بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى أحرار يكتبون رغم عتمة السجون في شهر حزيران 2019؛ تبيّن لي أنّ الكتابة خلف القضبان متنفّس للأسير، ودوّنت على صفحتي انطباعاتي الأوليّة بعد كلّ زيارة؛
عقّب الشاعر صلاح أبو لاوي: “من أعظم ما يثير الإعجاب بأسرانا الأبطال، هو أن أصحاب المحكوميات الطويلة جدا والمؤبدات يتعلمون داخل السجن ويحصلون على شهادات عليا، وفي هذا قهر للسجان وكأنهم يخبرونه أن حريتهم قريبة وزواله أقرب.”
وعقّبت الصديقة خلود القاسم: “لو ظل أسرانا يدقون جدران الخزان طويلا ما تحققت آمالهم ما دام أبو الخيزران في سبات عميق. ما فائدة صراخ الأسرى ونحن بصمتنا نعجل حتفهم؟ بوركت جهودكم أستاذ حسن ونسأل الله الفرج القريب لأسرانا”.
“ حيفا من خلال الجوجل إيرث“
غادرت حيفا فجر الخميس 4 آب 2022 ووِجهتي سجن نفحة الصحراوي، يرافقني صديقي ظافر شوربجي، وبعد لقائي بجمال وضياء في سجن نفحة الصحراويّ، أطلّ الأسير قسام عبد الكريم راجح شبلي (البرغوثي) [1] بابتسامته الواثقة، وبعد التحية أاسترسل يحدّثني عن ظروف الأسر والتقسيم السياسي والجغرافي للأسرى في محاولة بائسة لتدجين الحركة الأسيرة (فرّق تسد) وطقوس الفورة، واحد من كلّ غرفة، وطقوس الطبيخ والأكل.
قسام مواليد 1994 (يا إلهي، أصغر من ابنتي الصغرى) ومعتقل منذ 26.08.2019، هذا الاعتقال الرابع له، درس الصحافة والإعلام واشتغل في المتحف الفلسطيني ليتم نشله وأسره خلف القضبان.
تحدّثنا عن مشروعه الثقافي والكتابي، قرأت له بعض النصوص من قبل، وطقوس الكتابة خلف القضبان، ثمانية أسرى في الغرفة وفش جو للكتابة، بنطلّع وبنشوف وبنتعلّم، السجن عالم الأشياء الصغيرة، فلتلك الأشياء أهميّة كبيرة في عالم الأسر؛ أهميّة “المعلقة مش مجليّة، الحفّاية بنصّ الغرفة، الميّة في الحمام” وغيرها.
يحلم بزيارة حيفا، زارها عبر الجوجل إيرث!!
الكتابة تفريغ وابتعاد عن التفاصيل، تخرجه عبر الأسوار ليحلّق ويعيش في العالم الكبير.
الأسر علّمه الكثير الكثير.
ينتظر لقاء إصرار ابن خالته الذي وصل نفحة قبل ثلاثة أيام.
“ نوبة قلبيّة في الزنزانة“
بعد لقائي بجمال وضياء وقسام في سجن نفحة الصحراويّ، أطلّ الأسير أحمد علي حسين أبو جابر[2] مبتسمًا، وبعد التحية أخذ يعزّيني بوفاة الحاجة خولة، أخت زوجتي، ويسأل عن الأصدقاء والوضع في “الخارج”.
تغيّر أحمد، (مواليد 1960، أُعتقل يوم 8 تموز 1986)، بدل الحماس الثوري الذي اعتدته منه في اللقاءات السابقة، استرسل يحدّثني بتفاصيل التفاصيل عن حالته الصحيّة والنوبة القلبية التي مرّ بها وعن العلاج، والإهمال الطبي الذي عاناه، كبقيّة المئات من زملاء الأسر، وطريق الآلام التي مرّ بها خلال فترة مرضه، وإشكالية التأمين الصحي للأسرى، فهو طريح الفراش ينتظر عمليّة جراحيّة والمستشفى يفاوض سلطة السجون من يموّل العلاج؟
تحدّثنا عن قراءاته وكتاباته التي توقّفت بسبب المرض، توقه لعناق أحفاده الذي حرم من عناقهم واحتضانهم حتى اليوم وما زال يحلم بسماع رنين كلمة “سيدي”، يا له من حلم كبير!
مرّ الوقت وأحمد يتحدّث بحماس عن مرضه وإمكانيات علاجه… والأمل بالحُريّة القريبة يحلّق في فضاء اللقاء.
“ ظلم ذوي القربى أشد مضاضة“
بعد لقائي بجمال وضياء وقسام وأحمد في سجن نفحة الصحراويّ، أطلّ الأسير معتز محمد فخري عبد الله الهيموني[3] مبتسمًا ابتسامة متعبة على غير عادته.
تغيّر معتز كثيرًا منذ لقائنا الأخير في عسقلان (مواليد 1981، أُعتقل يوم 25 نيسان 2002)، تم عزله حين قرّر مواجهة الخطأ في تصرّفات الحركة الأسيرة ونقل إلى نفحة وحيدًا، معزولًا من رفاق دربه، وكأنّي بلسان حاله يردّد: “ظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرءِ من وقع الحسام المهنّد” “فتغيّرت الحال وصارت اللوائح الداخليّة ع الرف
تناولنا مجدّدًا طقوس كتابته، وتقدّم مشروعه الروائي “غابة عزازيل” ومخطوطتها تنتظر فرصة التحرّر والانطلاق عبر القضبان وأسوار السجن في طريقها إليّ.
حدّثني عن فكرة رواية جديدة تختمر في ذهنه من وحي مصنع الولّاعات في الخليل.
وقصّة قصيرة من وحي خطأ جوهري في منهاج التعليم للأطفال وتصوير السجين بالحرامي دون استثناء الأسير وسجناء الحريّة من هذا التعريف.
حدّثني بحرقة عن الهرميّة داخل الحركة الأسيرة ممّا يسبّب الظلم والمهانة للكثيرين من الأسرى، وخاصّة الجدد منهم، ويشوّه المسيرة النضالية.
رغم ذلك بقي معتز مفعمًا بالأمل…
لكُم أعزائي قسام وأحمد ومعتز كلّ التحيات، والحريّة القريبة لكم ولجميع أسرى الحريّة.
حيفا آب 2022
[1] الأسير قسام شبلي (البرغوثي)، اعتقل يوم 26 آب 2019، هذا الاعتقال الرابع له. [2] الأسير أحمد أبو جابر من مواليد 1960، أُعتقل يوم 8 تموز 1986 حكمت المحكمة العسكريّة الإسرائيلية بحقّه حكماً يقضي بالسجن المؤبد + 10 أعوام. [3] الأسير معتز الهيموني من مواليد 1981، أعتقل يوم 25 نيسان 2002، حكمت عليه المحكمة العسكريّة الإسرائيليّة بالسجن المؤبد 6 مرات وعشرون عامًا.