لست هنا بصدد نقد الآخرين والتطرّق إلى مشاريعهم وعماهم، بقدر ما انا بصدد مُراجعة صادقة، ورؤية واضحة، ومكاشفة صريحة، لجسم سياسي انتميت اليه طول عمري، ويعز عليَّ أن لا يقود هذا الجسم شعبنا الفلسطيني في داخل الوطن، كما فعل في كل تاريخه النّضالي منذ النَّكبة إلى اليوم، وعليه أرى ضرورة قصوى لمراجعة الذَّات، ومُحاولة اتخاذ القرارات الصّحيحة والاستراتيجية التي بإمكانها أن تعيد للبناء القه، وتعيد الامور إلى سابق عهدها، وتضع الجبهة الديمقراطية في مسارها الريادي الصحيح، وتعيد اليها بريقها وطريقها الذي تستحق وهي تستحق.
فترة عصيبة تمرّ على شعبنا الفلسطيني المُتجذّر في وطنه، الصَّامد رغم عاتيات الزمن، يقف شعبنا اليوم عاريًا امام تحدي يكاد أن يكون مصيريًا، فبالإضافة الى آفة العنف المُستشري فيه، ويعود سبب انتشاره الأساسي إلى ضعف الأحزاب السياسية، وعدم استطاعتها السيطرة على الشارع، وفرض اجندتها السياسية الوطنية، والثقافية، والأدبية الخلاقة، هكذا ترك الميدان لحميدان، بالإضافة إلى الغرق في عصر التفاهة، وترك الناس لمصيرها، واللعب في الوقت الضّائع فقط من أجل الحصول على أصوات الناخبين في “شهر المرحبة” كما اعتاد ان يقول المواطن، بمنتهى السخرية والاستهزاء.
اذن نحن امام أحزاب سياسية هشة ضعيفة، صورية، تتعامل مع المواطن بصورة فوقية، متأثرة بالشارع اليهودي، والجو العام في الدولة، بعيدة عن الشارع الفلسطيني، لا تتفاعل معه ولا تتعامل مع واقعه الا من خلال الصوت في الكنيست الصهيوني، رغم اعتباره عند الكثيرين مجرد منبر او أحد المنابر لإيصال كلمة وموقف وايصال مطالب وصوت الى مسؤولي الدولة ليس أكثر، هذه الأحزاب ليس لديها برامج وطنية جديدة او حتى متجددة، ليس لديها حضور حقيقي على الساحة، وانما تحمل برامج قد عفا عليها الزمن وحان موعد تغييرها او تجديدها، يعيشون بعيدًا عن الواقع والظرف والأجواء اليمينية العنصرية التي تسود الدولة.
والاسوأ في هذه الأحزاب عدم وجود قيادات وطنية ميدانية قوية، وشخصيات كارزمية، تستطيع ان تقنع الشعب، وتقود الشارع، لان يؤكّد الوجود والانتماء إلى الوطن والهوية والتراث، والتاريخ، وليس الى رموز وأفكار لا تمت الينا بصلة. عدم وجود قيادات تستطيع أن تقف إلى جانب النّاس بصدق وبإيمان وتقنع ان هذا هو الطريق، قيادات تستطيع ان تقود الناس نحو مصالحها العليا، وعدم التفريط بها تحت أيّ ظرف، ولا تنقاد إلى الغوغاء أو إلى مصالحها الذاتية.
وهناك عدم وجود نوادي حزبية ونشاطات سياسية وثقافية واجتماعية وفكرية في المدن والقرى تسد الفراغ الذي تخلّفه طبيعة الحياة في الدولة، وسياسة الدولة كما نعهدها، تعتمد على الإهمال وتغييب، وتغيير مسار وتسطيح الثقافة وتحويلها إلى ثقافة تافهة غير موجهة، وبهذا يتم تفتيت الانتماء الوطني والقومي للإنسان الفلسطيني في وطنه وسلخه عن تاريخه ومحيطه.
