ملخّص البحث
يبحث هذا المقال القصير في “الدوريّ المهاجر” الأعمال الكاملة للكاتب سعيد نفّاع، وهي جمع لستّ مجموعات قصصيّة كان الكاتب قد نشرها على امتداد عقود. تدور معظم قصص نفّاع حول الهموم السياسيّة والوطنيّة والاجتماعيّة الفلسطينيّة منذ النكبة إلى اليوم. دمج الكاتب نشاطه السياسيّ وقوله الآيديولوجيّ في تجربته الأدبيّة هذه. تكشف قصصه عن علاقته المتينة بالمكان/ الوطن فلسطين، وهي علاقة وثيقة لها دلالاتها الآيديولوجيّة الفكريّة العقائديّة عند الكاتب، فالوطن فلسطين حاضر انتماءً وعاطفةً وثقافةً وفكرًا، حيث يشكّل المكان المفقود والأرض المسلوبة البؤرة الأساسيّة للنصّ القصصيّ عنده. من هنا ارتأينا البحث في علاقة الكاتب بالمكان/الوطن، وفي جماليّات المكان وحضوره في القصص، ثمّ تعالق الزمان به، زمان النكبة التي لا تزال فاعلة في وعي الفلسطينيّ، مؤثّرة فيه. كما بحثنا في العتبات والعناوين وتعالقها بالمكان، ثمّ في جماليّات فنّيّة وأسلوبيّة أخرى كتوظيف التراث والتناصّ والسخرية واللغة المحكيّة وآليّة الوصف.
سعيد نفّاع- بطاقة تعريف
ولد سعيد نفّاع في قرية بيت جن. أنهى دراسته الثانويّة في ثانويّة الرامة عام 1971. حين بلغ الثامنة عشرة حكم عليه بالسجن سبعة عشر شهرًا لرفضه الخدمة العسكريّة. عام 1983 أنهى إجازته في الحقوق، ليزاول المهنة في مجال القضايا الحقوقيّة والأمنيّة في البلاد والجولان، وذلك تلازمًا مع نشاطه السياسيّ في الحركة الوطنيّة، الحزب الشيوعيّ بداية، والتجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ لاحقًا. شغل مناصب عديدة في حركات وطنيّة وسياسيّة. دخل البرلمان الإسرائيليّ(الدورة الـ17)، مرشّحًا عن حزب التجمّع، وأعيد انتخابه عام 2009 (الدورة الـ18)، ثمّ ترك صفوف الحزب وبقي حتّى عام 2013 عضوًا مستقلًّا في البرلمان. عام 2007 خرج على رأس وفد من المشايخ العرب الدروز إلى سورية، الأمر الذي جعله عرضة لملاحقة قانونيّة فحكم عليه عام 2015 بالسجن الفعليّ لعام ونصف، ونصف سنة مع وقف التنفيذ لثلاث سنوات وإبعاده عن نقابة المحامين لثلاث سنوات. انتخب أمينًا عامًا لاتّحاد الكرمل للأدباء الفلسطينيّين ولا يزال إلى اليوم، كما يرأس تحرير مجلّته “شذى الكرمل”. له ستّ مجموعات قصصيّة، ورواية “وطني يكشف عريّي”(2016) التي نشرها خلال تواجده في الأسر، وأخيرًا الأعمال الكاملة “الدوريّ المهاجر”(2018).[1]
تمهيد
“الدوريّ المهاجر”(2018) هي الأعمال الكاملة للكاتب سعيد نفّاع، والتي نشرها خلال الفترة الممتدّة بين الأعوام 1971 حتّى 2015، في ستّ مجموعات هي: “نكبة الدوريّ”(2000)، “الحائل” (2006)،”مأتم في الجنّة” (2011)، “سمائيّة البوعزيزي”(آذار 2014)، “لفظ اللجام” (تشرين ثانٍ 2014)، “رسالة مؤجّلة من عالم آخر”(2015). بلغ حاصل جمع القصص في هذا الكتاب 67 قصّة. شمل الكتاب أيضًا فصلين: نقديّات 1 (الكاتب منقود)، وهي مجموعة من المقالات النقديّة التي نشرها عدد من النقّاد حول قصص الكاتب، ونقديّات 2 (الكاتب ناقد)، وهي عدد من المقالات تتناول رؤية نفّاع نفسه للنقد. ثمّ ذيّل كتابه بسيرة له محتلنة أواخر 2017. ومن الجدير بالذكر أنّ هذه الدراسة اشتملت على ثلاث قصص إضافيّة عن السجن كان الكاتب قد أرسلها إليّ عبر البريد الإلكترونيّ،[2] ولم ينشرها في أيّ مجموعة سابقة.
يلتفّ الكاتب في قصصه كغيره من الأدباء الفلسطينيّين حول الهموم الاجتماعيّة والوطنيّة والسياسيّة، كاشفًا عن نبرته الآيديولوجيّة العقائديّة. وهو إن وصف تجربة فرديّة فإنّه يلغي منها فرديّتها ويدمجها في إطار التجربة العامّة. تحمل القصص الهمّ الفلسطينيّ منذ نكبته إلى اليوم. تتناول القضايا الوطنيّة والمعيشيّة التي يعيشها الشعب الفلسطينيّ في الأراضي المحتلّة، وفي لبنان وداخل حدود دولة إسرائيل. كما نجد اهتماماته القوميّة من خلال طرح قضايا عربيّة، والتركيز على أحداث شغلت الرأي العامّ ولها تأثيرها على ما جرى ويجري في العالم.”[3] يتطرّق نفّاع إلى وصف الواقع الفلسطينيّ منذ حكم الإنجليز، علاقة المؤسّسة الإسرائيليّة الحاكمة مع الأقلّيّة الفلسطينيّة، علاقة الفلسطينيّ من الأراضي المحتلّة مع المستعمر وصاحب العمل اليهوديّ، تحدّي الاحتلال والنكبة ومصادرة الأرض ومقارعة السلطة وأدب السجون، وهي قصص كثيرة لا يسعنا ذكرها هنا، كقصّة “الشظيّة العائدة”(ص184)، “البيت المهجور”(ص9)، “المفتاح واليرموك”(ص62)، “كيف ساهم العبد جرّاح.. “(95)، “أبو حمّاد يفشل في عودة مهجّري شعب”(ص26)، “حورة الميعاريّة”(ص40) وغيرها. لم يتوانَ الكاتب عن نقد العادات الاجتماعيّة، واقفًا ضدّ السلوكيّات السلبيّة الموروثة، كالدجل والحجب كقصّة “مشمشتنا الشاميّة”(ص189)، والقتل على خلفيّة “شرف العائلة” كقصّة “الأقحوانة المتكسّرة”(ص295)، وإثبات عذريّة العروس في “الشلحة”(ص289). كما انتقد التزمّت الدينيّ، نابذًا المسلمّات البائدة كقصّة “البنات والخنجر”(ص339)، و”الحادي والفضائيّة”(ص299). انشغل نفّاع كذلك بالبيئة القرويّة والفلّاحيّة في العديد من القصص، كقصّة “الشقوق”(ص36)، و”كيف ساهم عبد الجرّاح في معركة خلّة علّيق”(ص95)، و”الرئيس والحمار(ص155)، و”ابن راعي الداشورة (ص280). كما ناقش كذلك مسائل وجوديّة فلسفيّة، كقصص “وجدانيّات”. إنّ نشاطه الحزبيّ والسياسيّ قد أثّر على روح كتاباته وانعكس في مضامينها. يرى إبراهيم طه أنّ “قدرته على القول الآيديولوجيّ تتّكئ على فعل آيديولوجيّ متواصل منذ كان في أوّل شبابه، لكنّ تجربته الأدبيّة استطاعت أن تلين صخب القول الآيديولوجيّ وضجيج الحماس الذي يرافقه بأدوات كثيرة منها تطعيم الحكائيّ بأنماط من الملح الشعبيّة وهمس القول الفلسفيّ المتعالي والسخرية الملوّنة مثلما يليق بواقع محتقن”.[4] ينصت نفّاع إلى مجتمعه وتاريخه ونكبته، ويمزج بين الأدب والسياسة والمحاماة، مدافعًا عن قضايا شعبه من خلال الكتابة والإبداع، مهتمًّا بالسياسيّ والفلسفيّ والوجوديّ والاجتماعيّ والأرضيّ والبيئيّ والإنسانيّ على حدّ سواء، فيمسي الأدب لديه خير من يصوّر الصراع، إذ “لا يكون الأدب إلّا ردًّا على واقع مستفزّ. ينتقم الأدب من الواقع وتشكّلاته فيسعى إلى استبداله”.[5]
* سعيد نفّاع والمكان[6]/الوطن
منذ لحظة ولادة الإنسان يولد معه تعالقه بالمكان، لا بل منذ أن يكون نطفة يكون رحم الأمّ مكانًا لنموّه، ثمّ تتبلور الأمكنة في أحياز لا حصر لها حتّى يكون القبر مكانه الأخير. لا يتحقّق وجود الإنسان إلّا بارتباطه بالمكان،[7] وليس باستطاعته نزع كيانه النفسيّ أو الجسديّ عنه. والفنّ كمثل الحياة يتطلّب مكانًا، فهو الحيّز المركزيّ في التأثير على تفاعلات الشخصيّة وسلوكها مع ذاتها ومحيطها. وبالمقابل، لا يعيش المكان منعزلًا عن باقي عناصر السرد، بل يدخل في علاقات متعدّدة مع الشخصيّات والأحداث والرؤيات السرديّة.[8] وقد يتحكّم في مصير الحدث والشخصيّة على حدّ سواء، ويمنحهما الهويّة ويسبغهما المعنى.[9] لا يكون المكان مكانًا إلّا بإدراك الإنسان، فالمكان في حقيقته هو حقيقة معيشة، يؤثّر في البشر بنفس القدر الذي يؤثّرون فيه.[10] إنّ المكان الذي ينجذب نحو الخيال لا يمكن أن يبقى مكانًا لا مباليًا ذا أبعاد هندسيّة وحسب، فهو مكان قد عاش فيه بشر ليس بشكل موضوعيّ فقط، بل بكلّ ما في الخيال من تحيّز”.[11] من هنا، يحمل المكان قيمًا سوسيونفسيّة وفنّيّة ويسهم في خلق المعنى.[12] وليست الخصائص الفيزيقيّة المميّزة للمكان شرطًا كافيًا لتحديد الدلالة، فلا بدّ من وجود الإطار الخاصّ بالعلاقة والانتماء، ولا بدّ أن ينظر إليه على أنّه تكوينات أو بنى أو حالات معرفيّة وجدانيّة توجد لدى الأفراد والجماعات وتسهم في تحقيق إحساسهم بالهويّة الفرديّة والجماعيّة. فيتمّ نسبة بعض المعاني الاجتماعيّة والشخصيّة إلى هذا المكان.[13] إنّه جزء لا يتجزّأ من أخلاق المجتمع ووعيه وأفكاره، بل هو كيان اجتماعيّ يحتوي على محصّلة التّفاعل بين الإنسان ومجتمعه، فالنماذج الاجتماعيّة والدينيّة والسياسيّة والأخلاقيّة العامّة تنطوي على صفات مكانيّة.[14] ومن جهة أخرى، تتشابك العلاقة بين المكان والزمان إلى الحدّ الذي يستحيل فيه تناول المكان بمعزل عن الزمان، فإنّ الشخصيّات التي تتأثّر بمكان ما فإنّها تتأثّر به من خلال فعل الزمان في ذلك المكان، ولا يمكن أن يدرك شيء إلّا وهو يشغل حيّزًا في مكان ما في وقت ما. كما أنّ علاقات الزمان تتكشّف في المكان، والمكان يدرك ويقاس بالزمان. وهذا الامتزاج هو الذي يميّز الزمكان الفنّيّ.[15] إنّ الوجود الإنسانيّ هو وجود زمكانيّ، وكلّ من يبحث في الإنسان يبحث في وجود هذا الإنسان، أي في زمكانيّته[16]. من هنا لا يستطيع الإنسان أن ينفصل عن مكانه وزمانه، فإذا انفصل عنهما يعني غاب عن الوجود وتحقّق موته.
