرّتين، وسآتيك مرّتين، الحمام الزاجل مرّتين.
- تكرار توكيديّ وهو عبارة عن تكرار كلمة بشكل متتابع، مثلًا: أحرقيني… أحرقيني لأضيء مرّتين، أجيبيني… أجيبيني!، واستوى المارق والقدّيس ثلاث مرّات.
- تكرار حرف العطف “و” مثلًا: واستوى، واغفري عشرات المرّات ربّما لربطها بما قبلها لتقوية النصّ وجعله متراصًّا ومتكاملًا.
يعتبر التكرار أحد علامات الجمال البارزة، لقد وضع أرسطو منذ القدم أركانًا للجمال لعلّ أبرزها قانون الوحدة في المأساة، وتقوم أهمّيّة الوحدة في أنّها: “منها تتفرّع باقي أركان الجمال: الانسجام أو تلاؤم الأجزاء، التناسب، التوازن، التطوّر، التدرّج، التقوية والتمركز، الترجيح والتكرار (هيجل، 1978، ص 71)
أكثر الشاعر في القصيدة من استعمال التكرار كما ورد في الأمثلة ليقوم بدوره التأكيديّ، ويريد بذلك إثارة التوقّع لدى المتلقّي، وتأكيد المعاني وترسيخها في ذهنه وحثّه وإثارة حزنه، وكان التكرار إيقاعيًّا كي يساهم في بناء إيقاع داخليّ يحقّق انسجامًا موسيقيًّا خاصًّا. وبذلك أراد الكاتب إبراز النغمة الحزينة والمتأفّفة والمندهشة ممّا يحدث، وهكذا هو يثير توقع المتلقّي ويرسّخه في ذهنه علَّه يدفعه للقيام بعمل ما متماثلًا مع رغبة الكاتب نفسه.
- القافية
القافية هي أحد العناصر الإيقاعيّة في القصيدة قديمًا وحديثًا، ولكنّ الشاعر الحديث لم يلتزم بالقافية والرويّ، فسميح القاسم في قصيدته وضع قافية متغيّرة، مثلًا:
- قافية التصالب بين السطر الأول والثالث وبين الثاني والرابع -أ ب أ ب:
- نازلًا كنت: على سلم أحزان الهزيمة (أ)
نازلًا… يمتصّني موت بطيء (ب)
صارخًا في وجه أحزاني القديمة: (أ)
أحرقيني! أحرقيني… لأضيء! (ب)
القافية بين “الهزيمة” و “القديمة” وبين “بطيء” و”لأضيء”.
- ووحدي كنت، في العتمة وحدي (أ)
راكعًا… أبكي، أصلّي، أتطهّر (ب)
جبهتي قطعة شمع فوق زندي (أ)
وفمي… ناي مكسّر… (ب)
القافية بين “وحدي” و “زندي” وبين “أتطهّر” و” مكسّر “.
- قافية الاحتضان بين السطر الأوّل والرابع وبين الثاني والثالث أ ب ب أ
- أغمضي عينيك من عار الهزيمة
- أغمضى عينيك… وابكي، واحضنيني
- ودعيني أشرب الدمع… دعيني
- يبَّست حنجرتي ريح الهزيمة
القافية بين ” الهزيمة ” و ” الهزيمة ” وبين ” واحضنيني ” و” دعيني “. السطران الأول والرابع يحتضنان الثاني والثالث، ممّا يشير إلى الحاجة بالاحتضان بسبب الهزيمة.
- قافية متجانسة أي أنّ جميع الأسطر تنتهي بنفس القافية (نا). أ أ أ أ
- وكأنّا منذ عشرين التقينا (أ)
- وكأنّا ما افترقنا (أ)
- وكأنّا ما احترقنا (أ)
- شبك الحب يديه بيدينا… (أ)
تعني القافية أنّه في السطر الشعريّ توجد نغمة تتكرّر بشكل مُنظّم في آخره وهذه النغمة غالبًا تحاكي أحاسيس الشاعر المُعبّر عنها بالمضمون. في القافية المتصالبة تتشابك المضامين في بعضها البعض وفي قافية الاحتضان يعبّر الشاعر عن حاجته للدفء والحماية ولمن يحتضنه، أمّا في القافية المتجانسة مثل المدّ في “نا” فتعبّر عن التأوّهات الطويلة.