نحن بالنسبة لليهودي الصهيوني، ولسياسة الدولة بشكل عام، مجرد رعايا تابعين لها، نحن موطنون مع وقف التنفيذ، او مواطنون من درجة دنيا بعد التصنيف الصهيوني حتى لليهود، هم الاسياد ونحن الرعايا نعيش في حديقتهم الخلفية بمنَّة منهم، سقف تطلعاتنا لا يجب أن تتجاوز حدود مطالبنا اليومية، وكل تجاوز هو خروج عن الطّاعة وعبور لحدود وسياج الحديقة الخلفية، استطاعوا بهذا الطرح، اقناع بعض الافراد الفارغين من أي فكر أو انتماء، واقتنعت بعض الأحزاب الهشة الركيكة التي تبحث عن الفتات وتعتبره إنجازًا عظيمًا، ومستعدة أن تبقى في حديقتهم الخلفية لا تتجاوز سياج البيت ما دام الفتات يصلها، وحتى لو عرفت انها ستُجر إلى المسلخ في نهاية اليوم، بهذه النظرية اقتنع البعض واصبح يتصرف ويعمل على هذا الأساس، وقامت أحزاب تقاتل وتناضل ضمن هذا الاطار الذي حدد لها.
في هذا الواقع التَّعيس والمر الذي تعيشه الجماهير، يتعامل السياسيون مع الشعب باستخفاف وبعقلية الاب الموجه، والولد الغير ناضج، يتذكّرونه عندما يحتاجون صوته، يخاطبونه بلغة فوقية، ويقلبون له ظهر المِجن بعد كل جولة انتخابات، بعضهم قيادات متسلقة رجعية متخلفة، يضعون المواطن في معظم الحالات امام خيارين لا ثالث لهما، إمَّا التصويت أو قبول الأسوء، من سياسة معادية لنا، وبعضم باع، وتاه في سوق المصالح الانية، والشخصية والمدنية، وكأنَّ سقف تطلعاتنا كشعب، هي بضعة شواقل يمنون بها علينا.
تنسى هذه الأحزاب وهذه القيادات أنَّ شعبنا الفلسطيني قد رضع السياسة منذ الولادة، وهو أكثر شعوب الأرض قاطبة فهمًا للسياسة واساليبها ويفهم الواقع وما يدور حوله، وباستطاعته أن يرسم الطريق ويحدد المسار، رغم عثرات الزمان، وفي الوقت المناسب يستطيع أن يقلب الطاولة على من فيها اذا شعر بالخطر أّو المس بكيانه ووجوده وكرامته.
في واقعنا الحالي، نحن أبناء الشَّعب الفلسطيني المجبول بتراب الوطن، الباقي فيه، نقف اليوم أمام واقع مر وأليم، اختلطت فيه الامزجة، وتغيرت فيه القيم والمفاهيم، وتصارعت فيه مختلف التيارات الفكرية وحتى الانتهازية، الحقيقية والخيالية، لنصل إلى تيارين، علينا أن نحدد طريقنا ومسارنا الوطني والمدني من خلالهما، تيارين يتصارعان على قيادة هذا الشعب، ومن خلال الكنيست او البرلمان يتحدد دورهما وقوتهما، تياران اساسيان يلامسان وجوده وكيانه وكرامته. تيار يناضل من اجل ان نكون شعب له كرامة وعزة نفس وانتماء وطني وقومي، ومطالب مدنية وقومية يومية، وتيار آخر ، سقف تطلعاته القضايا المدنية والمادية، يريد أن نلعب في الحديقة الخلفية لشعب اخر، سقف تطلعاتنا قضايا حياتية يومية خالية من الكرامة، وقيادة هشة تنتظر من اسيادها الفتات.
هذا التيار التفريطي التطبيعي سلم كل أوراقه للشيطان ومصيره للمجهول، ويرى بنفسه مجرد مجموعة سكانية لا أصل ولا فصل لها تبحث عن الفتات على موائد اللئام، وتعيش في حديقته الخلفية، وتشكر الله صباح مساء على ما انعم الله والسيد عليهم. والَّا فما معنى مصطلح “وظيفتي ان اخدم المجتمع العربي” وهو شعار يزين السّاحات في قرانا ومدننا العربية، ومن قال لك يا اخي اننا بحاجة الى خدام، نحن بحاجة الى قيادة وطنية نحن بحاجة الى قائد وطني لا يهادن ولا يساوم على القضايا المبدئية، نحن لا نبيع نضالنا الطويل ومسيرتنا النضالية وانجازاتنا الوطنية والقومية والتاريخية والحضارية، كما فعل الاسياد قيادات العرب البائدة في دول الخليج الذي يتنكرون لمجرد وجود قضيتنا الفلسطينية، لسنا شعب شحاتين، ولا نحتاج الا الى الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية.