وعليه، إنّ ما يدفعنا إلى تناول المكان بشكل خاصّ في هذه الدراسة هو قوّة حضوره في هذه القصص والدور الذي يلعبه فيها. من الواضح أنّ المكان، أي الوطن/ الأرض الفلسطينيّة، يلحّ جدًّا على سعيد نفّاع فينشغل به إلى درجة كبيرة ويعمل على توظيفه في قصصه بكلّ أبعاده ومجالاته. تكشف القصص عن ارتباط الكاتب بالوطن وشدّة انتمائه إليه معتزًّا، متمسّكا ومخلصًا. يتعمّد الكاتب وصف الفضاء المكانيّ الذي تدور فيها قصصه وتتحرّك فيها شخصيّاته. وتؤكّد القصص بما تتضمّنه من أوصاف للمكان مدى تعلّق الإنسان الشعوريّ وارتباطه الوجدانيّ بالمكان الفلسطينيّ، ومدى تأثير المكان والبيئة على تكوين الإنسان النفسيّ والحضاريّ والثقافيّ والاجتماعيّ. للمكان/ الوطن قيمة وخصوصيّة تصل إلى حدّ التقديس، ففي المكان تتأصّل الهويّة. وإذا قمنا بتسمية هذا الأدب وتحديد جغرافيّته ومكانه فإنّنا بالضرورة سنلاحظ ارتباطه بالمكان، ثمّ أليس الأدب الفلسطينيّ؛ الاسم الذي يرتبط بهويّة المكان، يرصد الإنسان الفلسطينيّ بحياته المرهونة بالسلب والفقد والتغييب؟ لا يمكن للفلسطينيّ أن يعيش مكانه دون أن يربطه بوعيه بزمن النكبة وأثرها وتداعياتها. إنّ المكان عنده هو فلسطين بنكبتها وتاريخها، ماضيها وحاضرها، طبيعتها وجغرافيّتها، جبالها وسهولها، قراها ومدنها، سمائها وأرضها، فلّاحها وناسها، لغتهم وتراثهم، وحيواناتها وطيورها وغيرها.
قصص نفّاع هي قصص واقعيّة، يعتمد فيها على معطيات حقيقيّة ذاتيّة وعامّة، من تاريخه وتاريخ قريته والتاريخ الفلسطينيّ العامّ. تكشف القصص أنّ الهاجس القوميّ والهويّة لا يفارقان الكاتب، إذ لا يكتفي نفّاع بوصف المكان وتوظيفه، بل يربطه أيضًا بالعلاقات التي تربط الشخصيّات بالأرض والوطن المفقود، وبتعالقاتها الوطنيّة والروحيّة والوجوديّة. إنّ الوطن هو مكان القوميّة والهويّة، فيرتبط بالذات وترتبط الذات به بمجموعة من العلائق يصعب نزعها. وإذا كان المكان هو الوطن الفلسطينيّ فإنّ زمان القصص هو زمن النكبة، زمن الإنجليز، الحاكم العسكريّ، سلطة دولة إسرائيل والاحتلال. هو الزمن المعيش، الزمن الماضي والآني. وهذا هو البعد الزمنيّ المتمثّل في الهدف الأساسيّ الأوّل من معظم قصص نفّاع. إنّه يكتب لتكون قصصه شاهدة على زمن النكبة وأثرها. وإذا كان الزمن الغالب هو الزمن الماضي، زمن النكبة، فليس الحاضر إلّا استمرارًا له، أي هو زمن النكبة المستمرّة، زمن الفقد ومصادرة الأرض والتهميش والتهجير الجسديّ والمعنويّ، بكلّ ما يحمله من قلق وخوف واغتراب. هجر نفّاع الحاضر إلى الماضي/ زمن النكبة لا ليهرب من الحاضر، بل عاد إلى الماضي ليوظّف حدثًا تاريخيًّا هامًّا كان حدثًا مفصليًّا شكّل مصير وطن، هو النكبة عام 1948. هذا الحدث أوجد ما يسمّى بالأقلّيّة العربيّة الفلسطينيّة في الداخل وشكّل مصيرها، مثلما شكّل مصير من تبقّى تحت الاحتلال ومن لجأ إلى الشتات. هذا اللجوء إلى الماضي والتداعي هو لاستحضار ما سُلب، لتأكيد وجوده، لإحضاره إلى حاضر لا يزال ينشغل به. في كلّ عودة إلى الماضي يسترجع أحداثًا تاريخيّة ووقائع سابقة تبيّن أفكاره وآيديولوجيّته.
لا شكّ في أنّ نكبة الوطن شكّلت دافعًا قويًّا عند الكاتب الفلسطينيّ للدفاع عن هذا الحقّ المسلوب من خلال مواجهة السّلطة. الأمر الذي يجعله يعيش في صدام مع السلطة السياسيّة التي تسعى إلى تهميشه وإلغاء جذوره. في الكتابة تأكيد للحنين وإثبات للهويّة. بالكلمة يحفظ التراث الشاهد على الهويّة ويروي تاريخ الأرض والإنسان. بالكلمة يحتجّ. بالكلمة يعيد بناء قرية مهجّرة أو بيت تهدّم. بالكلمة يوقظ ويقي ما قد يسقط في الغياب. بها تدافع الذات عن وجودها وتاريخها وجذورها ومستقبلها. هكذا يصبح الأدب فنّ المفقود والمسلوب. في الأدب يأتي الكاتب بالغياب ليجعله حضورًا. والغياب هنا غياب الوطن والأرض والإنسان. والكتابة عن هذا الغياب هو إصرار على الرفض والدفاع والتشبّث، ثمّ التوثيق والتسجيل والتذكير، وبالتّالي التأكيد على البقاء والهويّة.
يكتب نفّاع ليمنع الذاكرة من النسيان، لإيقاظ ذاكرة يخشى عليها من الضياع عبر الزمن، فيستحضر ما كان ويحثّها على الثبات والصمود. كانت النكبة في الوطن، والوطن هو وجود وكينونة وحياة. وحين سلبت حياة الفلسطينيّ لم يعد له إلّا ذاكرته يؤكّد من خلالها على وجوده. يمسي الحكي وفعلُ السرد بعثًا لحياة سُلِبت، وتمسي الكتابة آليّة توثيقيّة تكشف من خلالها ذاكرة شعب. بعد أن اغتصب الوطن بات الحكي عنه أفضل الطقوس لمواجهة الفقد والنسيان، ولم يبقَ للفلسطينيّ إلّا أن يحقّق وجوده ويسجّل ذاكرته وهويّته بالحكي والكتابة. ودون هذه الذاكرة لن تكون له علاقة حقيقيّة مع مكانه/ وطنه. إذًا الذاكرة هي المرجع الذي يلجأ إليه الفلسطينيّ في ظلّ ماضٍ تسعى السلطة الإسرائيليّة إلى سلبه وإنكار وجوده أصلًا. في اللجوء إلى الذاكرة ثمّ تسجيلها عبر الكتابة يعي نفّاع أنّ الكتابة هي فعل انتقام ضدّ السلب والتغييب والتهجير، يدرك أنّ الكتابة تحدٍّ للسّلطة وسلاح للأمد البعيد، يقاوم فيه سلب الحقّ والوطن. هي آليّة الأقلّيّة التي تعيش في أجواء عدائيّة تهدّد بقاءهم. في الأدب شهادة ووثيقة وحفظًا للتاريخ، فحين يذكر الكاتب أسماء القرى المهجّرة فإنّه يعلن بأنّه لن ينسى. إنّ القرى المهجّرة التي يذكرها في قصصه كالجاعونة والخالصة والعموقة والدامون وميعار وغيرها، والقرى والمدن التي يذكرها بأسمائها الحقيقيّة كبيت جن ودالية الكرمل وشعب وشفاعمرو وطمرة وكابول وسخنين وغيرها، هي نموذج لكلّ قرية ومدينة في هذا الوطن بما فيها من شخصيّات. هي نماذج تمثيليّة من قرانا ومدننا، وبما فيها من عادات وسلوكيّات وتقاليد.
