ملخص
يتعمّد الكاتب وجيه ضاهر في مجموعته القصصية، “الطيور تعود إلى أعشاشها” (2022) أن يحكي قصة الفلسطيني الذي يواجه المحتلّ يوميا، إذ حيثما تتنقّل الشخصيات فهناك جنود وملاحقات ومواجهات. تمتح القصص أحداثها من هذا الواقع الذي يبدو للقارئ أن لا واقع سواه، حيث الفلسطيني يجترح المعجزات ويسطّر تاريخا خاصا به في قدرته على البقاء فوق تراب أرضه، في ظل ظروف قاسية ومؤلمة وموجعة، أقرب إلى العجائبية منها إلى الواقعية. أو بكلمات أخرى: باتت العجائبية هي الواقع الحقيقي للفلسطيني. أما كل ما يتعلق بحياة الفلسطينيّ وأموره اليومية فهي تسير في ظل هذه المواجهة.
آثر ضاهر أن يكتب بأسلوب يراه الأكثر ملاءمة لهذا الواقع، معاينة الداخل أكثر مما هو معاينة المرئي، فما المرئي من المشاهد التي تُطرح أمام المتلقي سوى آلة تعكس ما يمور في النفس من مشاعر وأحاسيس، ومن أفكار متلاطمة ومتعاركة تدق جدران الرأس لتخط صورة أو مشهدا من واقع مركّب ومعقّد، فيه من الأمل بقدر ما فيه من الألم، وفيه من الانطلاق بقدر ما فيه من سلاسل ومن قيود. فما نراه من تصرفات الشخصيات هو جزء بسيط مما يدور في داخل النفس.
يبدو واضحا ميل الكاتب لاتباع أساليب جديدة مغايرة عن أسلوب كتابة القصة العربية التقليدية، فنراه يميل إلى تهشيم الزمن، وتوظيف أساليب تيار الوعي وتقنياته، والميل نحو الفانتازيا والغرائبية، والتركيز على الداخل أكثر من الخارج.
اختار الكاتب للمجموعة القصصية عنوانا[1] يبدو مباشرا ومألوفا، يوحي بالعودة الطبيعية إلى الدفء والهدوء والسكينة والاستقرار. لكنّ الفلسطينيّ، كما تكشف المجموعة القصصية، لا يعود إلى عشّه عودة طبيعية، ولا يحظى بهذه الحياة التي تتمتع بها الشعوب الأخرى، ولكنه يتابع الحياة.
مقدمة
تعددت المناهج التي تتناول النص الأدبي بالدرس والتحليل، ما يعنينا منها جميعها هو كشف جماليات النص، والبحث في جديد هذا النص، وما سيقوله وكيف، ومدى تقاطعه مع ما سبقه. يعترف بعض كبار المنظرين مثل أمبرتو إيكو أن تحليل النص الأدبي عملية معقدة وشائكة جدا، قد يعجز كبار الدارسين من التأكد من صحة ما يرونه، فنادى، عبر دراساته، إلى أهمية تعدد القراء التي تتيح لقارئ ما أن يرى ما لا يراه آخرون، وبالعكس، كما تحدَّث عن القارئ النموذجي القادر على أن يكون ندا للمؤلف “… ولهذا يتوقع (المؤلف) قارئا نموذجيا يستطيع أن يتعاون من أجل تحقيق النص بالطريقة التي يفكر بها المؤلف نفسه، ويستطيع أن يتحرك تأويليا كما تحرك المؤلف توليديا”.[2] أما رولان بارت فقد احتار من أي نقطة يبدأ أثناء عملية التحليل؟ وكيف يبدأ؟
لا توجد قوانين راسخة تلزم الباحث أو الناقد كي يسير بحسبها ملتزما بها التزاما “دينيا” متزمتا، وقد يرى أنّ قصة ما لا ترضي ذوقه، فيما يراها غيره قصة ناجحة. فقد تبنّى بعض المنظرين الكبار فكرة معينة ثم قاموا بتغيير رؤيتهم بناء على التجربة، وما فكرة “موت المؤلف”[3] سوى خير شاهد على ما نقول. لكني أومن أكثر من أي أمر آخر أنّ هناك أصولا لكل نوع أدبي أو فني، وأن هذه الأصول يمكن تعديلها وطرحها بأساليب مختلفة تحمل من التشابه مع غيرها بقدر ما تختلف. فكلّ نص له ميزة/ميزات معينة تفرض ذاتها أكثر من غيرها.
تحدث بعض الدارسين عن عملية التفاعل التي تنشأ بين المتلقي والنص كدافع هام نحو متابعة القراءة، إذ يرى وولفجانج إيزر في كتابه “فعل القراءة” أنّ العمل الأدبي قائم على قطبين، أطلق على أحدهما القطب الفني وهو نص المؤلِّف، والقطب الجمالي وهو “التحقق” الذي ينجزه القارئ.[4] فقد يثير مؤلَّفٌ جديد المتلقيَ/الباحث، مما يفرض عليه البحثَ عن مسبّبات هذه الإثارة، ودوافع تفاعله معها، وقراءة النص عبر آليات تتيح له رؤية صلابة النص وترابط الجزء بالكل والكل بالجزء. فالتفاعل الذي تحدَّث عنه إيزر هو تفاعل متبادل، ولا يقتصر على القارئ المتلقي. النص مخلوق قام به مؤلِّف ما، ويبقى هذا النص ميتا حتى يقوم القارئ بإحيائه دون تناسي دور المؤلِّف، من هنا فإني أرى أن ما أقوم به هنا هو عملية “التحقّق” التي ذكرها إيزر، ولم يتأت ذلك إلا من خلال هذه المواجهة بيني وبين النص التي ولّدت شرارة التفاعل، وقد وجدتُ أنّ هذا المنجز جدير بالبحث والدراسة.