ومن هنا فنحن وجها لوجه أمام تحدّ مصيري، ليس امامنا الا ان نكون هنا أو هناك، وعلى كل فلسطيني في هذا الوطن أن يقرر أين يقف بكل عزة وكرامة، عليه أن يرى بالنضال والصراع مع القوى الرجعية الوسيلة الوحيدة لاكتساب الحقوق، والبقاء على ناصية القيادة، لأننا نريد أن نبقى شعبًا عريقًا ثابتًا صامدًا في وطنه له كرامة وطنية وعزة نفس ورؤيا مستقبلية واضحة لا ينتطح فيها عنزان.
وبما ان الجبهة الديمقراطية هي الجسم الأكبر والأكثر تنظيمًا القادرة على تحمّل المسؤولية ورسم خطوط المُستقبل ووضع الأمور في نصابها، بشرط أن تجري لهذا التنظيم مُراجعة ذاتيَّة عميقة ثورية، تنحى إلى إعادة تشكيل رؤيا استرتيجية مستقبلية يمكنها أن تجمع كل قوى الشعب الوطنية حولها وتنطلق نحو بناء مجتمع فلسطيني متماسك، يحمل راية النضال بعزة وكرامة، ويعمل للحفاظ على مقدراته النضالية التراكمية خلال تاريخه الطويل.
على هذا التيار الوطني أن يتعلم من دروس الماضي ويستنبط العبر والدروس وينظر بعمق وبجدية إلى القضايا التي أدت الى وقوعه في مصيدة السياسة العامة في الدولة وبالتالي الابتعاد عن مصلحة الشعب وطريقه الكفاحي والنضالي الوطني والقومي والمدني ومنها ما يلي:
إقامة المشتركة وتوحيد كل التيارات السياسية والحزبية بكل مشاربها، والتَّعامل مع الشعب كأنه وحدة فكرية واحدة متجانسة، كان خطأ فادحا، لانَّه شلَّ الحياة السياسية وأدى الى اركان القيادات المحلية على اضطرار الناخب للتصويت للقائمة الوحيدة دون تفكير، او مراجعة، وعليه يجب المراجعة وأن يبقى على تياران يتنافسان، رغم ابتعاد الأخير عن الخط الوطني، وذلك كي نبقي جذوة الحوار والنقاش، على القضايا المصيرية، وكي لا نسير كالقطيع الى التصويت دون ان نعرف الطريق الى اين يسير، وكي لا نترك مجتمعنا وساحات النضال تصارع لوحدها على الساحة دون حسيب او رقيب.
يجب ان نقر ان شعار اسقاط نتنياهو ، والتوصية على من هو أسوأ منه حتى لو كان قرارا تكتيكيا فهو خطأ فادح، قد اضر بالجبهة والمشتركة وببرنامجها السياسي الأساسي والثقافي، ووضعها امام احد خيارين وكلاهما مر، ان تذدنب الى اليمين العنصري السيئ ام الى اليمين العنصري الاسوء، وعندما اختارت لا هذا ولا ذاك سقطت بين الكراسي، وتلقف غيرها الرسالة والمعنى واتخذه قرارا استراتيجيا، فارتمى بحضن الاسوء من السيئ ، وهذا كان خيار كارثي على شعبنا الفلسطيني إذ حوَّلنا من شعب فلسطيني يحمل راية النّضال والعزة والكرامة إلى “مجتمعنا العربي” الذي يبحث ليس عن قائد وليس عن قيادة حكيمة مجربة واعية تقودة نحو العزة والكرامة ، والمساواة تحت شعار الندية والمساواة وانما الى “خادم شعب”، يبحث له عن الفتات تحت موائد اللئام، فاي قيادة هذه التي انزلقت وحولتنا الى شعب شحادين تبحث عن الفتات وتكتفي بمجرد البقاء، ليس لنا ماض وليس لنا كرامة وتاريخ وحضارة ولغة وانما مجرد مجتمع شحاد ومتعطش للدم ويبحث عن خادم ينتشله من هذا المصاب .