يجعل الكاتب من الأرض موتيفًا يتكرّر بكثافة. والأرض مكان. والأرض عنده لا تنفصل عن الإنسان والحيوان والطير والنبات والطبيعة والتاريخ والزمان. وهي بعد كلّ هذا هي الحياة ومعناها وكينونتها؛ حياة الناس وسلوكهم وعاداتهم وتقاليدهم، فتصير هي الوجود بتعالقات الإنسان الوجوديّة الروحيّة. ولما عاش الإنسان الفلسطينيّ حالة خاصّة يتفرّد بها عن غيره، بسبب نكبته وقيام دولة أخرى على أرضه وبهويّة أخرى، فإنّ الكاتب سيصرّ على فعل “التأرّض”، والتأرّض “يعني التوثيق والتذكير مثلما يعني التشبّث بالموقف الرافض من كلّ محاولات القلع والتهجير والإخلاء”، والتأكيد بالتالي على الهويّة والبقاء. والهويّة أرضيّة إذا انقطع حبل السرّة بين الأجيال اللاحقة وهذي الأرض صار كلّ سطح الأرض وطنًا مشروعًا وضاعت الهويّة”.[17] وحين يقوم نفّاع في قصّة “الخائن”(ص 35)، على سبيل المثال لا الحصر، بترقية الشجرة إلى المستوى الإنسانيّ وأنسنة الوطن، وتصير الشجرة امرأة خصبة، فإنّه يعيدنا بالضرورة إلى ثنائيّة المرأة/ الأرض، وهي استعارة أدبيّة دارجة للتعبير عن حبّ الأرض والارتباط بالوطن. ذلك لأنّ الأنثى تتواءم مع الأرض في بكارتها وخصبها، كما تحمل الأرض خصائص الأنثى في الولادة والبقاء والتجدّد. تزداد قدسيّتها وتصبح منبعًا للحنين إلى المكان والارتباط العاطفيّ به.[18] تختفي الشجرة بهويّتها الشجريّة لتتقمّص صورة امرأة، فتمسي بالتالي شكلًا من أشكال الوطن. “فأنسنة الشجرة كعلامة جغرافيّة هو ارتقاء بها من الأرضيّ اليوميّ إلى الرمزيّ السامي. والفكرة مألوفة في كلّ أدبنا الفلسطينيّ، بوصفه أدبًا آيديولوجيًّا خصوصًا عند توصيف آثار الفقد وما يتبعه من حزن وحنين. وأنسنة الشجرة هو فعل كتابة. وحين تصير شجرة الزيتون امرأة خصبة فإنّها تتحوّل إلى لغة. واللغة لا تموت، بل يحميها نفّاع من الموت بالرمز ويحييها باللغة”.[19]
يصرّ الكاتب في قصصه على تأكيد حنينه إلى الريف والقرية. فيجعل لهذا المكان حضورًا أساسيًّا في قصصه. وقد انعكس هذا الارتباط في حرصه الشديد على توظيفه ووصف كلّ ملمح من ملامحه ومكوّناته وصفًا تفصيليًّا. يلعب الراوي بلغته دورًا مهمًّا في الوصف وتصويره للقارئ بصورة ذاتيّة تعكس بالتالي رؤية الكاتب نفسه. إذ نجد أوصافه للمكان، وخاصّة القرية ومظاهر الطبيعة فيها، تجسّد مكانًا حميميًّا يحظى بأوصاف حسّيّة وجمل شاعريّة عاطفيّة وجدانيّة. وكيف لا يفعل ذلك وهو مكان القوميّة والهويّة والآيديولوجيّة السياسيّة؟ وكيف لا والقرية بطبيعتها الغنّاء هي مسقط رأسه وموطنه؟ هكذا يكشف الوصف عن حنين وانتماء وتشبّث بأرض الوطن. ولمّا كانت النصوص تجسّد الرفض والتمسّك بالهويّة الفلسطينيّة في ظلّ الصّراع مع السلطة الإسرائيليّة فلا بدّ أن نجد لديه القصص التي تتحدّى التابو السياسيّ، فهي التي شرّدته من قريته وسلبت أرضه وصادرتها وهدمت بيته وفصلته عن عمله لأسباب سياسيّة وأمنيّة. مع النكبة بدأ الفلسطينيّ يعيش معاناته، بدا وكأنّه يفقد جسده وروحه. وبعد الفقد والفقدان تبدأ عمليّة البحث عمّا سلب، البحث عن الذات والأنا والهويّة. والذات مرهونة بالروح والأرض، والأرض بما تحملها على سطحها وداخلها هي الهويّة الفلسطينيّة التي سلبت عام 1948. ومعاناة هذه الأقلّيّة هي معاناة جسديّة مادّيّة ومعنويّة شعوريّة، حالة تشرذم وقلق واغتراب. هي أزمة تغييب في أقسى حالات الحضور.
لا شكّ أنّ الشخصيّات الفاعلة في القصص تبرز أيضًا هويّة المكان وخصوصيّته، متعلّقة ببيئتها وطبيعتها الخضراء، فتنسجم بأوصافها وتتلاءم في ملامحها معه، بلغتها وتراثها وعاداتها وسلوكيّاتها. تتأثّر به وتتفاعل معه. هي شخصيّات حقيقيّة واقعيّة وليست وهميّة أو خياليّة، غير معقّدة ومن أبناء مجتمعه البسطاء. لكنّ الكاتب، وهذا ما نأخذه كمأخذ عليه، لم يسع إلى الغوص في داخل شخصيّاته، ولم يرصدها من داخلها، بل مال إلى تسطيحها وتهميشها. تعيش شخصيّات معظم القصص تداعيات النكبة ومصادرة الأرض وفقدان البيت والوطن، كقصّة “البيت المهجور”(ص 9)؛ فالبيت الحميم بالمفهوم الباشلاريّ الذي يتّسم بالألفة ضاع في النكبة وغُيّب. البيت هو وجه آخر للوطن والأرض، وهو في حدّ ذاته معنى معيش وعلاقة حياة وكينونة وهويّة. تعيش الشخصيّة في هذه القصّة حالة من التيه وعدم الاستقرار السيكولوجيّ والفقد. يبدو عليها القلق والغضب لاضطرارها للعمل في أرض كانت في الأصل ملكًا لهم، فيبقى البيت مهجورًا، وتشهد نباتاته على وجود حياة كانت يومًا هناك. ولمّا كان الفلّاح جزءًا من هذه الأرض فإنّه يكرّس عددًا من قصصه لحكايات الفلّاحين بما تتضمّنه من تعالقات وجدانيّة مع الأرض. هي الشخصيّة الفلّاحيّة القرويّة المرتبطة بالأرض، المغرمة بها والمخلصة لها: “لم يكن الفلّاحون كالطيور الضعيفة تؤخذ من أعشاشها.. أو كالأغنام تساق إلى الجزّار صاغرة راضية.. خصوصًا عندما تعلّق الأمر بالأرض”(قصّة “هكذا ردّ أجدادنا”، ص 76)، “كان أبي فلّاحًا يحبّ الأرض وحتّى بعد أن صادرت الحكومة أجودها.. ظلّ متمسّكًا بما تبقّى منها يغازلها بما أوتي وهي كانت تجبر بخاطره فتردّ له كفاف البيت، مصرًّا وجلًا أن يطرأ طارئ يحنثه قسمه: أن لا يعمل أجيرًا عند اليهود مهما صار”(مشمشتنا الشاميّة، ص 189). لولا الأرض لما كان الفلّاح. كلّ ممارسات الفلّاح تكون مشدودة إلى الأرض وبالأرض. الأرض هي وطنه، عليها يبني بيته، ومنها يكون مصدر رزقه، ومنها يأكل ويطعم أبناء أسرته، ومنها وبها تستمرّ حياته. هي مقدّسة لديه وبمثابة عرضه أو أقدس منه. هكذا يرتبط بالأرض روحيًّا وجسديًّا وبعلاقة وجوديّة، بل هي الوجود كلّه. وعلى هذه الأرض تكون لغة الفلّاح الخاصّة به، لغة قرويّة ترابيّة فلّاحيّة. أمّا في قصّة “المفتاح واليرموك” فيذكر النكبة والهجرة من قرية لوبية وصولًا إلى مخيّم اليرموك في سورية، حيث تدسّ الأمّ زهراء مفتاح البيت في جيب سروال ابنها محمّد قائلة له: “دير بالك عليه.. شوما صار”(ص 62). يوحي المخيّم إلى نزوح الفلسطينيّ واللجوء إلى وطن غير وطنه. إنّ هذا الفلسطينيّ الذي يضطرّ إلى الهجرة واللجوء إلى مكان غير مكانه لا بدّ لشعور الفقد أن يساوره، فتبقى عيناه موجّهتين نحو بيته الذي افتقده والمفتاح بين يديه. إنّ المكان البديل الذي يفرض على الإنسان قسرًا لا يمنح الإنسان الشعور بالهويّة ولا بالسكينة والاستقرار والانتماء، فيتلازم فقدان المكان مع فقدان الهويّة. هكذا يكتب نفّاع ليعكس حنينًا ورفضًا. والحنين لا يكون إلّا بعد فقد وهجران وقطيعة. من هنا تمسي الكتابة ضدّ الصمت والمحو والنسيان والغياب. في اللغة يبحث عن الحقيقة ويرسّخها.