كتاب “الطيور تعود إلى أعشاشها” مجموعة قصصية للكاتب الدكتور وجيه ضاهر، المحاضر الجامعي، والباحث في طرق تدريس الرياضيات. بالرغم من أن هذه المعلومة لا تزيد ولا تقلّل من شأن المنتوج الأدبي، إلا أني أعترف أنّ هوية الكاتب وثقافته وعلومه تهمني وتثير لديّ بعض التساؤلات قبل ولوج النص وقراءته. فقد علمتنا التجارب أنّ الكاتب لا بدّ أن يستفيد من علمه ومن ثقافته، فقد نجح الأديب يوسف إدريس، على سبيل المثال، في رسم صورة المرأة التي أجهضت جنينها في رواية “الحرام”، نظرا لكونه طبيبا، ووظف تشيخوف علومه الطبية في رسم الشخصيات، وتمكن توفيق الحكيم من عرض صورة لسكان الريف وهم يواجهون القوانين المجحفة في “يوميات نائب في الأرياف”، نظرا لدراسته “القانون”، لكنهم ما كانوا لينجحوا جميعا لولا قدرتهم على التخييل، والأمثلة على ذلك عديدة. الحقيقة الوحيدة التي أستطيع أن أقولها: إن ضاهر كاتب يتّبع طرقا مغايرة في كتابة القصة القصيرة.
إن الكتابة فعل عاطفة وعقل وخيال، فالعاطفة والخيال عاملان مترابطان جدا لا يمكن الفصل بينهما بحيث تتحرك العاطفة تماثلا وتماهيا مع مشهد أو فكرة، ثم يقوم العقل بهندسة العاطفة ومدها بالعمق وطرحها مدعمة بتخييل يأخذ الفكرة من جذورها ومن منبتها لتخاطب القارئ وتخترق وجدانه. فإن كانت العلوم عامة، والرياضيات خاصة، لها إبداعاتها وإنجازاتها في خدمة حياة البشر فإن وجيه ضاهر الباحث في علم تدريس الرياضيات قد أدرك دور الكلمة الأدبية في خدمة البشرية. فأي أساليب اتبع؟ وهل نجح في ذلك، وكيف؟ سنحاول الرد على هذه التساؤلات وعلى التساؤلات التالية التي نراها هامة في كل مرة نتعامل فيها مع نص جديد: هل يجب تناول أي مُنتَج أدبي بناء على ما تقوله النظريات الأدبية؟ أم يجب الاعتماد على الذوق الأدبي الذي يتحلى به الباحث بعد التجريب والمران؟ أم الاعتماد على كليهما معا؟ وربما السؤال الأهم الذي يجب أن يطرح هو: هل عملية تناول نص ما بالدرس والتحليل عملية سهلة؟ وهل تنطبق مقاربة نص ما ومعالجته على كل النصوص؟ إذا كان ذلك كذلك فأين الفرادة؟
تكثيف القصّ وتهشيم الزمن
إن عملية قراءة أي نص تختلف من قارئ لآخر، كما ذكرنا، وذلك وفق ثقافة المتلقي والهدف الذي ينطلق منه، فهناك من يقرأ من أجل المتعة، وهناك من يبحث عن الاستفادة من المعلومات الجديدة التي يزوِّدها به النص، وهناك من يبحث عن فرادته، وعن اللغة ومستوياتها، وعن مدى نجاح الكاتب في جذب القارئ وتفاعله عبر بنائه النص بناء فنيّا محكما، متوقفا عند التقنيّات التي يوظفها الكاتب.
يلفت نظر القارئ أنّ الكاتب وجيه ضاهر لا يلتزم بالمبنى الكلاسيكي، وذلك منذ القصة الأولى، “الصبي والأطفال”، إذ يعمد إلى عملية تهشيم الزمن، وتوظيف تقنيّات حداثية تساهم في ذلك: الذكريات، الفلاش باك، المونولوج، المناجاة، الأحلام، الهلوسات والتداعي،[5] مما يساهم في تغطية مساحة زمنية أوسع، عبر القليل من الكلام والكثير من المعلومات. يساعد في ذلك، أيضا، توظيف أكثر من ضمير وأكثر من زاوية نظر، كما يُبيّن لنا الاقتباس التالي: “الساعة الثامنة مساء من ذلك اليوم نفسه، يتسلق صبي عمود الكهرباء نفسه […] يؤلمه احتكاك جسده بالعمود. ينرفز بسبب الأعمدة الطويلة. لكن الأعمدة الطويلة أفضل لتعليق الأعلام عليها، يهمس لنفسه، يرفرف عليها عاليا ويُتعب الجندي الذي يصعد العمود لينزله. ترى هل يجبر الجنود عندئذ أحد سكان المخيم على تسلق العمود وإنزال العلم؟ لن يقبل الشباب إنزاله وقد يهاجمون الجنود أو يهربون من وجوههم […]. ما أجمل الخالة أمينة وهي تتعشبق على عمود الكهرباء في المرة الأخيرة التي ارتفع بها العلم عاليا عاليا”. (ص16)
نلاحظ أعلاه أن الكاتب يتنقل بين الضمائر بسلاسة، فضمير المتكلم يتماشى أكثر مع تقنيّات تيار الوعي الذي يساهم في انسياب الأفكار والأحداث وتداعيها، وكشف ما يدور في ذهن الشخصية، عبر الفلاش باك والمونولوج والمونولوج المروي/المسرود (لكن الأعمدة الطويلة أفضل لتعليق الأعلام عليها، يهمس لنفسه، يرفرف عليها عاليا)، وهو مونولوج يمتزج فيه صوتان: صوت السارد وصوت الشخصية، والكلام المباشر وغير المباشر. هذه التقنيات التي أشرنا إليها أعلاه، مجتمعةً، تسهم في التنقل بين الماضي والحاضر، وفي بلورة الفكرة المركزية للقصة، بعيدا عن المباشرة. أما ضمير الغائب فيساعد على كشف الصورة الخارجية عبر السارد الرئيسي، وبالتالي يقف القارئ وجها لوجه أمام صوتين، لا صوت واحد: أحدهما يعبّر عن الداخل والآخر عن الخارج، فتكتمل الصورة، حتى لو حمل الصوتان نفس الرسالة، فإن الواحد منهما يدعم الثاني، في مواجهة الصوت الثالث؛ صوت جنود الاحتلال.[6]
من اللافت، فعلا، أنّ القارئ يتابع الأحداث كلها من أولها حتى نهايتها، ويطّلع على المواجهات مع الجنود، دون أن يكون هناك وجود فعلي لهم، فهم موجودون، حتى أثناء غيابهم، في ذهن الطفل الذي يصرّ على التحدي ورفع العلم وكيد هؤلاء الجنود الذين قد يظهرون في أي لحظة. ولكي يضفي على القصة ثوب الواقعية عمد الكاتب إلى توظيف الأغاني التي ينشدها الأطفال في مناسباتهم لتحمل صوتهم، صوت المستقبل، وهم يواجهون آلام الحزن والفراق، دون أن يفقدوا الأمل، فكانت أناشيدهم أشبه بأناشيد الكوروس في المسرح اليوناني القديم تضيء بعض الزوايا الغامضة، وهي هنا تحمل صوت الناس كل الناس.