على القيادات ان تخرج من رحم المجتمع بدل ان تخرج من رحم الصالونات الفارهة، البعيدة عن السياسة وعن الشعب، يجب منع المتسلقين والمتطاولين على العمل الوطني من الوصول الى المراكز القيادية وهي تصل بسبب الترهل الحاصل في الأحزاب السياسية، وتقديس الكراسي، الناس بحاجة الى قيادة واعية مجربة شجاعة وحقيقية، وتريد ان تقود المجتمع، تصون الكرامة، والعزة الوطنية، وتخوض مع الناس طريق النضال، مع قائد صاحب كارزمة ومبدأ ورؤية وموقف صلب، يعرف كيف يدير الأمور، وكيف يقرر ويقر السياسة بشكل ديمقراطي حر.
هناك قطيعة بين القيادة القطرية والقيادة المحلية، هناك لا مبالاه غريبة عجيبة لما يجري دون تحريك ساكن، هناك ترك للساحة السياسية في القرى والمدن وهجر النوادي والتثقيف السياسي “مثال كوكب وغيرها” الامر الذي ترك فراغًا مذهلًا، وعزوفًا جماعيًا عن الجبهة. وهي اليوم تعتمد فقط على تاريخ ورصيد سياسي وليس على عمل يومي متجدد وجديد. وعليه على القيادة إن ارادت الحياة أن تلتفت إلى كوادرها وإلّا تاهت الطريق وفقدنا البوصلة.
الناس بحاجة الى إعادة النظر بشعاراتنا التي طُرحت منذ عشرات السنين وما زالت هي هي التي نراها بالساحة فاين نحن من الشعارات الجديدة والرؤية الجديدة التي تتلائم مع الواقع ومع العصر. مثل شعار دولتين لشعبين ومصطلح الأقلية العربية في إسرائيل والمجتمع العربي، وإقرار تعريفنا البسيط “الشعب العربي الفلسطيني في الوطن”.
إقرار وجود شعبين يعيشان على ارض الوطن ويجب الاعتراف بهما والتأسيس لدولة ديمقراطية فيها هويتان ولغتان وشعبان يتشاركان الحكم على قدم المساواة، هنا وفي الضفة وغزة، مع حق كل فلسطيني بالعودة الى ارض العودة او الميعاد، فنظرية الدولتين سقطت. ويجب الاعتراف بجميع أبناء الوطن كمواطنين متساوي الحقوق والواجبات في دولة ديمقراطية يحكمها الشعب اليهودي والشعب الفلسطيني على قدم المساواة وبحرية تامة لجميع افراد الشعبين.
هناك تجاهل غريب لعمل ودور تنظيمات ثقافية لها مكانتها ودورها في صقل الوعي الثقافي والوطني والقومي وتحمل راية وحدة الشعب ثقافيًا وحضاريًا وتاريخيًا وتعمل على برنامج تواصلي على كامل جغرافيا الوطن، واقصد هنا ” الاتحاد العام للكتاب الفلسطينيين الكرمل 48 ، وانا عضو فيه منذ التأسيس مرورا بالوحدة والى اليوم، انا سكرتير هذا الاتحاد” لم يسألني احد من قيادة الجبهة او المشتركة وغيرهما عن الدور والمكان والنهج، لم يحاول احد التعرف لا من قريب ولا من بعيد على هذا الجسم الثقافي الوحدوي الناهض والذي يهدف الى إرساء ثقافة وطنية لأبناء شعبنا، لم تبق مدينة فلسطينية الا وتواصل مع مثقفيها وكتابها واقام الندوات واللقاءات، وهو يقوم بدور اقوى في التواصل مع الاسرى في سجون الاحتلال حول كتاباتهم الأدبية وايصال صوتهم الى العلن رغم قضبان السجن. فاين الجبهة وأين الأحزاب السياسية الوطنية على ساحة النضال وأين دورها، يصدر هذا الاتحاد مجلة فصلية أدبية ” شذا الكرمل” فاين الجبهة من هذه الاجسام وكيف تتعامل معها، والمطلوب فقط دعما معنويًا وموقفا مبدئيا ومشاركة في نشاطات هذا الجسم وغيره.
يجب ان نقر ان العنف المستشري بين أبناء شعبنا الفلسطيني هو الفراغ السياسي والتثقيفي والتوعوي والانتمائي الذي خلفته الأحزاب وفي مقدمتها الجبهة، وتجاهل السلطة لنا تحت شعار بطيخ يكسر بعضه، هذا الامر أدى الى اختلال في الموازين. عليه يجب العودة لملء هذا الفراغ المريع ومنع سيطرة افة العنف على الشارع، هذا يزيدنا قوة ويحصن مجتمعنا.
10.8.2022