السجنيّات: السّجن/ المكان
إنّ أدب السّجون،[20] الاسم الذي يرتبط بهويّة المكان، هو أدب عن المكان في أساسه. فلو انتفى وجود السجن لانتفى كلّ شيء من هذا الأدب. حتّى الأسماء “السجين” و”السجّان” تصاغ من جذر كلمة السجن، فيصبح السجين شخصيّة مكانيّة مقترنة بهذا المكان. ليس السجن مكانًا عاديًّا، بل مكانًا أعدّ سلفًا لإقصاء المخالف وحبسه. هو مكانٌ مغلقٌ كريهٌ ومعادٍ. ترتبط دلالته بانعدام الحرّيّة وغيابه.[21] إنّه حيّز الإقامة الجبريّة ولا يمكن أن يكون صورة للرحم ومنبعًا للحماية، وليس هو بالمكان الموصوف بـ “عندي”؛ المكان الأليف الذي يمارس الإنسان فيه سلطته، بل هو ملك للدولة.[22] للسجن سطوة في أن يكون صاحب السيادة في إنتاج الشخوص والأحداث والسرد، وهو بؤرة العالم الروائيّ. ولمّا كانت قصص السجن قصصًا عن المكان، وعن بشر لا يتحدّدون إلّا في مكانهم- السجن، فإنّها تهتمّ بتقديم وصف دقيق لملامح هذا المكان. وللوصف وظيفة رمزيّة وقيمة آيديولوجيّة تتّصل بتجسيد المكان ودلالاته. وحين يصف الكاتب السجن فإنّه يمزج معه الانعكاس الداخليّ للتجربة، وتمتزج الحالة النفسيّة برصد ملامحه. إنّ معظم الروائيّين العرب الذين كتبوا عن السجون كأمكنة كتبوا عنها من خلال تجربة واقعيّة، وليس سعيد نفّاع في هذا مختلفًا عنهم. إذ عاش نفّاع تجربة السجن مرّتين في حياته. ولمّا كان السجن في أدب السجون مكانًا واقعيًّا وليد تجربة حيّة معيشة في الأساس، سيفرض نفسه على الكاتب كما على النصّ، فيحرص على وصفه كما عاشه وجرّبه أو كما جرّبه غيره. ولعلّ إصرار الكاتب على تخصيص بعض قصصه تحت عنوان السجنيّات، وبشكل منفصل، يشكّل تأكيدًا منه على مزج تجربته الذاتيّة بتجربة الوطن وضياعه. فسلب حرّيّته كسلب حرّيّة الوطن وسيادته. ولعلّه يؤكّد تحوّل الوطن في ظلّ هذا الواقع من ذاك المكان الحميميّ الأليف إلى “سجن” يعيش فيه الفلسطينيّ غربة واغترابًا، حيث فتحت السجون لكلّ رافض للخدمة العسكريّة ولأسباب أمنيّة وسياسيّة. وعن هذا يقول في الفصل الأخير من الكتاب تحت عنوان “سيرة ذاتيّة على القدومة ومحتلنة أواخر 2017م”: “كان العرب الدروز في الـ 48 ابتلوا أيضًا بفرض التجنيد العسكريّ الإجباريّ منذ العام 1956، ولأنّي لم أسأل يوم ولدت ابنًا لهذه الشريحة من شعبنا الفلسطينيّ، فما أن بلغت الثامنة عشرة حتّى كان عليّ أن أواجه هذا المصير، فدامت معركتي معه بين كرّ وفرّ ثلاث سنوات ونيّف فرضت عليّ خلالها أحكام بالسجن سبعة عشر شهرًا إلى أن تخلّصت، فنذرت نفسي مقاومًا لهذا المصير ما حييت”(ص 462).
لا يحظى القارئ في قصص نفّاع، والتي يبوّبها تحت عنوان “السجنيّات”، بوصف تفصيليّ دقيق للسجن، وقد يكون ذلك لأنّ العمل الأدبيّ هنا هو قصّة قصيرة لا رواية. لم يهتمّ بوصف طوبوغرافيّته وملامحه الهندسيّة في كلّ قصصه، بل وصفه في عدد معيّن غافلًا عنه في أخرى. ولم يصل وصفه لتلك الدرجة من الفظاعة كما لدى كتّاب آخرين. يصف الكاتب ملامح الحياة خلف القضبان في قصّة “ثمن القبلة”: “كانت الريح تعوي في الخارج وتضرب بشراسة الغرفة الضيّقة المظلمة صاحبة الماضي العريق، فهي اسطبل خان قديم، ما زالت مرابط الدواب في حيطانها، وقد اختنق جوّها بروائح البراز والبول المختلطة بدخان السجائر، فلم يكن في جدرانها سوى فتحة صغيرة ملاصقة للسقف”. كانت زنزانة السجين انفراديّة، والسرير ليس أكثر من لوح خشب(ص107). يسجن عادل ابن الدالية والراوي عليّ ابن بيت جن لرفضهما الخدمة العسكريّة، على الرغم من أنّهما طلبا “شهادة مجنون” التي يطمح رافضو الخدمة للحصول عليها لتخلصّهم من السجن. عادل الباحث عن العدل يرى بهذه الشهادة رمزًا للحرّيّة وانتصارًا. وحين حضرت أمّه لزيارته أمطرته بالقبل فألغى الشرطيّ الزيارة وسحبه إلى الزنزانة الانفراديّة لثلاثة ليالٍ ثمنًا لقبلتها التي اعتبرت خروجًا على القانون(ص115). في قصّة “صباح.. بعد انحسار الغطاء”(ص130) يركّز على صورة الاعتقال. أمّا في “وعبر النهر” فقد قضى السجين “خمس سنين ذاق المرّ والهوان خلالها”(ص117)، ترك اسمه منقوشًا على جدران السجن الصفراء في كلّ زنزانة، والسجن غرفة صغيرة، جدران تعلوها أسلاك شائكة. “والأيّام تمضي في السجن دون أن يشعر بها، يقضيها أحيانًا في ظلام الزنازين لا يعرف الليل من النهار وأخرى في الغرف المنفردة”(ص117). وفي قصّة “لمار بين النار والنار”: “كان إياد يعيش نارًا في زنازين ثقيلة الهواء بين جدران عالية كاشحةِ الألوان تعلوها أسلاك شائكة وعند أسافلها كلاب شرسة و”كلّابوها”.[23] وفي “المحاكمة الخرساء”(ص125) يفضح السجين التعذيب الذي تعرّض له في الزنازين ويشبّهه بالنازيّة، وتحكم المحكمة عليه بالسجن خمس عشرة سنة.
إنّ السجين في أدب السجون هو محور النصّ، لذا يمنحه الكاتب سلطة السرد. ينتزع الكاتب بهذه الطريقة السلطة من الحاكم ويعيد إلى السجين ما سلبته السلطة منه. فإذا كان الحاكم يسعى إلى سلب الإنسان هويّته وذاته ورأيه وتهميشه في السجن فإنّ الكاتب يعمل على إعادته إلى المركز، مركز النصّ، كمحاولة لوضعه في مركز الواقع كتحدّ للحاكم، فيمنحه هويّته كما يمنحه سلطة السرد. لكنّ نفّاع يبقي السجين في الهامش. أوافق إبراهيم طه بأنّ قصص السجنيّات كانت فرصة ذهبيّة أمام الكاتب لوضع الإنسان في مركز النصّ ومنحه حقّ الحكي، حيث تفي هذه القصص بالغرض. فيقول طه: “إنّ السجن كمكان يوفّر الحدّ الأدنى فقط من ملهيات الشخصيّة بوصفه من أدوات العزل والتعطيل الحركيّ. يوفّر السجن جوًّا مناسبًا لمكاشفات الوعي وممارسات فعل الحوار الذاتيّ. حالة اللافعل التي تمنحها تجربة السجن بالنسبة للسجين والسجّان قادرة على نقل الأشكال الخطابيّة من مقارعة الظرف إلى محاسبة النفس. لم يستغلّها نفّاع لخيبة أملي الشديدة”.[24] ولخيبة أملي أنا أيضًا.
في العتبات وإيحاءات المكان
للعتبات النصّيّة[25] دور هامّ في مجال تحليل النصّ الأدبيّ، فهي مداخل للنصّ وتشرّع أمام المتلقّي الطريق لاقتحام النصّ والعبور إلى داخله لقراءته وتحليله بنيةً ودلالةَ. لا يمكنه الانتقال إلى فضاءات النصّ دون المرور بعتباته و”أبوابه”، فهي التي تمنحه مفاتيح التحليل. لذا تعتبر كلّ قراءة دون عتبات ناقصة ومشوّهة. إنّ هذه العتبات بما تتضمّنه من الميتاكتابة تؤكّد دور الكاتب كناقد أوّل على نصّه.
- عتبة العنوان: الدوريّ المهاجر
يعتبر العنوان في المنظور السيميائيّ علامة هامّة ومفتاحًا تأويليًّا ضروريًّا لسبر أغوار النصّ بغية تشكيل الدلالة. هو عتبة تحيط بالنصّ؛ بمثابة نصّ فرعيّ يشتمل على المعنى الإجماليّ،[26] ومن أهمّ العناصر التي يستند إليها النصّ الموازي مثلما يعتبره “جيرار جينيت”.[27] يشغل وظائف متعدّدة، كالتعريف والتبئير والتمثيل.[28] إنّ “الدوريّ المهاجر” هو العتبة الأولى التي اختارها الكاتب بعناية تامّة وبعمليّة نقديّة مدروسة ومحسوبة، محاولًا اختزال العمل والدلالة.[29] إذ لم يكن عنوانًا لإحدى القصص. ولمّا كان العنوان يتطلّب من المؤلّف تفكيرًا وتأمّلَا لتوليده وصياغته ففي هذا ميتاقصّيّة واضحة. لا شكّ أنّ العنوان “الدوريّ المهاجر” يتّسم بإيحائيّة مجازيّة ورمزيّة. هو عنوان غامض ينزاح عن المعنى الحقيقيّ، وعلى القارئ أن يبحث في العلاقة بين العنوان والنصّ. الدوريّ رمز يوحي إلى إنسان ما. و”المهاجر” تشير إلى زمكانيّة واضحة، فالهجرة تتمّ من مكان إلى مكان آخر. والمكان لا يكون مفصولًا عن زمانه، فلا بدّ للهجرة أن تحدث في زمان ما. ثمّة أسئلة كثيرة تثار هنا: من هو هذا الذي وصفه بالدوريّ؟ ولماذا؟ ولماذا يستخدم “الدوريّ” مرّة أخرى في عنوان هذا الكتاب، وهو الذي كان قد عنونه لمجموعته القصصيّة الأولى “نكبة الدوريّ”، والذي يشتمل عليه هذا المؤلَّف أيضًا؟ ثمّ متى كانت الهجرة ومن أين وإلى أين؟ ولماذا؟ ولمّا كان الدوريّ على صعيد التركيب عنوانًا اسميًّا يتألّف من اسم معرفة موصوف بمعرفة، فإنّنا بالضرورة سنسأل لماذا يستخدم اسم معرفة وليس اسم نكرة؟ ولماذا وصفه بالمهاجر وليس بنعت آخر؟ كما أنّ هذا العنوان يدلّ على نقص في التركيب النحويّ، فإمّا أن يكون الدوريّ خبرًا لمبتدأ محذوف، أو أن يكون الدوريّ مبتدأ وخبره محذوف. فهل الدوريّ المهاجر هنا هو الكاتب سعيد نفّاع نفسه؟ أم يقصد به الإنسان الفلسطينيّ بشكل عامّ؟ وهل الهجرة مجازيّة معنويّة هنا، فتعني الغربة عن الذات والمكان معًا؟ لا شكّ في أنّ هذه الأسئلة تخدم المعنى وتجعل القارئ متيقّظًا وفعاّلًا في عمليّة التواصل الأدبيّ. كما أنّ العنوان مقصود ويقصد التعريف والتخصيص بالوصف، كما يقصد التمثيل والاختزال. في العنوان إيحاءات تاريخيّة تحمل القارئ إلى حدث وقع في حقبة زمنيّة تاريخيّة عايشها الشعب الفلسطينيّ ولا يزال يعيش تأثيرها، وهي تمثّل تاريخه دون غيره من الشعوب. وإذا اختار الكاتب عنوان “الدوريّ المهاجر” فإنّه بالضرورة يؤكّد على مفردات النكبة والهجرة والتهجير والرحيل والنزوح والغربة، وكلّ ما تحمله الهويّة الفلسطينيّة من هذه المفردات.