ساهمت هذه التقنيّات، في تكثيف الأحداث، وفي تغييب شبه كامل للحوارات المباشرة، من ناحية، وفي الابتعاد عن السرد الكلاسيكي الذي يلتزم بتنظيم الزمن وفق منطق التسلسل من الماضي فالحاضر، من ناحية أخرى، حيث يتولى عادة، ضمير الغائب مهمة السرد ذي الصوت الواحد، فيما يغيب السرد الديالوجي المتعدد الأصوات[7]. لكنّ هذه التقنيات، هنا، تفسح المجال لعرض وجهات نظر متعددة بعيدا عن المباشرة، وتعمل على تمكين القارئ من مشاركة الشخصية المركزية/الطفل، مخاوفَها ومشاعرها وقلقها وطموحها وجرأتها أثناء عملية تعليق العلم على قمة عمود الكهرباء، وما يتخلل ذلك من مخاطر قد تودي بحياته، في مقابل تحقيق نصر أكبر؛ بقاء ِالعلم مرفرفا في الأعالي.
قام الكاتب بتوزيع قصته إلى ثلاث فقرات وفق إشارات زمنية: “صباح أحد الأيام”، “الساعة الثامنة مساء”، “صباح اليوم التالي” مع بداية كل فقرة بهدف الحفاظ على مبنى ذهني سليم، من ناحية، فلا يتوه المتلقي في خضم الأحداث، من ناحية ثانية. كنت أتمنى على الكاتب ألا يلجأ إلى هذه التقنيّة لأنها تمس بعصب المبنى الفني للقصة التي نجحت في ملامسة عواطف القراء عبر أسلوب تيار الوعي، فكانت الإشارة إلى الزمن أقل فنية من تلك التقنيّات.
يميل وجيه ضاهر، كما أسلفنا، إلى الكتابة المغايرة غير المألوفة، فما يحدث على الأرض غير مألوف وغير طبيعي لدى من يعيش حياة طبيعية. يتابع في قصصه التركيز على الذهن وطرح صور ومشاهد تميل إلى التجريد كما في قصة “الشهادات لم تعد تحتمل ظلمة الأدراج”. يبدأ القصة بقطعة أطلق عليها “المدخل” وهي عبارة عن “النص الموجود على أحد الأجداث في غزة الفوقا”، فيه حزن وأسى يلخصان المفارقة التي يعيشها ابن غزة الذي يعمل في داخل إسرائيل، ويقوم ببناء بيوتها ليكون مصيره الموت.
يقسم الكاتب قصته إلى مقطوعات قصيرة، كل مقطوعة عبارة عن فكرة أشبه بكتابة خاطرة تبدو للقارئ، في قراءتها الأولى منفصلة تماما عن بعضها، لكن بعد الدخول في التفاصيل، وإعادة القراءة من جديد يجد المتلقي أن هناك خيطا متينا ذهنيا يربُط بين المقطوعات، رغم الرابط الواهي زمنيا. لم يدخل في خلدي أثناء محاولة فك أسرار النص وتحليله سوى أن الحياة مترابطة بقدر ما هي مفككة، وثمينة بقدر ما هي رخيصة، وجميلة بقدر ما هي بشعة. هذه المفارقات الحياتية وجدَتْ لها ترجمة في هذه القصة؛ في مبناها وفي مضمونها، تماما كما في الجملة التالية: “الاستعداد للموت يجب أن يكون كالاستعداد لكل شيء مهم”. (ص35)
يرى الكاتب أن الوصف الخارجي لا يفي بالغرض، ولا يستطيع أن يعكس صورة المعاناة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، فما يتعرضون له من ألم نفسي، ومن عذاب يفوق ما تراه العين بكثير. تتحرك الشخصيات في شبه فراغ، في كثير من الأحيان، وكأنّ المكان قد فقد معالمه رغم وجوده، فلا نكاد نراه، ولا نلمس معالمه، اللهم إلا رائحة الموت. أما أكثر المشاهد التي تتحرك أمام المتلقي فهي كوابيس تعيشها الشخصيات في الحلم وفي اليقظة.
ما كانت لتتحقق عملية التكثيف لولا اعتماد هذه القصة على الذهنية وعلى الفلاش باك والتصوير السريع لأحداث تراكمت، فوق بعضها، كما تراكمت جثث القتلى إثر مجزرة راح ضحيتها عمال فلسطينيون يخرجون قبل بزوغ الفجر للبحث عن لقمة الخبز، فسار السرد سريعا وكثيفا بين الوعي واللاوعي، بين الضياع والصحوة وبين الإدراك والهلوسة. فتكونت لدى القارئ صورة مرعبة تهزه من الأعماق حتى ليشعر أن ما يسرد هو محض واقع لا دور للتخييل فيه، لدرجة تجعله يتمنى أن تتوقف “المشاهد” المؤلمة كي يستعيد قدرته على التنفس والخروج من أجواء القصة.
