من أدب السُّجون:اضاءة على دروب الشوك في “فارس والحكاية” – بقلم: مصطفى عبد الفتاح

 

10.9.2022

لست بصدد نقد كتاب أدبي، أو الغوص في تفاصيله، وتحليل نصوصه، بقدر ماهي إضاءة بسيطة لقارئ جيّد على جوانب من نص أدبي لافت، يشد القارئ إلى الغوص في تفاصيله وأحداثه، وقد تُسهم هذه القراءة في البحث عن المعاني والمقاصد التي يخفيها المؤلف في ثنايا نصوصه. لا أخفي سرًا أنَّني تردّدت كثيرًا في الكتابة عنه لسببين الأوَّل شخصي، ومعرفة ما قبل وما بعد النصوص، ممّا قد يجعلني غير موضوعي في كثير من الأحيان، والسبب الثاني هو إشكاليَّة النَّص نفسه، والقُدرة على تعريفه، فاخترت ان أقف على بعض الجوانب العميقة في النظرة الشاملة إلى النَّص دون الولوج إلى التَّفاصيل.

كتاب “فارس والحكاية، دروب الشوك” للكاتب الصحفي، توفيق عبد الفتاح، يقع الكتاب في 162 صفحة من الحجم المتوسط، اصدار دار الرعاة وجسور، عمان، 2022، وتوفيق سجين أمنيّ سابق، تخرج من مدرسة الحياة مناضلًا عنيدًا وصاحب فكر وموقف، استطاع أن يشُق طريقه، ويرسم طريق حياته كما يريد، رغم صعوبة أوضاعه الاقتصادية، وملاحقته السياسيَّة، لكنه برغم الفقر المدقع، ورغم قساوة السجن، وبإصراره وعناده، وبسبب طيبته وذكائه قد استطاع أن يشق طريقه المرصوف بالجد والعرق والدّموع.

انها حكاية حزينة مجبولة بالألم والمعاناة تستدعي التَّوقف والمراجعة، لما فيها مِن قضايا اجتماعية وسياسية حارقة، يطرحها أسير سابق من أسري الحرية، ففارس بطل الحكاية من أوَّلها إلى آخرها يكاد أن لا يتكلَّم عَن احاسيسه، عَن آماله وأحلامه عَن رغباته الإنسانية عن تطلُّعاته الطبيعية، فأشهر سيفه وأعلن عن استيائه بل غضبه الشَّديد وثورته على مُجتمع لا يقدِّر ولا يُثمِّن ما يقوم به فارس، ولا يفهم الدَّور والرِّسالة والطَّريق الذي سلكه فارس، أو هكذا فكر فارس، حتى يظن القارئ أنَّ الثابت في الحكاية هو فارس والمتغير هو الحكاية، ورغم ذلك يُقابله المُجتمع بالجحود والنُّكران،  فيشق طريقه ويؤدي رسالته رغم كلّ الصِّعاب، ورغم كلّ العقبات، فكان يتصرَّف ويرى العالم مِن خلال حكايته، وما الحكاية الا قضيَّة شعبه الذي يبحث عن الحرية والانعتاق من نير الظلم وغياهب السجون.