يؤكّد مفهوم الهجرة بالضرورة على حركة انتقاليّة لا إراديّة وغير اختياريّة، بل هي حركة تفرض على صاحبها فرضًا وقسرًا، وليس طوعيًا. تعني الهجرة الرحيل عن مكان يحمل معاني الأمومة والرحم والوطن، وهي لا بدّ تشتمل على معنى الرحيل من البلد الأوّل/ الوطن الأمّ والتخلّي عنه إلى مكان “آخر” بغرض الاستقرار فيه. لا تكون الهجرة بالمشيئة التامّة وبدوافع الرغبة الخالصة. إنّها رحيل. والرحيل لا يكون إلّا في ظلّ قهر واضطهاد سياسيّ أو اجتماعيّ أو اقتصاديّ أو نفسيّ. ينطوي العنوان على دلالات اللا استقرار والانتقال من مكان إلى مكان بدوافع قاهرة وضاغطة. حين تتمّ الهجرة يمسي المكان “الأمّ” الأوّل من طيّات الماضي، أمّا الآخر، “المَهْجَر”، فقد يلفّع بمستقبل ملبّد ضبابيّ. بينهما صراع ونزاع: أيّهما أقدر على سحب الإنسان المهاجر وامتلاكه؟ فهل يكون المهجر أكثر قدرة على صنع الإنسان من جديد فينجح في سلب ماضيه منه ومصادرة حقّ الأمومة والوطن من ذاكرته أم أنّ النسيان عاجز عن امتلاك المهاجر وسلب ماضيه، وعندها يأبى المهاجر أن ينسى ويحضر الغياب ليمسي حضورًا حاضرًا؟ في مفهوم “الهجرة” هناك رحيل ورحلة وانتقال وفقد. لكنّ “الرحلة” هنا ليست رحلة بالمفهوم الطبيعيّ للكلمة، بل هي أقرب إلى مفهوم الرحلة المادّيّة التي تهيمن مثلًا على نصوص أدب السجون. هذا إذا كان الانتقال لفترة معيّنة محدّدة. يشير مفهوم الرحلة في أدب السجون ومنذ البداية إلى أنّ علاقة السجين بالمكان علاقة مؤقّتة،[30] وقد تكون الهجرة كذلك. لكنّهما قد تكونان أبديّتين، فلا يعود المهاجر إلى وطنه ويبقى في المهجر حتّى يغلبه الموت. وكذلك السجين الذي يقضي حياته كلّها خلف القضبان. وقد يتحوّل المهجر إلى سجن معنويّ وإلى منفى. إنّ انتقالهما لا يحمل معنى الرحلة الطبيعيّة لأجل البحث والاستكشاف والمتعة. ولا يمكن للسجين أو المهاجر أن يشعر بانتماء خالص ومطلق لهذا المكان، مهما طالت فترة مكوثه فيه. أليست الهجرة انتقالًا قسريًّا إلى مكان ليس هو الوطن الأمّ؟ أليست الهجرة ناتجة عن قهر واستلاب؟ أليس المرء المدفوع إلى الهجرة والتخلّي عن بيته وأرضه يسلب منه الاستقرار والطمأنينة والانتماء والألفة؟ يضطرّ إلى الرحيل والتخلّي عن شيء هو ملكه في الأساس؟ إذًا أليست هذه الحالة تتضمّن معاني السجن والغربة وسلب الأمان والحرّيّة؟ إذًا هو معنى التيه والاغتراب ذاته، وليس المهجر/ المنفى أكبر أو أشدّ اتّساعًا من الزنزانة دائمًا. قد تضعنا هذه الأسئلة إزاء مفهوم الوطن، فما هو الوطن؟ هل هو الأرض ومكان الولادة أم هو الانتماء أم هو الذاكرة؟ هل وطنك حيث هويّتك؟ وهل تعني الهجرة إلغاءك لوطنك، أو الخروج أو الانسحاب أو التنازل عن الماضي المسكون بالوطن والانتماء للأرض والأجداد؟ تلد الهجرة الغربة والحنين، وفيها تبدأ رحلة البحث عن الذات والخلاص. فهل يبقى الوطن ليعيش في الذاكرة؟ وهل يصبح الوطن بعد كلّ هذا أن تحتفظ بذاكرتك فقط؟
لا شكّ أنّ هذا العنوان يتلاءم مع مضامين القصص التي تدور حول النكبة وتداعياتها وأثرها على الفلسطينيّين. الهجرة عدوّ الإنسان المتمسّك بأرضه وبيته، والمنتمي إلى ترابه وتاريخه. هي رحيل عن الوطن، والوطن هو الأمومة والرحم والذاكرة. يكشف العنوان عن جدليّة الحضور والغياب، فالهجرة توحي بالغياب، و”الدوريّ المهاجر” هي قصص عن الذاكرة/ الحضور في ظلّ الغياب، تستعيد الماضي الفلسطينيّ وما ألقته رياح الهجرة/ الغياب. يشير العنوان إلى خسارة الوطن وتشظّي الانتماء، فتكشف القصص عن النكبة والاقتلاع من الأرض والرحيل والشتات. إذا تمعّنا بكلمة “مهاجر” نجدها بصيغة اسم الفاعل، أي يدلّ على صاحب الفعل. ممّا يعني أنّه هو من هاجر. فهل ينتقد الكاتب من فرّط بأرضه؟ “أرضك هي عرضك.. حدا يترك عرضه؟”(الحائل ص88)، “الذي يطالب بالأرض لازم يشتغل بالأرض، ما يهملها، من يوم ما عجّزنا الأرض بارت، والبلّان والعلّيق أكلها… حتّى تدافع عن الأرض اشتغلوا فيها لا تهملوها.. الأرض إن ما ارتوت من دمّك وعرق جبينك عمرك ما تشعر بحبّها، وتفدي روحك في الدفاع عنها”(هكذا ردّ أجدادنا، ص77). نعم ينتقد، لكنّه من جهة أخرى يدرك أنّه في حالة الفلسطينيّ لا نتحدّث عن هجرة بالإرادة أو طواعية وبرغبة، فالقول الذي روّج: “الفلسطينيّون باعوا أراضيهم وهاجروا” ليس هو الحقيقة، ولذا كانت الهجرة هنا قسرًا وبالإكراه.
إنّ تكرار عصفور الدوريّ عند الكاتب، وتوظيفه هنا مرّة أخرى كعنوان للأعمال الكاملة يؤكّد على أنّ الدوريّ يشكّل موتيفًا ورمزًا. ولماذا عصفور الدوريّ بالذات؟ الدوريّ عصفور منزليّ، وهو نسبة للدور أي المنازل والبيوت، ويرتبط ارتباطًا وثيقًا بموطن البشر وحقولهم الزراعيّة، ويتكاثر في المناطق السكنيّة التي تحتوي على الكثير من الأشجار أو الغطاء النباتيّ. وهو من أكثر العصافير التي نراها في قرانا وقريبة من بيوتنا. إنّه طائر اجتماعيّ يعيش في مجموعات. يمتاز بالذكاء والحنكة والنشاط وكثرة الحركة.[31] والعصفور طير، والطير رمز للحرّيّة، حرّيّة التنقّل والحركة واختيار العشّ وبناء البيت بلا خوف وحيث يكون الأمان. توحي الهجرة في العنوان إلى الشعور بالحنين للعودة إلى دفء المكان حيث الأشجار الخضراء المورقة والأعشاب، وحيث الطبيعة تزدان بالربيع. وهذا ما يؤكّده الرسم على الغلاف والذي سنأتي على تحليله لاحقًا. لذا يشكّل “العشّ” معادلًا موضوعيًّا للإنسان الذي هاجر بيته ووطنه، فيمتلئ حنينًا ولوعة ودفء الذاكرة. “إنّ العشّ يرتبط على الفور بصورة البيت البسيط”،[32] دفء المكان وحميميّته. “العشّ/ البيت هو المأوى الطبيعيّ لوظيفة السكنى. إنّنا لا نعود إليه فقط، بل نحلم بالعودة إليه، كما تعود العصافير إلى أعشاشها والحمل إلى الحظيرة. علامة العودة هذه تسم عددًا لا حصر له من أحلام اليقظة. وهو خلال الحلم يلغي كلّ غياب.”[33] إنّ البيت المفقود يدرك هنا عبر إمكانيّات الحلم، فالخيال كما يقول باشلار يساعدنا على المواصلة.[34] “وعلى الرغم من أنّ العشّ هشّ إلّا أنّه يدفعنا إلى أحلام يقظة الأمان. فهل كان يمكن للعصفور أن يبني عشّه لو لم يكن يملك الثقة بالعالم؟”[35] إذا عدنا إلى الفلسطينيّ المهاجر الذي نُكب وأجبر على ترك بيته، فإنّ بيته سيصبح صورة للحنين والألفة المفقودة. وكما الطير يعود ويجدّد عشّه دائمًا وتصير الشجرة وطنًا لهذا العشّ، هكذا يحلم الفلسطينيّ المهاجر ببيته، ولا يزال يحتفظ بمفتاحه. وكما الدوريّ، العصفور البيتوتيّ المنزليّ، لا يستطيع أن يعيش بعيدًا عن المناطق المأهولة بالبشر وذات الغطاء النباتيّ، كان رحيل الفلسطينيّ عن بيته ووطنه كمن انتزع من رحم عشّه. إنّ البيت هو مكان الألفة والأمان بالمعنى الباشلاريّ، وعندما نبتعد عنه نظلّ دومًا نستعيد ذكراه. وكأنّي بالفلسطينيّ الذي أمست حياته بوتقة من الحنين وألم الذاكرة يقول: ليتني كنت طيرًا فأتنقّل كما أريد وأعود لأرتبط بأرضي بحرّيّة! إنّ “نكبة الدوريّ” التي تحولّت هنا إلى “الدوريّ المهاجر” تؤكّد على أنّ الكاتب مصرّ على مفردات النكبة والهجرة، وكيف لا وهي مفردات وثيقة الصلة بحياة الفلسطينيّ وتاريخه؟ الفلسطينيّ الذي يعيش النفي والاغتراب في وطنه حيث بقي، مهدّدًا بالنكبة وصراع البقاء. بينما يعيش الجزء الآخر منه في الغربة خارج الوطن؛ يعيش تشظّيًا وحنينًا وانشطارًا في البحث عن الوطن والهويّة. إنّ الانتماء والألفة والأمان المفقودِينَ تحوّلوا في الوطن المتبقّي إلى غربة واغتراب وتشرذم.
