بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى يكتبون خلف القضبان في شهر حزيران 2019؛ لاهتمامي بأدب السجون والحريّة، التقيت العشرات منهم وتبيّن لي أنّ الكتابة خلف القضبان متنفّس للأسير، تجعله يحلّق ليعانق شمس الحريّة؛ من عتمة الزنازين يرسم الوطن قوس قزح.
واكبت في السنوات الأخيرة غالبية إصدارات الأسرى في سجون الاحتلال، شاركت عشرات الندوات حول أدب السجون والحريّة، في البلاد وخارجها، ومنها مبادرة “أسرى يكتبون” بالتعاون مع رابطة الكتاب الأردنيين، ولاقت تلك الإصدارات تجاوبًا كبيرًا في شتّى أرجاء العالم العربي.
في لقاءاتي معهم تعاصفنا وتثاقفنا، وحدّثني كلّ منهم عن الصعوبات والعراقيل التي تواجهه في الكتابة وتعيقها، ناهيك عن الصعوبات الجمّة التي يواجهها الأسير في إخراج مادّته المكتوبة عبر القضبان، وبعد إخراجها يصعب تفريغها وطباعتها، ومن ثمّ تنقيحها وتنضيدها وتحريرها، وبعد هذا كلّه مشكلة إصدارها لترى النور، وطريق الآلام التي يمرّ بها النص وصاحبه، منذ ولادة الفكرة والمخاض إلى ساعة الولادة وما بعدها من احتفاء بالمولود خلف القضبان، واحتفال الأهل والمعارف خارج القضبان بغياب الوالد/ة الشرعيّين له فيصير احتفالًا مبتورًا.
حدّثوني عن فقدان الخصوصيّة، شحّ المصادر، الحرمان من كرسي وطاولة للكتابة مع لامبة كهربائيّة ملازمة، نقص في الورق والحبر، حرمانهم من الممحاة! (من الجدير بالذكر أن سلطة السجون حاولت منعهم من حق الكتابة، فلم يسمح بإدخال الأقلام والأوراق إلى السجون إلا بعد نضال مرير سقط خلاله شهداء وجرحى من الحركة الأسيرة وتحقق انتزاع الحق لامتلاك القلم والورقة( الخوف الدائم من مصادرة كتاباتهم في كلّ لحظة، “مصادرة” الفكرة وحبل الأفكار نتاج استفزاز السجان أو إجراءات تعسّفيّة أو قمعة فجائية.
سمعت الكثير من الهمز واللمز حول تلك الإصدارات، غزارة الانتاج والنشر، وكأنّ الكتابة خلف القضبان ترف وبذخ ينعم به الأسير الكاتب، فهناك من تخيّل أنّ الأسير في شطحة على شاطئ البحر أو خلف طاولة مكتبيّة في غرفة مكيّفة أو معتزل عن عالمه في صومعته للتأمّل والكتابة أو خلف حاسوبه أو اللابتوت في مقهى أو في حديقة غنّاء، أو يغوغل ويشطح عبر الشاشة الزرقاء، وهناك من تخيّل أن بإمكان الأسير أن يستأجر غرفة فندقيّة أو شقّة مفروشة مع كلّ وسائل الراحة ليتفرّغ للكتابة.
ومن هنا تولّدت فكرة هذا الإصدار، وحين توجّهت للأسرى الكتّاب حول طقوسهم، وكذلك من تحرّر منهم وكتب خلف القضبان وخارجها، فوجئت بتشجيعهم وتحمّسهم للفكرة، وكلّ منهم كتب دون شروط أو قيود أو توجيه فجاءت كتاباتهم متنوّعة لتشكّل لوحة فسيفسائية وكولاج أدبي متكامل، كلّ وطقسه.
لا شعوريًا، دون تخطيط مسبق ودون برمجة، جاءت المشاركة بشكل عفويّ للكلّ الفلسطيني، ممثلّة لكل أطياف أسرانا في زنازين الاحتلال وخارجها، دون أن يعلم أيٌّ منهم من سيشارك في الكتاب، ودون أيّ تحفّظ أو شروط مسبقة وكلّ منهم متلهّف لما كتبه زميل الأسر.
نعم، كلّ منهم امتشق قلمه تعويضًا عن البندقيّة، من رحم المعاناة والألم تولّدت الفكرة والكلمة الحرّة.
الحريّة خير علاج للأسير.
*** تقديمي لكتاب “الكتابة على ضوء شمعة” الصادر عن دار الرعاة للدراسات والنشر
وجسور للنشر والتوزيع (2022)