واقع أم فانتازيا؟
لا يكتفي وجيه ضاهر بتوظيف أساليب وتقنيات تيار الوعي، فنراه يميل إلى الفانتازيا والواقعية السحرية[8] كما ينعكس في قصة “القرنفلة البيضاء”. يقع القارئ على صور ومشاهد أشبه بالرسم التجريدي. أنا لست خبيرا بالرسم التجريدي، ولا بفن التصوير، من كان خبيرا بهذين الفنين فسيجد مادة دسمة للتعامل معهما.
يتوه القارئ أمام كثافة المشاهد والصور والحوارات القصيرة الذهنية، ويدخل في مواجهة مباشرة مع السرد منذ السطر الأول منه، هي مواجهة شبيهة بالصدمة تحتاج إلى بعض الوقت لاستيعابها كي يتمكن من متابعة القراءة. تسرد الشخصية المركزية، الزوجة “ثريا”، أحداثا عجائبية غرائبية تدعو المتلقي إلى التفكير والتحليل في محاولة منه لإدراك ما يدور، فتختلط عليه الأمور، لكن الأمر اللافت أنّ المتلقي يتابع القراءة في محاولة منه لربط الخيوط، يدرك بعضَ التحركات والإشارات، وقد يعتقد أنه نجح في التقاط بعضها، ويقف عاجزا عن بعضها الآخر، لكنه لا يشعر بالملل. فهل يمكننا أن نتفق مع رولان بارت فيما ذهب إليه في دراسته “لذة النص”؟[9]
إن مثل هذه القراءة أقرب إلى عناء القراءة منها إلى اللذة، ومع ذلك نتابع القراءة لنلتقي بما يشبه الرؤيا. في خضم القراءة حاولت أن أجد الخيط الذي يربط بين الأحداث والعنوان وأسماء الشخصيات، في محاولة لفك الرموز والدلالات. فالعنوان، عادة، يحمل ملخص الأحداث ورسالتها وقد يتضمن إشارة إلى معنى النص ودلالته، فالقرنفلة البيضاء في إيحائها المباشر تحمل دلالة جميلة في لونها وشكلها ورائحتها، و”ثريا” الشخصية المركزية، هي مصدر النور والإشعاع، وهي الشخصية الوحيدة التي أعطاها الكاتب اسما، ما دفعني إلى البحث عن سر اختيار هذا الاسم بالذات. أما بقية الشخصيات فلم تنل أي اسم، واكتفى الكاتب باختيار كنية تتناسب مع صورتها الخارجية: “الذي وجهه مغطى”، “الذي على وجهه شامة “، و”القصير”، أو عُرفت وفق موقعها من الشخصية المركزية، مثل “الزوج”، “البنات”، “الأبناء” و”النائحات”. فهل تأثّر وجيه ضاهر بكافكا؟
إننا نميل إلى الاعتقاد أن ضاهر يذهب إلى التعميم، ليجعل من الشخصيات رموزا تشير إلى العام لا إلى الخاص، فحكاية هذه المرأة وهذا الزوج هي حكاية كثيرين من أبناء هذا الشعب. مثل هذه الكتابات تؤكد أكثر من غيرها على ضرورة قراءة النص أكثر من مرة لعل القارئ يتمكّن من لملمة الخيوط، وتحليل الأحداث وربطها ببعضها. فكل قراءة جديدة تكشف سرا جديدا من أسرار الكتابة لم يكتشف من قبل. ولتيسير ما سنقوله بصدد هذه القصة نقتبس افتتاحيتها: “وضعوا على جسدي قرنفلة بيضاء وغطوه بثوب من الكتان خفيف، وأتى زوجي وخاطبني: يا ثريا قد كنت أمّا لنا كلنا، وكنتِ لي إلفا، يا ثريا إن أولادك الرضّع سيفتقدونك فلا تكوني، وتمتد أيديهم لتمسك بحلمتيك فلا يمسكون إلا الوهم، يا ثريا لولا احتياج الرضّع إلى صدر ينطوون عليه لاصطحبتك في لحظات سكونك كما اصطحبتك في لحظات اضطرابك.” (ص20)
تتابع الشخصية المركزية في سرد الأحداث، وتأخذنا معها إلى عوالم عجيبة غريبة، بين الحياة والموت، حيث بكاء الصغار والنائحات على الأم “ثريا”، التي تتابع هي ذاتها في نشر تفاصيل ما تمرّ به. نتوقف معها لنطّلع على مشاهد لا تمتّ إلى الواقع بصلة. يتساءل المتلقي هل نحن أمام مشاهد حقيقية؟ أم هي هلوسات وكوابيس ورؤى ترويها لنا الشخصية المركزية؟
تروى كل الأحداث بضمير المتكلم، ويسير المتلقي في إثر السرد الذي يبدو حياديا، رغم أن الشخصية المركزية هي التي تتولى السرد منذ السطر الأول وحتى نهاية القصة، وتفسح الشخصية المجال لظهور أصوات أخرى تحمل وجهات نظر مغايرة لها تضفي على الأحداث صبغة واقعية رغم بعدها التام عن الواقع.[10]
من أهم هذه المشاهد الطويلة التي تروي “ثريا”/ الشخصيةُ المركزية تفاصيلَها هي قصة إحاطتها بثلاثة رجال يبدو للقارئ أنهم محققون يبحثون عن الزوج الذي أعلن للمجتمعين في بيته أنه مضطر أن يترك المكان، لتبدأ إثر ذلك مرحلة التعذيب الطويلة بهدف إجبار “ثريا” على الاعتراف بمكان اختفاء الزوج. تتمكن أثناء التعذيب من الوقوف ورؤية ما لا يرون: “وقفت وكان وليفي واقفا على تلة يحيط بها دغل، يمسك بإحدى يديه ترسا وباليد الأخرى بندقية ذات مسورة رفيعة، أكياس رمل كانت تحيط به ودخان كثيف تصاعد حوله، كان ينادي رفاقا غير منظورين، وطائرة هليوكوبتر صغيرة تحلق فوقه ولا تراه…”. (ص24)
لا يكتفي المتلقي بالقول بأن القصة تمزج بين الواقع والخيال، فهذا شأن كل عمل تخييلي، لكن الأهم هو أين الواقع وأين الخيال؟ وكيف يمزج الكاتب بينهما؟ وهل تمكّن من الإمساك بتلابيب القارئ لمتابعة القراءة؟ يكشف التحقيق أنّ الزوج ملاحق من الجيش في أعلى التلة، ولكنّ قدرة “ثريا” على رؤية ما لا يراه الآخرون، ساعدها على إنقاذه من خطر الطائرة التي كادت أن تصطاده وتلقي القبض عليه، حتى وهي بين يدي ثلاثة من الرجال المحققين، وسارعت إلى تحذيره من رأس صغير كان يطل من الطائرة بعينيه الصغيرتين، فصوّبَ الزوج البندقية إلى الطائرة لتسقط العينان الصغيرتان في جحرها، وينجح في العودة إليها وينقذها من أيديهم وقد همّوا على اغتصابها لإجبارها على الاعتراف بموقع اختبائه. تنتهي أحداث القصة والزوجة في الغرفة حيث سجّي جسدها، وقد وعدته بأن يعودا ويلتقيا، بعدها يقوم الأولاد بحمل جثمان أمهم وحدَهم دون أبيهم الذي “رحل عنا مبكرا” ووضعه في التابوت.