- المجاز
هو الابتعاد عن المعنى الظاهر والذهاب إلى معنى مقترن به. أي أنّ اللفظ يُقصد به غير معناه الحرفيّ، بل معنى له علاقة غير مباشرة بالمعنى الحرفيّ. والمجاز من الوسائل البلاغيّة التي تكثر في الشعر إذ يعطي الشاعر انزياحًا عن المعنى المقصود ممّا يتطلّب من المتلقّي التفكير بما يقصده الشاعر، وهو يستطيع ذلك من سياق القصيدة ومن الحالات المختلفة فيها ومن بعض الرموز التي تشير إلى حقائق معيّنة، فالاستعارة بكلّ أنواعها والكناية هي في هذا المجال. أمثلة: سلّم أحزان الهزيمة، يمتصّني موت بطيء، وجه أحزاني القديمة، صدري ردهة، الحزن مرساتي الوحيدة، ضمّدت جبيني بقصيدة، وغيرها.
- الثنائيات الضدّيّة
الثنائيات الضدّيّة تضخّم المعنى وتؤكّد مضمونه، أمثلة:
- لم أكن وحدي، ووحدي كنت. تضادّ بين “لم أكن” وبين “كنت”.
- واستوى المارق والقدّيس. تضادّ بين “المارق” وبين “قدّيس”.
- الفصل: Asyndeton
الفصل هو عبارة عن مجموعة من الأسماء أو الأفعال وغيرها معطوفة الواحدة على الأخرى بدون أداة عطف وذلك من أجل إبراز الحزم، التوتّر، التوقّع، الفزع والهلع والأحاسيس الجيّاشة وغيرها (أوخماني، 1979، ص 67)، مثلًا:
“أبكي، أصلّي، أتطهّر”
- الأفعال
الفعل هو كلُّ لفظ يَدُلُّ على حصول عملٍ في زَمَنٍ خاصٍّ. ويدلّ الفعل على حركيّة وحالة معيّنة حسب السياق.
تعدّدت الأفعال في القصيدة: الفعل الماضي الناقص “كان” ورد 6 مرّات كفعل مساعد للحالة الشعرية. أفعال ماضية أخرى مثل: ناديت، كنت نازلًا، استوى، نسيتها، باعوها وغيرها.
والفعل المضارع ورد بكثافة أكثر من الفعل الماضي مثل: يمتصّني، أمتطي، أبكي، وسآتيك وغيرها.
وفعل الأمر ورد قليلًا مثل: ميدي، اغفري، أحرقيني وغيرها.
الأفعال جميعها في القصيدة تزيد من إيقاعها وحركتها، ومن ناحية المضمون هي تعكس حالة من الماضي واستمراريّتها في الحاضر، أمّا الأمر فجاء كمن يطلب حلولًا للحالة.
خاتمة
قمنا بدراسة قصيدة تعالي لنرسم معًا قوس قزح من ديوان في انتظار طائر الرعد لسميح القاسم، نظرًا لأهمّيّتها في بثّ الأمل، حسب رأينا، لدى المتلقي. هي قصيدة مركزيّة في شعره بعد النكسة/ الهزيمة في نظر الشاعر. وجدنا طرحًا مثيرًا للألم في أعقاب الهزيمة ولكنّ الشاعر يطمئننا أنّ الخير قادم، وسوف يأتي لحبيبته بطفلة جميلة وبديوان غزل، هذا يحدث في أيّام هادئة وآمنه. وجدنا أيضًا خبرة الشاعر الكبيرة في توظيف الأدوات الفنّيّة للشعر واستثمارها في خدمة قصيدته.
قائمة المراجع والمصادر
أوخماني، عزريئيل. (1997). مضامين وأشكال. قاموس المصطلحات الأدبيّة. تل أبيب: منشورات بوعاليم.
الدّندل، جعفر. (2020). الجناس في اللغة العربيّة. موقع سطور:
السماعني، محمّد. (3.6.2020). ظلال النكسة في قصيدة سميح القاسم “تعالي لنرسم معًا قوس قزح” (ملفّ 9). موقع الناقد العراقيّ: https://www.alnaked-aliraqi.net
العظم، صادق جلال. (2007). النقد الذاتيّ بعد الهزيمة. دمشق: دار ممدوح عدوان للنشر.
القاسم، سميح. (1979). ديوان سميح القاسم. حيفا: منشورات عربسك.
القاسم، سميح. (1969). ويكون أن يأتي طائر الرعد – قصائد. عكّا: دار الجليل.
فروم، أريك. (2010). ثورة الأمل. ترجمة مجاهد مجاهد. القاهرة: مكتبة دار الحكمة.
