قصة للفتيان:
“وجعلنا مِن المَاء كلَّ شيءٍ حي”
صَدَق الله العَظيم
بقلم: فتحية امين عبد الفتاح
في البَدء، كنتُ عنصرًا يسبحُ في خضمِّ فضاءٍ رَحب سحيق مَع مَجموعةٍ هائلةٍ مِن العناصر المُختلفة، نَدورُ ونَلف فِي فلكٍ لا نعرفُ له بدايةً ولا نهاية، فجأة شعرت أنَّ أحدَ العناصر يَسبحُ إلى جانبي وصَار يَنْجذِبُ اليَّ بسرعةٍ هائلةٍ، حاولتُ الهروبَ مِنه لكن سرعته كانت أكبر مِني فلم أستطعْ الإفلات منه، ثُمَّ تلاهُ آخِر مِن نفس نوعِه وراحا يلفَّان ويدوران مِن حولي ويُحاصِراني في حيّزٍ ضَيق وهكذا صار الحَيّز يضيق ويضيق، إلى أن تدخَّلت يدُ الرَّب وجمعتنا باتحاد، ربَّما لأمرٍ ما كانت مشيئة الرَّب تعمل لأجلِه، فكُنت أنا الاكسجين وهُما الهيدروجين تنازل كلٌّ مِنَّا عَن بعض صِفاتِه لنسهِّل عمليَّة اندماجنا لنكون معًا وليدًا جديدًا قطرةَ ماء .
صرنا ننتَشرُ في الفضاءِ، ونتجمَّع بعضُنا إلى بعضٍ، ونتكاثرُ بسُرعةٍ هائلةٍ، والغريبُ في الأمر، أنَّنا أصبَحنا كلَّنا نحملُ نَفسَ الصِّفات، كنَّا كُلَّنا بدون لون أوْ طَعم ولا رائحة، هُنا وقفت أحد القَطرات، وكانت قطْرَة رَعناءَ، لمْ يُعجبها الأمر، غضِبَت وصَارت تُزبِد وتُرعد رافِضَةً أنْ تكونَ بدون لَون قائلة:
- أُريدُ لونًا جذَّابًا ورائِحةً ذكيَّةً وطعمًا لذيذًا، أريدُ أنْ أكونَ مميَّزَةً عَنكُم.
فجأةً سَقَطَت إلى الأرض، نّظَرت رفيقاتُها إلى مَكان سُقوطِها عَلى الأرض، وكَانت دهشَتهُم عَظيمَةً عندما رأوا اللَّونَ الأخضَر يملأ المَكان الَّذي سَقطت فيهِ قطرةَ المَاء، ثُمَّ هَبَّت ريح باردِة، فَراحَت تتساقطُ قَطراتُ المَاءِ واحدَة تِلوَ الأخرى، رويدًا رويدًا اشتَدَّ تساقُطَ القَطَرات حَتَّى امتلأت الأرض، وفاضَ المَاءُ منسابًا في الأنهُر والوِديَان
ابتهجَت قطراتُ المَاء وهُنَّ ينظُرْن إلى جَمال تدفُّق الحَياةِ عَلى الأرضِ، اقتربت إحدى القَطرات مِن رفيقَتِها الَّتي كَانت تَنسابُ مَعها فِي الوادي وقالت:
- ما السِّر الَّذي بداخِلِنا حتى استَطَعنا أن نُحوِّل الأرض المُقفِرة إلى خضراءَ تتدفَّق جمالًا وحياة،
ردَّت أختها قائِلةً:
- الآنَ فَهِمتُ أمرَ الرَّب حينَ جَمعنا فِي اتحادٍ واحد، وأرسَلَنا لِنُحي الأرضَ ونعمِّرَها، انظُري كيفَ دبَّت الحياةُ فِي الأرضِ، أزهَرَت بوجودِنا واعشَوْشَبَت بعدَ ما كانت مُقفِرة قَاحِلةً نَحنُ اكسير الحَياة وسرَّها يا رفيقتي، وبدونِنا لا حياةَ ولا وجودَ. فينا الرِّقَّة والقَسوَة، إذا قَسَونا وغَضِبنا نُحطِّم الجِبال، ونُغرِق الأرض ومَن عَليها بِجَبَروتِ قوَّتِنا، ولا تَستطيع قوَّة مَهما عظُمَت الوقوفَ فِي وجهِنا، وإذا ما عومِلنا بفَهم وحِكْمَه نَستطيع أن نفعَل العَجائِب فِي هذا الكوْن ونعمِّرَهُ، نكونَ أداةً طائِعةً فِي مُتناول الانسان ليَستَفيدَ مِن طاقاتِنا اللَّامَحدودَة، وإذا مَا نَظرتِ تَجديننا فِي كُلِّ تَفاصيل حياتِه، إنْ كَانَت زِراعيَّه اقتصادية اجتماعية دينيَّة حَتى في طَهارَتِه، ألمْ أَقُل لكِ نَحنُ اكسيرَ الحَياة.
ردَّت رفيقتها وقَالت:
- فسّري أكثر كيفَ نَكون اكسير الحياة
قالت:
- ألمْ تَسمَعي ماذا قال الرَّب فِي آياته ” فلينظُر الانسان مِمَّا خُلق خُلِق مِن مَاءٍ دافِق يَخرُج مِن بَين الصُّلب والتَّرائِب أنَّه عَلى رَجعِهِ لقَادِر” صدق الله العظيم، هذا مَعناه، أنَّنا مَوجودون فِي الحياة مُنذ البِدايَة والتَّكوين، نُرافِقه فِي رحم أُمِّه حَتَّى يُعمَّد صغيرًا ويُطهَّر بِنا إلى حينِ رُجوعِه إلى خَالِقه.
دُهِشّت قَطرَةُ المَاءِ مِن كَلام رفيقَتِها وانزَلَقَت وجَرَت بعيدًا فِي النَّهر، صرَخَت وحَزِنَت لابتِعادِها عَن رَفيقاتِها لوَّحَت لَها رَفيقتها مُودِّعَة وقالت:
- لا تَحزَني يا أختي لربَّمَا نَلتَقي يومًا ما في فَم فقير، نروي عَطَشَهُ أو فِي كأسِ شَراب فَاخِر عَلى مائِدَة مَلك غَنيّ أوْ فِي رَحم امرأةٍ تستَعدّ لِوضع مَولودٍ جديدٍ على هذه الأرض.
كوكب 15.9.2022