يكفي أن أطرح قضيَّة واحدة من عشرات القضايا التي يطرحها فارس في حكايته، لنوضِّح الصورة وطريقة تدخّل الكاتب في الاحداث، وتوجيه القارئ إلى الوجهة الّتي يريدها هو، في محاولة لثني القارئ عن التَّفكير في مسار مُغاير، فموضوع الطفولة المُعذَّبة التي يفتتح بها الذكريات في تسلسل خرونولوجي يلخّصه ببضع كلمات في صفحتين او يزيد قليلا، هي قضيَّة اجتماعية نفسية حادَّة وحارقة وبحاجة إلى وقفة مُعمَّقة، وهي جرح نازف، لا يُمكن أن تمحوه السّنين دون علاج جذري، وفهم عميق لما مرَّ به طفل في الخامسة من عمره أو يزيد قليلًا، وسيبقى جرحا غائرًا ونازفًا سنين طوال وحتى علاجه، على مُستوى الشَّخص وعلى مُستوى المجتمع كقضيَّة اجتماعية وتربوية، فهي قضية عنف في المدرسة من قبل المعلم، ” هذه الوضعية جعلته متمردا وفي حالة من الغضب والنفور، بسبب العنف والتهكم الذي مارسه بعض المربين جهلا او قسوة غير واعية” ص9 ، وهي قضية تنمّر من قبل طلاب في مثل جيله، يقول ” هذا سبب له احراجا بالغا وانكماشا لم يألفه من قبل، بسبب عدم القدرة على تعويض خسارة الغياب واللحاق بزملائه المتقدمين عنه بكثير، لم يكن محرجا فقط، بل تسبب له هذا بالخجل البالغ امام زملائه واستخفاف المدرس به” ص 10 ، أي ان فارس فقد مكانته في قيادة الصف، وانزوى لوحده بعيدا. وهي قضية عنف في العائلة ” ثمن بالغ للتمرد والافلات من القمع السلطوي الابوي البطريركي، مثلما ان التمرد السياسي له اثمان، لا بد منها لمن أراد الانعتاق والتخلص من الغبن والقمع والسيطرة وهنا تبدأ الحكاية؟!” ص 9. هذا الوصف لهذه الحالة يمكن ان يطيح بكل ما تبقى عند طفل من أحلام وامال، للبقاء بحالة نفسية سليمة، إذن كان يُمكن للحدث أن يُطيح بحياة طفل، ويشكّل عُقدة نفسيّة ابديّة، والغريب أن يقول عنه في السطر الأول، ولا أدرى إن كان ساخرًا “وفارس كان طفلًا مدللًا” عن أي دلال نتحدث! وأغلب ظنّي أنَّه كان يتدلل كنوع من الهروب من واقعه إلى الآخرين كي يحبوه او يحموه، ولكنه صدق الكاتب بوصفه “لفارس قلب طفل في عقل وعنفوان رجل” نعم لأنَّه استطاع أن ينجو بالهروب من اتون الظلم. فكان الهروب إلى عتليت البعيدة هو الحل الأمثل ولا شيء غير ذلك، وهذا أيضًا يجعله عرضة لأيّ تأثير خارجي أيًا كان نوعه، ومن هنا كان التقاء الصدف وحده هو الخروج من المحنة الَّتي توجه فارس وترسم له الطريق حتمًا.

في عتبة النص الأولى تشدك اليه لوحة الغلاف، لطفل ممزق الثياب يعيش حياة تشرد واهمال في حالة فقر مدقع، يحاول اشعال سيجارة من اعواد ثقاب كثيرة ملقاة إلى جانبه، نتيجة تجارب فاشلة في إشعالها، تمتزج في ملامحه ملامح البراءة والطفولة المهدورة مع الفقر والبُؤس واللامبالاة، وإلى جانبه أصيص وردة صبار، يناسب المشهد، ويدعوه إلى الأمل والتفاؤل رغم كلّ شيء.