ينفتح النص على تأويلات عدة منها أن الفلسطيني يموت ولا يموت، وأنه يتابع في المقاومة حتى بعد موته، وينجح حتى أثناء موته من إنقاذ محبيه وأهله ووطنه. قصة تمزج بين الواقع والفانتازيا؛ واقع الفلسطيني الذي يواجه الاحتلال، ويتعرض لشتى أنواع التعذيب دون أن يفقد الأمل، وهو في صراعه المتواصل أشبه بطائر العنقاء الخرافية التي تقوم من رمادها لتبعث من جديد، أو هو طائر الفينيق. أما هذه الغرائبية فهي جزء من واقع الفلسطيني الذي مر بمراحل من القتل والتهجير والتعذيب دون توقف، ليؤول مصيره إلى الموت الجسدي لا الروحي والمعنوي. أما موت هذه الأعداد جسديا فلم ينجح في القضاء على القضية الأهم: الإيمان بالتحرر وتحقيق الأهداف. أما اختيار “القرنفلة البيضاء” فلأنها بؤرة من النور والأمل ورؤية ما في الحياة من جمال رغم قتامتها وصعوبتها. تنقل القصة صورة صعبة جدا عن واقع الفلسطيني، لكن هذه الصورة لم توصل أحدا إلى موقع الضعف أو الاستسلام، فالموت، كما بدا لي، هو الحياة بذاتها، يموت الفلسطيني ليحيا، يموت البعض ليحيا آخرون ويتابعوا المسيرة.
لست بحاجة لقراءة تفاصيل العجائبية والغرائبية ولا الواقعية السحرية لتحليل هذه القصة وفهم دلالاتها وأسرارها وفك رموزها، ما يحتاجه المرء أثناء قراءة هذه القصة وغيرها أن يصدق ما يقرأ، وأن يغور في تفاصيل النص ذاته دون العودة إلى التنظيرات، رغم أهميتها، وان يتعامل مع النص كواقع يعيشه الفلسطيني في مواجهة آلة الحرب، وقدرته على الوقوف في وجهها بقوة وصبر وأناة.
مفردات، تعابير وجمل مهشمة
لا يكتفي وجيه ضاهر بالكتابة التجريبية، ولا بتوظيف الفانتازيا أو الكتابة الغرائبية، فنراه يبني قصة لا تعتمد على حدث ما، ولا على سرد يلتزم بمبنى زمني ما، ولا على شخصية مركزية تتبعها أو تسير معها شخصيات ثانوية، بل نراه يكتب قصة بعنوان “أصوات على السطح” تستحق وقفة مطولة أكثر. تمتد على أربع صفحات، هي عبارة عن جمل قصيرة جدا، قد تتكون من مفردة واحدة أو مفردتين أو جملة قصيرة لا تتعدى السطر، غير مرتبطة بما سبقها أو بما يتلوها برباط لغوي. هذا المبنى وهذا “السرد” وغياب أهم عناصر القصة القصيرة: العرض والنمو والارتقاء، تجعل المتلقي يتساءل أثناء عملية القراءة: هل يمكن أن نطلق عليها قصة؟
لا يلتزم الكاتب بأي من مركبات القصة القصيرة المعهودة أبدا، ومع ذلك هناك خيط قوي جدا يمسك بتلابيب القارئ الذي يتابع القراءة حتى آخر لفظة، إذ يتمكن هذا النص، رغم تفككه اللغوي (المقصود)، وانعدام السرد التواصلي، وخلوه من الوصف التفصيلي أن يخلُق عالما قصصيا، وأن يجذب القارئ لمعرفة النهاية، وربط الأحداث، إن جاز أن نسميها أحداثا، بالعنوان، أو مع بعض الأسماء التي يبذرها الكاتب في حقل من الكلمات المبعثرة بصورة تبدو عشوائية، ولكنها في الحقيقة ليست عشوائية.
إن اختيار هذا العنوان[11]، “أصوات على السطح” يحث المتلقي على التفكير العميق، أثناء عملية القراءة، في دوافع اختيار هذه التسمية. يوحي العنوان، قبل ولوج النص وقراءته، بأنه يحمل معنى مباشرا، وبالتالي على القارئ أن يبحث عن هذه الأصوات، وعن مصدرها، مكانها، ودافعها. وليست التسمية المباشرة، برأيي، تعني ضعف المعنى، بل قد تكون المباشرة، في العنوان بالذات، هي دلالة على تفكير عميق، يأتي بعد لأي وتعب فكريّ لتحثّ القارئ على مشاركة المؤلف في التفكير والتفاعل. يشير مجمل نص “القصة” إلى وجود أصوات على السطح، لكن هذه الأصوات التي تصلنا عبر صور مكثفة وكلمات مبعثرة هي أصوات مرعبة، وصور متحركة تُرسل، معا، معلومات متلاحقة تخترق القارئ، وتحرك كل حواسه. فإن كان الشعر الجميل، كما يقول البعض، له تأثير فسيولوجي، يثير المعدة واللسان ويحرك الدورة الدموية وتقشعر له جلدة الرأس،[12] فإن هذا النص بعيد كل البعد عن اللغة الشاعرية لكنه يحرك الحواس ويستفزها جميعها ويثير المشاعر، ويخلق تفاعلا عميقا بين النص والقارئ.