ليست الهجرة هنا بعيدة عن كونها معنويّة كذلك. وأقصد هجرة الذّات في ظلّ تشظّي الهويّة والاغتراب والقلق وصراع الانتماء الّذي يعيشه العربيّ الفلسطينيّ في إسرائيل. في مجتمع عربيّ محافظ تقليديّ يشرذمه العنف والتمييز العنصريّ والطائفيّة والأعراف البالية، مأزوم بواقعه الثقافيّ وبتابواته السياسيّة والدينيّة والاجتماعيّة. كلّ هذا ليس إلّا خلاصة النكبة وتداعياتها، خلاصة سلب الوطن هويّته حتّى بات غريبًا عن أبنائه ويضيق بهم. بات وطنًا مشروخًا يعيش الفلسطينيّ فيه لاجئًا وغريبًا. ولعلّها مشاعر تفاقمت لدى نفّاع؛ كيف لا وهو المثقّف الذي يدرك الواقع بوعي أعمق وحسّ أشدّ؟! سعيد نفّاع يدرك أنّ “الإنسان الفلسطينيّ ما زال يتخلّق بثقافة الصدام الطائفيّ والعائليّ والقبائليّ والحزبيّ والجندريّ والاجتماعيّ والفقهيّ. وما زال هذا التخلّق يزداد خسّة ووضاعة يومًا بعد يوم. حين يهجو الأديب فإنّه يفصح عن حزن وينفث سخطًا.. لا حياد في الأدب ولا حياد مع الأدب”.[36] هكذا، تتلوّى ذات نفّاع ويسكنها القلق فتسعى إلى الهجرة نحو الخلاص. ويضيف إلى هذا تجربة السجن، فهو الكاتب الذي سجن وسلبت منه حرّيّته، فيرمز بالدوريّ إلى الحرّيّة كتضادّ للسجن. وكأنّي بالكاتب يشعر بالنفي والغربة في الوطن، في وطن لم يعد “ذاك الوطن”، مدركًا معنى أن تحضر في المكان وتُنفى بالروح والزمان. أن تعيش في وطنك جسدًا، لكنّه هو “وطنك” الذي يغيّبك روحًا وزمنًا. أو لعلّها مشاعر تجمع كلّ ما سبق مع قلق وجوديّ إنسانيّ.
على الرغم ممّا يكشفه العنوان من هجرة كمفهوم سلبيّ، أو لربّما الهجرة كمفهوم وقائيّ وحماية للذات، إلّا أنّ توظيف الطير فيه يكشف عن دلالة الشغف بالحرّيّة كمؤشّر على شغف بالحياة، وشغف بالكتابة التي تمنح معنى الحياة. إنّ الأدب نفسه هو واقع حرّ. هو انحياز روح الكاتب التي لا تزال تهفو إلى الحرّيّة والعدالة والكرامة. فهل غادر الكاتب السجن ولم يغادره السجن؟! لقد عمّق السجن الإحساس لديه بالسلب والاغتراب فأصبح توّاقًا للحرّيّة، الحرّيّة بكلّ معانيها الجسديّة والمعنويّة. ثمّة عطش لديه نحو الخلاص والسكينة. ولعلّه وجد بالطير معادلًا موضوعيًّا لحالته هذه، فالطيور هي التي توحي بالمعنى الحقيقيّ للحرّيّة ورفض الانغلاق والسجن. فهل هو السعي للبحث عن حياة أفضل والهروب من الواقع القاهر الصادم؟ وإذا كان الأمر كذلك، فإنّنا نجد في جملة العنوان تضادًّا، الشيء وضدّه. في العنوان تضادّ بين الدوريّ المتمسّك ببيته، البيتوتيّ، المقيم بوطنه، والمهاجر الراحل. إنّها جدليّة الانتماء للوطن والغربة فيه، عشقه والثورة عليه، لا لأنّه يكرهه أو ينقم عليه، بل لأنّه يستفزّه ويثوّره، وهو قلق عليه، ملتاع لوجعه. ينشد الكاتب استبداله وبناء واقع أفضل. من ذاق السجن لا بدّ للكتابة أن تصبح لديه فعل حرّيّة وفعل حياة في مواجهة ذاكرة السجن والتهميش. هكذا، قد يقصد بالهجرة ضرورة الرحيل عبر الورق وبين صفحات الكتب وإلى عالم الإبداع، لا ليرحل بلا عودة، بل ليحيي الوطن بهويّته الحقيقيّة، ليستحضر الذاكرة ويسجّلها، وليؤكّد على الحقّ ويقول الحقيقة. هناك حيث الوطن الأصيل الحقيقيّ يقيم في الذاكرة. وهو التحرّر الذي يتوق إليه رافضًا كلّ القيود الأدبيّة والجغرافيّة والسياسيّة والدينيّة والاجتماعيّة. ففي الكتابة سيجد مكانه الحرّ.
- عتبة الغلاف
تشكّل لوحة الغلاف بتصميمها ورسوماتها وألوانها عتبة هامّة لا تقلّ أهمّيّة عن العنوان، إذ يكون لقاء القارئ مع الكتاب عبر اللقاء البصريّ كذلك. لذا هي عتبة تساعد في إضفاء الدلالة وتكمّلها. تتشكّل لوحة الغلاف من صور لأغلفة الكتب التي جمعها الكاتب في هذه الأعمال، إضافة الى شجرتين متفاوتتين بالكبر، عاريتين يابستين بلا أوراق، والأرض تحتهما قاحلة بلا أعشاب أو نباتات. إحدى الشجرتين، وهي الكبرى، رسمت بلون رماديّ لكنّها لوّنت بلون الغلاف، يقف على أغصانها عصافير الدوريّ. أمّا الشجرة الثانية، وهي الصغرى، فلوّنت باللون الترابيّ الأقرب إلى البرتقاليّ، وعلى أغصانها كتب. لون الغلاف الكلّيّ أصفر باهت، يوحي بالخريف حيث تتعرّى الأرض من كلّ معالم الحياة والربيع، فاقدة لونها الأخضر. وهذا يتناسب مع الشجرتين العاريتين اليابستين والأرض الجدباء. يوحي الأصفر بالزوال والشيخوخة والمرض والفناء والموت. والأصفر كذلك إشارة إلى القساوة والتهكّم والسخرية. وهو دليل خيانة وخيبة أمل.[37] ولهذا، يمثّل الأصفر أكثر الألوان دلالة على النكبة. يوحي بالنكبة وتداعياتها على الإنسان الفلسطينيّ والأرض والنبات والطير، وكلّ ما نكب على سطحها وتحته. والأصفر عكس الأخضر هنا، فإذا كان الأخضر يوحي إلى الطبيعة الخضراء بأرضها الخصبة والبيئة الشجريّة والغطاء النباتيّ النابض بالخصوبة والحياة، فإنّ الأصفر هو إيحاء بالجدب والموت والعواصف والخريف وسلب الحياة. هكذا تمسي لوحة الغلاف أيضًا مجازيًة رمزيًة موحية تتناسب مع دلالة العنوان. والسؤال هنا: ما معنى أن يكون هناك رسم لشجرتين، واحدة يقف على أغصانها وحولها عصافير وأخرى كتب، وبعض هذه الكتب مفتوحة الصفحات ترفرف كشكل طائر الدوريّ؟ تحيل لوحة الغلاف إلى المعنى العامّ للقصص، إلى الهجرة والسقوط والزوال والفقدان والنكبة كذلك. فكما تعصف العواصف بالشجر فتتساقط أوراقها في الخريف وتزول معالم الحياة، كذلك عصفت النكبة بالوطن فزالت معالم الحياة فيه. وتشوّه المكان والإنسان على حدّ سواء، فتشوّهت معاني الهويّة والانتماء. وأمسى الدوريّ منكوبًا مسلوب الوطن والبيت والأمان. ولنا أن نذكر أنّ الكاتب قد كنى عن النكبة والاحتلال بكنية العاصفة كما في قصّة “الوصيّة”(ص 16). وكما تخلو الشجرة من الأوراق الخضراء والأرض من الأعشاب والنبات الأخضر فيستحيل بناء العشّ، كذلك هُجّر الفلسطينيّ من بيته ونكبت أرضه. إنّ النعوت المحتشدة في مشهد الطيور المهاجرة الباحثة عن وطن، والتي تحيل إلى مفردات الهجرة والغربة والتعب والإرهاق والرحيل والحنين، ليست إلّا وصفًا لأحوال الذات السجينة المتعبة بالهجرة والفقد، كأنّها تبحث عن مكان تحطّ لتبني فيه أعشاشها ونسلها وبقاءها. هو البحث عن موطن الأمان والدفء في ظلّ أشجار تساقطت أوراقها فلم تعد صالحة كوطن للعشّ. سلبت الطيور من مكانها بسلب خضرة الشجر والأرض. إذًا هو المرء الباحث عن وطنه/ بيته/ كالطير الباحث عن شجرة مورقة خضراء يبني عليها عشّه ووطنه.