توقفت طويلًا امام العنوان الذي وعلى ما يبدو اختير بعناية فائقة، وقد يقف القارئ امام عدة تفسيرات له، أوَّلها أنَّ فارس سيحكي لنا حكايته، إذن كان من الأجدى أن يُسميها حكاية فارس، وإذا كان فارس سيحكي عن نفسه، فكان عليه ان يسميها فارس وحكايته. بل ان يسميها حكايتي او مذكراتي بشكل مباشر، فهي حكاية المؤلف أو الكاتب، إذن الحكاية ليست قصة بطلها فارس، وانما الحكاية موجودة وتتفاعل وتتحرك في الحيز العام ومعروفه للجميع، وفارس انخرط في تفاصيلها واندمج مرغمًا وقانعًا أنَّ هذا الدَّور قد رُسم له، وعليه أن يسير في خطه حتى النهاية، بل عليه أن يؤثّر في الحكاية علَّه يغيّر في مسارها او يعدّل مِن واقعها الضَّاغط عليه في كلّ الاتجاهات، لدرجة انَّه كان يأمل أن تتحالف الحكاية مع مصيره وتدعم توجهه الّذي آمن انَّه هو التَّوجه الأمثل لتغيير مسار الحكاية. ولكن الكاتب اختار من بين الجميع “واو المعية” وليس واو العطف، ليقول لنا “فارس والحكاية”، وبما أنَّ الحكاية مع ال-التعريف، اذن فنحن جميعًا وأقصد القارئ نعرفها، بقي أن نعرف علاقة فارس وارتباطه بها، هذا الاختيار المُوفَّق للعنوان، اعطى القارئ دفعة قوية مِن الغموض المُحبَّب للولوج المباشر إلى النَّص.

تقرأ بضع صفحات لتعود إلى العنوان تتفحَّصه من جديد وتسأل ما هو نوع النص الذي اقرأ؟ وقد كنت هيأت نفسك لتقرأ رواية، عن علاقة فارس بالحكاية، فتكتشف وبفعل التسلسل الزَّمني وطريقة طرح المواضيع أنَّك أمام نصّ أو جانر آخر ليس رواية، ولا حكاية، وإنَّما هي سيرةُ حياة فارس، بغض النَّظر إن كان هو الكاتب أم الرّاوي وهو الشخصية الوحيدة الّتي تدور حولها الحكاية ويؤكد لك ما ذَهبتَ اليه التَّظهير الذي كتبه الكاتب سهيل كيوان عن الكتاب ” جزء من سيرة حياة فارس وطفولته القاسية”.

وفي الحكاية قضيَّتان مركزيّتان تشغلان بال الراوي فارس، قضية الطفولة المهدورة عند أقدام القضيّة أو الحكاية الثابتة التي جعل منها الراوي مركز حياته، وكل الاحداث صغيرها وكبيرها يدور في فلكها، فهي الثابت الوحيد الذي لا يتزحزح، رغم أنَّ جميع أفعال فارس ثابتة في مجال ردود فعل على أحداث تجري أمامه إمَّا صُدفة أو بفعل فاعل فيتفاعل معها ويتماها مع احداثها فيصبح جزءًا منها. والقضيَّة الثانية هي مُجتمع تختلف فيه الامزجة والمفاهيم، فتختلط وتتداخل فيه القيم والمبادئ فيتنكر او يتجاهلها بكل صلف وعنجهيَّة فيقع الراوي في قبضة قضية اجتماعية وسياسية غاية في التعقيد، يتهم فيها كل من حولها، بالنكوص او الابتعاد عنها ويتحمل مسؤولية وقوعها.

وكان اختيار اسم الرَّاوي “فارس” ما هو إلا محاولة للابتعاد عن الذَّاتية، من خلال الخروج من الانا الى الآخر، ممَّا يُسهل عليه وصف المواقف والاحاسيس والتدخل في المعنى عند الضرورة، وتسهيلًا لكتابة الأفكار والولوج إلى الذّاتية بطريق لا يؤذي صاحبه، خاصَّة وانَّ الكاتب صاحب فكر وموقف وايديولوجيا، قد تثقل عليه الكتابة بضمير المتكلم. ومن هنا قام باختيار الضمير الثالث بدل الأول، وبالتالي طرح مختلف القضايا على الطاولة علَّ أحدًا يسمع أو يفهم ما يرمي اليه حتى من خلال طرح مقالاته الصحفية في مواضيع سياسية واجتماعية وإظهار موقفه منها بشكل واضح.