هيغل، جورج فيلهلم. (1978). المدخل إلى علم الجمال (ترجمة جورج طرابيشي). بيروت: دار الطليعة.
فولتارين. (2020). ما هو الألم؟ موقع فولتارين:
https://voltaren.me/ar/understanding-pain/what-is-pain.html
ويكيبيديا، الموسوعة الحرّة. (2021). جدليّة، الألم، قوس قزح. ويكيبيديا:
https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AC%D8%AF%D9%84%D9%8A%D8%A9
Jordan. M. (2005). Dictionary of Gods and Goddesses. New York: Checkmark Books.
ملحق القصيدة.
تعالي لنرسم معاً قوس قزح / سميح القاسم
نازلاً كنت: على سلم أحزان الهزيمة
نازلاً.. يمتصني موت بطيء
صارخاً في وجه أحزاني القديمة:
أحرقيني! أحرقيني.. لأضيء!
لم أكن وحدي،
ووحدي كنت، في العتمة وحدي
راكعاً.. أبكي، أصلي، أتطهر
جبهتي قطعة شمع فوق زندي
وفمي.. ناي مكسّر..
كان صدري ردهة،
كانت ملايين مئة
سجّداً في ردهتي..
كانت عيوناً مطفأه!
واستوى المارق والقديس
في الجرح الجديد
واستوى المارق والقديس
في العار الجديد
واستوى المارق والقديس
يا أرض.. فميدي
واغفري لي، نازلاً يمتصني الموت البطيء
واغفري لي صرختي للنار في ذل سجودي:
أحرقيني.. أحرقيني لأضيء
………….
نازلاً كنت،
وكان الحزن مرساتي الوحيدة
يوم ناديت من الشط البعيد
يوم ضمدت جبيني بقصيدة
عن مزاميري وأسواق العبيد
من تكونين؟
أأختاً نسيتها
ليلة الهجرة أمي، في السرير
ثم باعوها لريح، حملتها
عبر باب الليل.. للمنفى الكبير؟
من تكونين؟
أجيبيني.. أجيبي!
أي أخت، بين آلاف السبايا
عرفت وجهي، ونادت: يا حبيبي!
فتلقتها يدايا؟
أغمضي عينيك من عار الهزيمة
أغمضى عينيك.. وابكي، واحضنيني
ودعيني أشرب الدمع.. دعيني
يبَّست حنجرتي ريح الهزيمة
وكأنا منذ عشرين التقينا
وكأنا ما افترقنا
وكأنا ما احترقنا
شبك الحب يديه بيدينا..
وتحدثنا عن الغربة والسجن الكبير
عن أغانينا لفجر في الزمن
وانحسار الليل عن وجه الوطن
وتحدثنا عن الكوخ الصغير
بين احراج الجبل..
…………….
وستأتيني بطفلة
ونسميها ” طلل ”
وستأتيني بدوريّ وفلـّه
وبديوان غزل!
…………
قلت لي – أذكر –
من أي قرار
صوتك المشحون حزناً وغضب
قلت يا حبيَ، من زحف التتار
وانكسارات العرب!
قلت لي: في أي أرض حجرية
بذرتك الريح من عشرين عام
قلت: في ظل دواليك السبيه
وعلى أنقاض أبراج الحمام!
قلت: في صوتك نار وثنية
قلت: حتى تلد الريح الغمام
جعلوا جرحي دواة، ولذا،
فأنا أكتب شعري بشظيَّة
وأغني للسلام!
……………….
وبكينا
مثل طفلين غريبين، بكينا
الحمام الزاجل الناطر في الأقفاص، يبكي..
والحمام الزاجل العائد في الأقفاص
….. يبكي
ارفعي عينيك!
أحزان الهزيمة
غيمه تنثرها هبة الريح
ارفعي عينيك، فالأم الرحيمة
لم تزل تنجب، والأفق فسيح
ارفعي عينيك،
من عشرين عام
وأنا أرسم عينيك، على جدران سجني
وإذا حال الظلام
بين عيني وعينيك،
على جدران سجني
يتراءى وجهك المعبود
في وهمي،
فأبكي.. وأغني
نحن يا غاليتي من واديين
كل واد يتبناه شبح
فتعالي.. لنحيل الشبحين
غيمة يشربها قوس قزح!
………….
وسآتيك بطفلة
ونسميها ” طلل ”
وسآتيك بدوريّ وفلـّه
وبديوان غزل!!
(من كتاب “في انتظار طائر الرعد” -قصائد- دار الجليل للطباعة والنشر، عكا، 1969).