ينطوي الغلاف كالعنوان على الإيحاء بالمكان. إذ يشتمل على الشجر. والشجر ينبت في الأرض. والأرض مكان. لكنّ الأرض منكوبة تخلو من النباتات والزرع وملامح الحياة، فيمسي الدوريّ منكوبًا مسلوب الحياة. ممّا يعني أنّ لوحة الغلاف كعتبة تتوافق وتتواءم مع العنوان، لا بل تأتي مكمّلة له. إنّ العنوان وبما يحمله من هجرة يدلّ على هيمنة هذا المفهوم على فكر الكاتب وإلحاحه للكتابة عنه، والتي هي في حقيقتها أزمة الواقع الفلسطينيّ بصراعه حول المكان/ الأرض/الوطن. ومن جهة أخرى، وبصورة متضادّة تمامًا، يمثّل مشهد عصافير الدوريّ وهي تطير شكلًا من أشكال الطبيعة التي تتوق إلى الحرّيّة والحركة ومعنى الحياة. إنّ المشهد الطبيعيّ للعصافير مع الأشجار يوحي بقوة الطبيعة وسيادتها، فبالنسبة للطائر الشجرة هي الملجأ والوطن، والعشّ يجسّد امتلاك البيت والأمان. لكنّ الطبيعة المتكشّفة على الغلاف هنا في حالة غير طبيعيّة، فالشجرتان عاريتان وبلا أوراق خضراء، والأرض قاحلة صفراء بلا أعشاب أو معاني الحياة. إنّه الخريف بألوانه. هكذا يتلاءم اللون الأصفر مع مفهوم الهجرة. واللون الأصفر يتلاءم أيضًا مع لون جدران السجن في قصّة “وعبر النهر”: “جدران السجن الصفراء في كلّ زنزانة”(ص117). إنّ الهجرة زوال وإيحاء بالموت. هي عدائيّة المكان الذي يمثّل التساقط والقلع والجدب، معنى الموت والقيد وضدّ الحياة. في هذه اللوحة إدانة للواقع الذي يتضمّن معاني مضادّة للحرّيّة والعدالة والحياة الكريمة. ومن جهة أخرى، يحيي مشهد الطيور الطليقة النشطة التي ترفرف بأجنحتها وتطير بحركة حرّة التوق إلى الانطلاق بحرّيّة للبحث عن الطبيعة والاخضرار وذكرى البيت والعشّ. إنّه الحنين إلى الريف باخضراره ونبض الطبيعة فيه. ترمز حالة الطيران ورفرفة الأجنحة إلى التمرّد والتوق إلى مغادرة الفضاء السجنيّ/ المكان العدائيّ نحو نبض الحياة والبعث. إنّه تضادّ واضح بين حركيّة الطير وانطلاقه وثبات الشجرة ورسوخها في الأرض. ليشير هذا بالتالي إلى مجال متضادّ بين تفاعل الذاكرة وجدل المكان المسلوب وضياعه. من هنا لدينا تضادّ واضح: ما يوحي بالموت والقحل والرحيل والهجرة والقيد ضدّ ما يوحي بالحركة والانطلاق والحرّيّة والتحدّي والمثابرة والمقاومة ومعاني الحياة. كما يعكس التضادّ حالة الانشطار والقلق والتوتّر التي تسيطر على الكاتب ونصوصه. ولعلّه انشطار الانتماء للمكان وأزمة القلق. فهل يقصد بالدوريّ المهاجر ذاته/الكاتب الذي قرّر أن يهاجر إلى وطن الكتابة بعد أن سلب منه وطنه؟ وهل يهاجر عبر حركة الوعي والفكر إلى الأدب ليؤكّد على نكبة وطن وهجرة أبنائه؟ ألهذا جعل الكاتب الكتب عنصرًا من لوحة الغلاف؟ لا شكّ أنّ الكاتب يؤكّد بتوظيفه للكتب أنّه في الكتابة يجد حرّيّته أوّلًا، وعبرها يرسّخ الحقيقة ويُحيي وطنًا سلب ويُحضر شعبًا غيّب، مثلما يُحضر ذاته المغرّبة ويحييها على الورق. وإلّا فما العلاقة بين الدوريّ والكتب على لوحة الغلاف؟ أو ما حاجة الكتب هنا؟ يؤكّد الكاتب كذلك، بتعريفه للاسم، أنّ الدوريّ هو الكاتب نفسه الذي لا يزال يبحث عن “وطن”، يبحث عن الأمان والعدل والسلام والحرّيّة. لعلّ الكاتب الذي دخل السجن لأسباب وطنيّة، ولأجل تمسّكه بانتمائه لوطنه، مدركًا معنى الحبس، بات يكتب بوعي الذات السجينة المجرّبة من جهة، ثمّ بوعي الذات المقيّدة بالوطن المسلوب من جهة أخرى. حبّ الوطن قيد وحبس، وخاصّة لذلك المثقّف الذي يدرك أنّ مجتمعه عليل يعاني وواقعه صادم مقلق. يحمل وطنه المغيّب في فؤاده وروحه، معلنًا أنّه سيقاوم بالكتابة والإبداع. وهذا ما يعنيه وجود الشجرتين، شجرة الكتب وشجرة الوطن. ترمز الشجرة الكبرى برأينا للوطن، تدل على ما أصابها من عاصفة “النكبة” التي جرّدتها من لونها الأخضر، وأغصانها وأوراقها وثمارها. أمّا الشجرة الصغرى فهي رمز للكاتب المتشبّث بوطنه بجذور شجرة راسخة في ترابها، وعلى فروعها الكتب، وهي خلاصة إبداع الكاتب الملتزم بقضايا وطنه وشعبه، المحافظ على عهده. الكتب هي الواقع الحرّ الطليق، ولربّما الوحيد، الذي يعيشه الكاتب في ظلّ وطن قيّد بأسوار من الغربة والاغتراب. ولذا رسمت الكتب في لوحة الغلاف مفتوحة على شكل طيور ترفرف كدلالة لحرّيّة الكاتب وإبداعه. حين يشعر الكاتب بأنّه الغريب وسط ما يحيطه يرتحل إلى وطن، ووطنه هو الكتب والإبداع. يبحث عن وطن في الكتابة ليقيم فيه، تمسي اللغة وطنًا له، وفيها وعبرها يستعيد وطنه المسلوب. اللغة رحم يتجسّد فيه الجوع إلى الوطن، للسفر إلى الماضي والذاكرة والحنين والمستقبل. إنّ الكاتب في فكره وخياله قادر على مجاوزة واقعه والتحرّر من قيوده. تتحوّل حياته الشخصيّة ورؤياه وتجاربه الذاتيّة إلى مادّة أدبيّة يكتبها ويترجمها على ورق بحرّيّة، طالما أنّ الواقع لا يحقّق له ما يحلم به، وكأنّه يستحضر ما سلب ويستعيد ما أنكر. في الكتابة ولادة يلد فيها الكاتب الشوق إلى الحقّ والحقيقة والعدل. إنّ الكتابة هنا فعل انتقام واستعادة ما سلب. ولعلّ هذا ما يدلّ عليه لون جذع شجرة الكتب ولون الكتب نفسها، إذ لوّنت كلّها باللون البرتقاليّ الترابيّ، والترابيّ لون الأرض ولون التراب، والتراب هنا تراب الوطن، وهذه الشجرة مع الكتب تشير إلى الكاتب، وكأنّه يريد القول إنّه متمسّك بأرضه، مخلص لها. والبرتقاليّ هو لون النار والشمس، وهو رمز الحرّيّة السّياسيّة والثّورة ومقاومة الظّلم والاستبداد. وهو لون يغري بظفر معرفيّ وروحيّ وبالنفس الملهمة.[38] الأمر الذي يفسّر اختيار الكاتب لهذا اللون، بخلاف اللون الأصفر للشجرة الثانية العارية. إنّه يدلّ على ثورة الكاتب وتمرّده. وهنا يتحقّق تضادّ آخر: البرتقالي بمعناه الموحي إلى المقاومة والثورة والحرّيّة ومعنى الحياة ضدّ الأصفر الموحي إلى الموت والزوال والهجرة والاستسلام. إنّ “الهجرة” هنا وبهذا المفهوم إيجابيّة ضروريّة وقائيّة لحماية الذات من قوة السلب والاستلاب والنسيان. وهذه الهجرة تتحقّق وتنفّذ عند أولئك الذين يرفضون القيود، وسعيد نفّاع “يرفض القيود” ويرفض أن يكون كالآخرين، مقرّرًا “الرحيل والهجرة” عبر الأدب، “فقلمه لا يبالي بالقوالب وإن أتى بها الأوائل وإن اجترّها الأواخر”، وهذا ما أقرّه على الغلاف الأخير لروايته الأولى “وطني يكشف عريّي”.[39]
- العناوين الداخليّة
تعدّ عتبات العناوين الداخليّة عمليّة ميتاقصّيّة أخرى، وهي عناصر دلاليّة لا يمكن تجاهلها أثناء دراستنا لفضاء النصّ لأنّها جزء من الدلالة وعنصر مكمّل للمعنى. كما أنّها نابعة من مقصديّة التصفيط والسهسلة. يوزّع الكاتب قصصه التي كان قد نشرها في ستّ مجموعات سابقة ضمن فصول اختار لها العناوين التالية: نكبويّات، ترابيّات، سجنيّات، صابريّات، عربسطينيّات، وجدانيّات، قرويّات ومحكيّات. من يتمعّن بهذه العناوين يجد أنّه يسعى لربطها أوّلًا بالمكان/ الوطن، فالوطن أرض وتراب (ترابيّات) وقرية (قرويّات)، وهذا الوطن هو فلسطين وجزء من العالم العربيّ(عربسطينيّات)، والوطن هو الإنسان مثلما هو أرض، والإنسان وجدان ومحكيّات، والمحكيّات تحكي عن الإنسان في المكان والزمان، عن نوادره وعلاقاته مع الوجود (وجدانيّات ومحكيّات وصابريّات)، والإنسان يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمكان والوطن، ووطن الإنسان الفلسطينيّ تعرض إلى نكبة (نكبويّات)، وفداء لأجله دخلوا السجن (سجنيّات). لا شكّ أنّ هذه العناوين تقوم بفعل توجيه وترشيد واختزال المعنى مثلما يرى طه، وهي بلا شكّ تشير بوضوح إلى مضامين القصص. في قصص النكبويّات يتناول نكبة الأرض ومصادرتها وسلب البيت كقصّة “البيت المهجور”(ص9)، “الوصيّة”(ص16)، “عندما تكلّم الزيتون”(ص 22) وغيرها. في قصص ترابيّات يتناول قيمة الأرض ومصادرة السلطات الإسرائيليّة، كمصادرة 15 ألف دونم من أرض “بيت جن”، قرية الكاتب نفسه، في قصّة “الرشّاشات المسروقة”(ص 69). أمّا عربسطينيّات فهي قصص تناقش أوضاع العرب الفلسطينيّين المهجّرين خارج الحدود وأهل الجولان المحتلّ مثل “زيارة عبر الأسلاك”، وقصّة “عرس وراء الحدود”(ص175). في قصص وجدانيّات يسلّط الضوء على القيم الوطنيّة والأخلاقيّة والانفعالات كمشاعر القلق واللااستقرار والاغتراب التي يعيشها الفلسطينيّ في الداخل، كالتمييز ضدّ الأقلّيّة العربيّة، وعدم التوظيف بلا “واسطة” في قصّة “وأخيرًا وجد الطريق”(ص 199). لكنّ هذه القصص لا تخلو أيضًا من تناول أثر الاحتلال وسياسة السلطة. أمّا في قصص صابريّات فيوظّف الكاتب “الحمار”، وهي سبع قصص. نلاحظ في هذه القصص أنّه يوظّف “الحمار” في خمسة عناوين من أصل سبعة. ممّا يعني أنّ الحمار يشكّل موتيفًا في العناوين أيضًا. يلقّب الحمار بأبي صابر لذا يعنونها بصابريّات. يلعب الحمار دورًا هامًّا ومركزيًّا في هذه القصص، كقصّة “الرئيس والحمار”(ص155)، و”ورق الدخان الشاميّ”(ص160). يرمز كما هو معروف في ثقافتنا إلى الغباء وانعدام الحنكة، ويقصد باللقب عادة التحقير والسخرية، خاصّة حين يخاطب صاحب العمل اليهوديّ العمّال العرب “خموريم” بقصد إهانتهم وإذلالهم. لكنّه يعرف بصبره وجلده وتحمّله وقوّته، فيعتمد الفلّاحون عليه ولذا هو يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالفلّاح والأرض والزراعة، وكلّ هذا من ملامح الوطن/ المكان الفلسطينيّ.