نحاول من خلال الاقتباس التالي الذي يفتتح فيه الراوي عملية السرد تيسير فهم ما قلناه أعلاه: “طائرة مروحية. مشاة. سيارات. شارع رئيس. جنود مشاة. جنود في طائرة. برقين. نادر خمايسي. شمس. سطح بيت. قرية. طرق دبقة. امرأة. شابان على سطح بيت. ناصر كمنجة. طائرة مروحية تتجه إلى برقين. بنت قالت لأمها: يمة، الشاي غلى. أطفال دون الخامسة. امرأة تصعد درجا. جنود مشاة يسلكون طريقا تخفيه الأشجار إلى القرية.”. (ص94)
بعد قراءة النص أكثر من مرة يتبين وكأن المؤلف قام بكتابته مُنظّما، لغويا وفكريا وزمنيا، ثم حمله بكفة راحته وقام ببعثرته على الورق، تاركا هذه الكلمات ملكا للقارئ كي يقوم هو بتركيبه وفق ذكائه وتجربته. إذن وجيه ضاهر لا يلتزم التزاما مطلقا بأصول كتابة “فن القصة”، ومع ذلك فإنّ قارئ النص يتفاعل مع ما يقرأ، ويشعر بتشوق لمعرفة ما سيؤول إليه النص. فإنْ تحدّث البعض عن “موت النص”، و”موت المؤلف”، وهناك من يتحدث عن “موت الناقد”، فإني أدعو القارئ، ولو إلى حين، إلى الابتعاد، قليلا، عن هذه الرؤى الفلسفية ومعالجة النص كما طرحه كاتبه وجيه ضاهر، فلعله يبعث من جديد أفكارا أخرى تلغي بعض ما قاله المنظرون لنؤكد على وجود نص، قارئ ومؤلف في وحدة مترابطة ومتنافرة في آن معا؛ مترابطة في حقيقة التفاعل وفي حقيقة اكتمال عمليتي الكتابة والقراءة، ومتنافرة في حرية النص وانطلاقه، وحرية المؤلف في طريقة عرضه ورؤيته، وحرية القارئ في محاورة النص وتأويله وفق اتساع ثقافته ومعارفه، دون اتباع أي نظرية، ودون التقيد بأصولها تقيّدا متزمتا، ودون تقييدها بمدرسة أدبية أو بأي جنس سردي حكائي، أو بأي مسمى مهما كان.
وجيه ضاهر قبل أن يكون كاتبا فهو إنسان يعيش مثل بقية أبناء شعبه، يراقب ما يحدث وما يتحرك على الأرض ليشهد على ظروف أقل ما يمكن أن يقال فيها إنها غير عادية، ولا تشبه أي واقع لأي شعب آخر مهما كانت ظروفه صعبة، فالمواطن العربي هنا يعيش المتناقضات ويقبل مُكرهًا بالمفارقات واختلال القيم والمبادئ، هذا الواقع المُشوّه لا تستطيع الواقعية التقليدية أن تعبر عنه ولا أن ترسم كل معالمه. هو واقع عجيب غريب أقرب إلى الفانتازيا وأوسع من المُتخيَّل القصصي التقليدي. يسير فيه المرء فاقدا القدرة على رسم خطواته الصغيرة التي قد لا تسعفه في الوصول إلى بيته القريب، أو لقاء أبنائه أحياءً. أكاد أجزم أنّ الكاتب لا يبحث عن الكتابة التجريبية المغايرة بقدر ما تنقاد هي إليه كمرآة ترافقه حيثما سار، وتقوم ببث ما يراه بثا حيا ومباشرا. فإذا به واقع مفكّك وغامض يسير فيه المرء على رجل واحده ويرى بعين واحدة ويسمع بأذن واحدة مبتور اليدين واللسان، فهل يتحدث عن الحب وعن المستقبل المزهر وعن الأبناء والأحفاد؟! ومع ذلك ما زال واثقا بقدراته على تركيب الجسد وإعمار الروح بالبسمة والفرح.
أشرنا أعلاه إلى عناصر السرد الحكائي ومركباته، بشكل عابر، ولم نتطرق إليها بالشرح والتفصيل، ودور الواحد منها في عملية بناء الحكي، وهو ما لن نفعله في هذه المقالة بالذات، لكن هناك ما يسمى “زاوية النظر” [13]وأهمية توظيف الضمير المناسب لعملية السرد، ودور الراوي في نقل الأحداث. من ينعم النظر في السرد هنا فلن يعثر على صوت الراوي المباشر بالطريقة التقليدية، رغم إشرافه الكلي، فهو هنا يقوم بدور المصوّر وراسم الديكور، والمراقب من قريب ومن بعيد، وكأننا نسمع أحيانا صوتا صارخا وأحيانا صوتا هامسا، دون أن يتدخل مباشرة في تعليق هنا وآخر هناك، وكأنّ الراوي تخلى عن دوره وسلم الدفة للقارئ يتابع السرد.
وهناك في القصة، عادة، حوارات بأنواعها المختلفة التي تعمل على إبراز أكثر من صوت وأكثر من لغة، لكن في هذه القصة يبدو أنّ الكاتب قد تنازل عن دور الحوارات المعهودة، ومع ذلك، ورغم عدم وجود حكي متسلسل، إلا أننا نعثر على حوارات سريعة دون أية إشارة إلى صاحب الصوت: “أصوات على السطح. صوت شرب الشاي. لا يمكن اتقاء الشمس على السطح. لننزل عن السطح. لم ننته من شرب الشاي.”. (ص95) إنها كاميرا المصور تلتقط الصور والحوارات والمشاهد المترابطة بقدر ما هي مفككة ومتباعدة، وحوارية بقدر ما هي صامتة.