عمد الكاتب إلى التَّدخل في تفسير النصوص والأحداث، وإعطاء تصوره وفهمه عنها مما اضعف النصوص، لم يترك للقارئ في كثير من الأحيان، مجالًا للاجتهاد والتفكير في حل نصوصه وفهم مراميه، وكانه يريد له، أي للقارئ، أن يُفكر بما يجول في فكر ووعي الكاتب نفسه، وكان من الأفضل الاعتماد على ذكاء القارئ، لو ترك له حرية تفسير الاحداث واتخاذ المواقف منها، فهو يبدأ الحكاية بتفسير معنى اسم فارس حتى لا يذهب القارئ بعيدًا في تفسيراته لهذا الاسم فقد أراح القارئ من هذا العناء وقرر انَّه مأخوذ من الفروسية والفراسة على حد سواء، رغم ان المعنيين كل واحد يسير باتجاه فالأول في الرياضة وفروسية الحياة والثاني في فروسية العقل والذكاء الفطري. وفارس هذا مدلل، له قلب طفل وعنفوان رجل.

والمسالة الأخيرة التي اود التطرق اليها وقد شعرت ان الراوي يوليها الكثير من الاهتمام ويطرح فيه الكثير من الأمثلة التي تكاد ان تجعل الراوي فارس يكابد ويعاني سوء تصرف المجتمع، وهي قضية التقدير والاحترام الذي يوليه المجتمع لهؤلاء الابطال الذين قدَّموا جزءًا أو حتى كلّ أعمارهم في خدمة قضيّة أو حكاية كما يسميها فارس، وبالتَّالي لا يلقى غير الإهمال والجحود والنكران وحتى التَّجاهل، وبسبب وعي المناضل أو المضحي، فانَّه يهز كتفيه بنوع مِن اللامبالاة وهو يتَقطَّع حزنًا مِن الدَّاخل على مجتمع لا يقيم له وزنًا، او يتجاهله، وهذا الامر ينطبق على جميع مناحي الحياة.

يكفي أن نذكر بهذا الصَّدد قصة طبيب الاسنان الصديق القديم لفارس الذي يتنكر للصداقة ويتجاهل ما قدمه فارس ويطلب مبلغًا كبيرًا لعلاج أسنان قد طحنها الاحتلال، ممَّا يثير لديه الحُزن والأسى، وردة فعل غاضبة بالمقاطعة، ورغم وجود نموذجين اخرين من أطباء الاسنان قدموا كل ما باستطاعتهم، لا يريدون جزاء ولا شكورا، وباعتقادي يجب ألا نتوقف عند هذه النَّماذج السلبية المحبطة من شعبنا، وهنا لا بد ان انوّه إلى أنها دليل على مجتمع ينقصه الثقافة وينقصه الانتماء والوعي حتى يقدّر مَن قدَّموا له جزءًا من حياتهم، أو وقتهم، فالمجتمع الذي لا يَحترِم ولا يَشكُر، لا يُحترَم ولا يُشكَر وهو مُجتمع حتمًا مُتخلّف. ولا أنسى أننا مجتمع بلا مؤسسات وطنيَّة ترعى وتحمي وتشكر وتقدر من خدم وقدم، وبالأساس تعرّف بهم إعلاميًا على أقل تقدير.

لا أدري لماذا خطرت ببالي رواية الكاتبة الدانماركية المشهورة ليزا نورغورد التي كافأها شعبها حين تمرَّدت على الواقع في روايتها المشهورة “مجرد انثى” وقد ترجمتها الى العربية النصراوية المقيمة في الدانمارك الصديقة سوسن كردوش وقد بيع منها نصف مليون نسخة لشعب لا يتجاوز تعداد سكانه الستة ملايين مواطن، وبمناسبة ميلادها المئة أقيم لها تمثال من البرونز في مدينتها روسكيلة في شارع “الغادة” الذي تسكنه الكاتبة شكرًا وعرفانًا لها بما قدَّمته لشعبها .في حين يبحث الكاتب عندنا والمناضل عن مجرد وقوف معنوي الى جانبه، بكلمة طيبة، والمقصود هنا الظاهرة بشكل عام وليس كاتب او شخص بعينه، أتمنى التوفيق لتوفيق، ولشعبنا الذي نحب.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*