كما اعتدنا في تحليلاتنا للشخصيات القصصية أو الروائية أن نربط بين الشخصيات والبيئة والراوي والمكان والزمان حتى نتمكن من التشخيص وتحديد هويتها ومميزاتها الداخلية والخارجية. أما في هذه القصة فإن الكاتب لا يعمد إلى تحديد أو تفاصيل عناصر القصّ ومركباتها كي ندرس الشخصية/ الشخصيات سواء كانت مركزية أو ثانوية نامية، مركبة أو سطحية، فالشخصيات هنا، كما المفردات والتعابير إشارات وبرقيات متراكمة.
يعمد المؤلف إلى توظيف الجمل القصيرة التي قد تقتصر على كلمة واحدة، والتقليل من الحوار المباشر، فالجمل القصيرة تبرز عملية تسارع الأحداث وتتاليها وتكثيفها، وبالتالي عدم تمكن هذا الإنسان، في ظل هذه الظروف، من تنظيم حياته لأنه لا يملك القدرة ولا الإمكانية لبناء حياة منظمة، لأن “المفاجآت” قد تلغي كل ما خُطّط له. أما الحوارات المباشرة فهي، على أهميتها، ليست بقادرة على القيام بدور المونولوج والمناجاة والكوابيس، فهذه التقنيات أكثر قدرة على الغوص عميقا في النفس.
خلاصة
خصص الكاتب مجموعة كاملة للحديث عن معاناة الشعب الفلسطيني اليومية وهو يقارع المحتل، ففي كل قصة هناك جنود، وهناك أطفال، وهناك نساء وعجائز من الرجال والنساء. وفي العديد منها هناك شباب ورجال مطاردون، يبحث الجنود عن المقاتلين، يدخلون البيوت والقرى والتجمعات السكانية، ولا يتركون موقعا إلا ويعيثون فيه فسادا وخرابا، يرتعب الأطفال ويبكون ويصرخون، وقد يتعرضون هم أنفسهم، مثلما يتعرض الكبار للضرب والتنكيل، وقد يشهدون بأم العين مقتل أحد أفراد العائلة.
هذا الواقع يخلّف ندوبا تغور في النفس عميقا، فكان من الطبيعي أن يلجأ الكاتب إلى كشف ما يمور فيها من أفكار وهواجس، وما يتعرض له الفلسطيني من مآس وأوجاع، وهو يرى أرضه تسلب وبيته يهدم وأحباءه يقتلون، فكان التركيز على الداخل معادلا لآلام الجسد، وقد يفوقه. من هنا نرى إلى ميل المؤلف إلى اعتماده تيار الوعي الذي يوظف تقنيات وأساليب تبرز وجع النفس وآلامها، فيقع القارئ على كثير من مشاهد الهلوسة وأحلام اليقظة والكوابيس التي تنقل آلام النفس وعذاباتها.
رأينا الكاتب يعمد، في بعض قصصه، إلى توظيف الجمل القصيرة. إنّ توظيفها، بهذا الشكل، يلغي مفعول التنوّع اللغوي المألوف الذي تحدث عنه باختين وغيره، فلا مجال لتفحص المستويات اللغوية وقربها أو بعدها من شخوص القصة، فالشخصيات لديه لا تحمل مواصفات خارجية، لأن التركيز ينصب على الهواجس والأفكار الداخلية، التي تخلق توترا لدى القارئ وتفاعلا سريعا عبر ما تبثّه الصور المتقطعة. ويكاد ينعدم الوصف التفصيلي المسهب، وبالتالي تخلو قصص وجيه ضاهر من النبرة الخطابية التحريضية التقليدية. أما التحريض والإثارة فتبرز من خلال “الفلاش” والصور المتسارعة غير التفصيلية.
يقودنا ما قلناه أعلاه إلى الحديث عن اللغة، واللغة هنا لا تحتمل التحليل المعهود الذي تحدث عنه المنظرون من أمثال ميخائيل باختين، إذ يمكننا أن نسمع أصواتا، وأن نرى مشاهد متقطّعة، وأن نرى شخوصا تمر أمامنا سريعا. هذه الأصوات والمشاهد والشخوص عبارة عن قطع فسيفسائية صغيرة مترابطة بقدر ما هي مبعثرة، لأن النص في كليته يعتمد على القارئ الذي تلقى عليه مهمة جمع هذه القطع وإعادة تركيبها. فاللغة لا تعتمد على الترميز أو الزخرف ولا على البعد الشاعري، بل إن المفردة والتعابير والجمل القصيرة تنقل إحساسا إلى القارئ كي يتابع القراءة، يتأتى كل ذلك بعيدا عن الخطابات التحريضية أو السرد المركب أو الوصف المفصل.
بالرغم من أن الكاتب يوظف الفانتازيا والغرائبية في كتاباته إلا أننا نرى أنه لصيق بالواقع لا يبتعد عنه قيد أنملة، بل إن الغالبية العظمى من قصصه مستمدة من واقع الفلسطيني في غزة وقرى الضفة ومدنها ومخيماتها، يصور ما يحدث هناك من أحداث ومن مواجهات بين الأطفال والشباب والنساء مع جنود الاحتلال بدقة متناهية، فكأنّ الواقع الفلسطيني بات غريبا وعجيبا إلى هذا الحد، أما قدرة الصبي والمرأة العجوز على مواجهة الجندي المدجج بأحدث أنواع الأسلحة فقد بات أشبه بعالم عجائبي.
تتمركز معظم أحداث القصص، كما ذكرنا، في الصراع الفلسطيني مع المحتل الإسرائيلي، وبما أنّ الواقع أليم جدا وموجع جدا، حيث القويّ على أرض الواقع هو الجيش المدجّج بأسلحة حديثة قادرة على قهر الناس وسجنهم ومصادرة أرضهم وقتلهم، فإن الصراع يتحول، في هذه الحالة، إلى القدرة على التحدي والصمود في وجه هذه القوة، وعدم الاستسلام. ما يعني أن المواجهة تتحول من الخارج إلى الداخل للحفاظ على نفوس سليمة قادرة على متابعة مشوار الحياة. من هنا نرى إلى أهمية إبراز الجانب النفسي، لا كعامل تعويض فقط، بل كجزء من الواقع. فالمواجهة الجسدية مرهونة بالقدرة على المواجهة النفسية، كما هي تماما على أرض الواقع، أما التخييل الذي يوظفه الكاتب هنا في هذه المجموعة فهو لدعم الواقع.
إن عملية قراءة وتأويل نصوص شبيهة بكتاب “الطيور تعود إلى أعشاشها” ليست عملية سهلة، بل تترك الدارس مذهولا ومحتارا أمام ما يقول، فإن كانت دراسات الباحثين والمنظرين عونا حقيقيا في هذه العملية المضنية فإن مران الباحث وتجربته ضروريان للقيام بعملية المقارنة مع مؤلفات أخرى، فنظريات الباحثين والمنظرين لا تزودنا بخصوصيات الفكر الفلسطيني وبإنجازاته الأدبية والفنية التي تحمل ختمه وهويته.
المراجع
إيزر، وولفجانج. فعل القراءة. ترجمة حميد لحمداني، والجيلاني لكدية. فاس: منشورات مكتبة الناهل، 1994.
إيكو، أمبرتو. “القارئ النموذجي”. من كتاب نظرية الأدب: القراءة، الفهم، التأويل- نصوص مترجمة. ترجمة أحمد بو حسن. الرباط: دار الأمان، 2004. ص29-49.
باختين، ميخائيل. الخطاب الروائي. ترجمة محمد برادة. القاهرة: دار الفكر للدراسات، 1987.
بارت، رولان. لذة النص. ترجمة منذر عياشي. حلب: مركز الإنماء الحضاري، 1992.
بارت، رولان. نقد وحقيقة. ترجمة منذر عياشي. بيروت، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1994.
بيلي، انجيلا. “الواقعية السحرية كيف نفهمها”. ترجمة خضير اللامي. مجلة الروائي، alrowaee.com/article.php?=298
24.12.2008
تنفو، محمد. النص العجائبي، مائة ليلة وليلة أنموذجا. دمشق: دار كيوان للطباعة والنشر والتوزيع، 2010.
حليفي، شعيب. شعرية الرواية الفانتاستيكية. الرباط: دار الأمان، الجزائر: منشورات الاختلاف، بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2009.
خوري، الياس. “ملاحظات حول الكتابة القصصية، اللغة- الراوي- الكاتب”. من كتاب دراسات في القصة العربية: وقائع ندوة مكناس. بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1986.
درو، إليزبيث. الشعر كيف نفهمه ونتذوقه. ترجمة محمد إبراهيم الشوش. بيروت: مكتبة منيمنة، 1961.
السعافين، إبراهيم. تحولات الشكل في القصة القصيرة العربية. عمان: الأهلية، 2021.
صالح، بشرى موسى. نظرية التلقي – أصول وتطبيقات. بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، 1999.
ضاهر، وجيه. الطيور تعود إلى أعشاشها. بيروت: دار الفارابي، 2022.
العيد، يمنى، “القصة القصيرة والأسئلة الأولى/اللغة/ الأدب/ الأيديولوجيا”. من كتاب دراسات في القصة العربية: وقائع ندوة مكناس. بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1986.
الغذامي، عبدالله. ثقافة الأسئلة. ط2، الكويت: دار سعاد الصباح، 1993.
غنايم، محمود. تيار الوعي في الرواية العربية الحديثة. بيروت: دار الجيل، القاهرة: دار الهدى، 1992.
غنايم، محمود. غواية العنوان. الناصرة: مجمع اللغة العربية، 2015.
كامل، رياض. المتخيل السردي العربي الحديث. عمان: الدار الأهلية، 2022.
هولب، روبرت. نظرية التلقي. ترجمة عز الدين إسماعيل. القاهرة: المكتبة الأكاديمية، 2000.
Barthes, Roland. 1977. “The Death of the Author”. In Image- Music-Text, Stephen Heath (ed.), New York: Hilland Wang. Pp. 142-148.
رياض كامل
[1] انظر حول اختيار العنوان وأهميته: الغذامي، ثقافة الأسئلة، ص58.
[2] نظر: إيكو، “القارئ النموذجي”، ص35.
[3] انظر: بارت، “موت المؤلف”، في كتاب نقد وحقيقة، ص10-25، Barthes, The Death of the Author, pp. 142-148
[4] إيزر، فعل القراءة، ص12.
[5] للتوسع انظر كتاب: غنايم، تيار الوعي في الرواية العربية الحديثة.
[6] حول تعدد الأصوات انظر: باختين، الخطاب الروائي. كامل، المتخيل السردي، ص183-184.
[7] حول الرواية المونولوجية والديالوجية يمكننا العودة إلى دور كل من ميخائيل باختين ولوسيان جولدمان وبيير زيما، انظر: كامل، المتخيل السردي، ص183-184.
[8] انظر انجيلا بيلي.
[9] انظر: رولان بارت، لذة النص.
[10] ترى بيلي إنجيلا أن هذا النوع من الكتابة لصيق بالواقع بقدر ما هو عجائبي ولكنه لا ينسخ الواقع رغم تشبثه به، وهي تعنى بالموضوع أكثر مما تعنى بالشكل. انظر: “الواقعية السحرية كيف نفهمها”.
[11] حول دور العنوان واختياره انظر: الغذامي، ثقافة الأسئلة، ص 58، ولمزيد من التوسع أنظر: غنايم، غواية العنوان.
[12] انظر: درو: الشعر كيف نفهمه ونتذوقه، ص104.
[13] توصل النقد إلى وجود نمطين مهيمنين من الرؤى وهما الرؤية الداخلية والرؤية الخارجية انظر:عبدالله إبراهيم، المتخيل السردي، ص64.