في ملامح الشكل الفنّيّ
- عتبة المقدّمة- “بعد بكّير”
قراءة المتن تصير مشروطة بقراءة العتبات، فكما أنّنا لا نلج فناء الدار قبل المرور بعتباتها، فكذلك لا يمكننا الدخول إلى عالم المتن قبل المرور بعتباته. تمثّل عتبة المقدّمة والتي تلي عتبة الإهداء والفهرس، عتبة هامّة في مساعدة القارئ على إيضاح مضمون الكتاب وبيانه قبل الشروع بالقراءة. يخصّ الكاتب القارئ في هذه المقدّمة، فالقارئ هاجسه مثلما يكشف في الغلاف الأخير لروايته “وطني يكشف عريّي”. ولأنّ القارئ هاجسه يحرص على تنبيهه وتوجيهه وإخباره. في هذه المقدّمة يكشف الكاتب عن اختياره لشكل كتابه الفنّيّ ومبناه. يعبّر عن موقفه موضّحًا رؤيته ونهجه وأفكاره واستراتيجيّة تفكيره في كتابة هذا المؤلّف، مشيرًا إلى أنّ كتابة هذه المقدّمة أمر ضروريّ ومهمّ للقارئ حتّى يدرك مقصده من وراء “هذه اللملمة”. يخاطب نفّاع القارئ مباشرة، كأنّه يجيب عن سؤاله غير المسموع: لماذا “لملم قصصه الممتدّة من الأعوام 1971 إلى 2015م، “وإن كان بعد بكّير”، وهي القصص التي كانت قد رأت النور على صفحات الكثير من الصحف والمجلّات محلّيًّا وإقليميًّا ولاحقًا في ستّ مجموعات”، فيقول: “ألملمها في هذا الكتاب وقد ذيّلته برؤية مجموعة من النقّاد الذين تناولوها ورؤيتي للنقد”: “ولكنّها لملمة من نوع آخر، لم “أصفّطها” زمنيًّا ولا حسب ورودها في المجموعات، وإنّما حسب موضوعات من “عنديّاتي”، مشيرًا تذييلًا إلى شهادات ميلادها حيث تأتّى. لن أخفيك، عزيزي القارئ، الهدف والغرض من وراء ذلك، فإنّي أطمح كما كلّ كاتب أو شاعر أن “أسهسل” لك طريق الوصول إن أردت أن تسير إليها، وأتمنّى ذلك من صميم قلبي”(ص5). إنّ هذا الكتاب الذي نشر عمليًّا في ستّ مجموعات قصصيّة لبس حلّة جديدة تحت عنونة جديدة مغايرة. هكذا يستمدّ هذا الكتاب أهمّيّته ليس فقط من قصصه التي قرئت خلال سنوات سابقة، بل من وضعه في سياق كتاب ذي عناوين جديدة مغايرة وترتيب مختلف وتصفيط آخر يحمل رؤية تختلف عمّا وجدت فيه النصوص الأصليّة والعناوين التي حملتها سابقًا. وكون هذه المقدّمة مهمّة لتوضيح هذه اللملمة أو التصفيط فإنّ القارئ عليه ألّا يتجاهل هذه العتبة لأهمّيّتها لفهم مقصديّة الكاتب، لا بل لفهم دوافع استراتيجيّة الكتابة وجمع القصص كلّها تحت مظلّة هذا التصفيط والسهسلة. كلّ هذا هو فعل ميتا يعكس رؤية نقديّة أخرى للكاتب، ممارسة نقديّة قبليّة توحي بقراءة جديدة قام بها نفّاع لقصصه، ثمّ بتصفيطها وتجميعها تحت عناوين مختلفة تحمل قاسمًا مشتركًا بين مجموعة من القصص. لقد كان سعيد نفّاع في مؤلّفه هذا ناقدًا بقدر ما كان كاتبًا، لا بل كان الناقد الأوّل لنصّه. وفي هذا ميتاقصّ واضح. ينتقد إبراهيم طه هذا التصفيط فيقول: “إنّ جمعها بهذا الشكل تحت عنوان “الدوريّ المهاجر” وبهذا الشكل ليس إلّا تصفيطًا نمطيًّا لم يراع فيه الكاتب امتدادها الطوليّ، بعثرها وألغى تراتبها وتتابعها ليعيد ضبطها بقواسم مضمونيّة مشتركة”، وبهذا الشكل هو “ضلّ وأضلّ”. “التصفيط النمطيّ أو التنميط “التصفيطيّ” هو ممارسة نقديّة ذاتيّة لاهثة”. “التنميط أداة إجرائيّة لمواصلة السيطرة على النصّ وتكريس نسق التوصيل.. تنميط القصص في قوائم مضمونيّة أو فكريّة هو محاولة بريئة في دالّها القصديّ، خبيثة في مدلولها.. هو محاولة “لسهسلة” الأمور أمام القارئ ومنحه طرف الخيط.”[40] “سعيد نفّاع يجرؤ على التصفيط و”التصفيط” فعل لأنّه ليس حدثًا عارضًا عابرًا، بل تسبقه مواقف ونوايا. ما يفعله نفّاع في فعل هذا التصفيط هو فعل تسمية، أو بتعبير أدقّ هو فعل عنونة، والعنونة من آليّات الاختزال. والاختزال تجنيد للمعنى وحشد للحقيقة.”[41] ولا شكّ أنّنا نوافق طه ونؤكّد أنّ التصفيط بهذا الشكل هو محاولة قبليّة نقديّة منه تدلّ على قراءة مقصودة تفضح تفكيره، وتفرض على القارئ توجّهه كما يراه هو، ووفقًا لرؤيته. فيسيطر على عمليّة القراءة ونهجها واستراتيجيّتها، وبصورة قبليّة تجعلها عمليّة موجّهة استهلاكيّة لا تفاعليّة. إنّ جمع عدّة قصص في باب معيّن تحت عنوان يختزل المضمون ويشير إلى القاسم المشترك يوحي بسعي الكاتب إلى سيطرته على عمليّة القراءة وتوجيهها، وإنتاج التأويل قبل القارئ، فيتجاوز دوره ككاتب ويسلب من تفاعل القارئ مع النصّ في عمليّة التواصل الأدبيّ، لا بل قد يحتكر المعنى والدلالة والتأويل في فعل التملّك والسيطرة. فإذا كان القارئ هاجسه فإنّه يبدو بفعله هذا محتكرًا له سالبًا منه حقّه في القراءة وحرّيّة فعلها. ممّا يعني تفاقم حدّة هذا الهاجس وتماديه إلى فعل التملّك والتحكّم بنظرة أبويّة مسيطرة. يحاول “السيطرة على طرق إنتاج المعنى/ الحقيقة/ المعرفة وطرق الاستهلاك الثقافيّ على حدّ سواء”.[42] و”القراءة على قراءة هي فعل توجيه وترشيد بالإضمار المستتر أو الالتفافيّ. وهو فعل أبويّ يحتفظ نفّاع من خلاله بحقّ الكتابة والقراءة، بحقّ الرأي والرأي الآخر. وهذه هي من الآفات الأدبيّة”. “يسعى نفّاع بهذه المحاولات الاقتحاميّة إلى إحياء القصد باللغة وإماتته بالتأويل”.[43]
- في عتبات القصص- البدايات
يعتمد الكاتب كذلك على العتبات في بدايات عدد من قصصه ليشير إلى “تقليديّتها” كقصّة “أو – فورتونا وصديقتي” حيث يبدأها بعتبة: “قصّة غير تقليديّة من وحي الـ 8 من آذار يوم المرأة”(ص 246)، وقصّة “حديث القهوة”: “قصّة غير تقليديّة”(ص 312)، أو مؤكّدًا على “واقعيّتها” كقصّة “الموت المهزوم”: “قصّة ربّما تكون حقيقيّة!”، وقصّة “بئر الخشب”: “قصّة قد تكون بعض تفاصيلها واقعيّة”(ص45)، قصّة “بنت الرئيس..”: “قصّة… واقعيّة على ذمّة الراوي”(ص166). أمّا في قصّة “أبو حمّاد يفشل في عودة مهجّري شعب”(ص26) فيبدأ بجملة: “أيّ تشابه بين شخوص هذه القصّة والواقع هو ليس صدفة”. في هذه العتبة “يقلب الكاتب التعبير ويكسر المأنوس الرتيب في توظيفه”.[44] وفي بعض القصص يستهلّها بعتبات إهداء، كقصّة “عرس وراء الحدود” من عربسطينيّات: “إلى المشرّدين في هضاب جنوب لبنان…”(ص175)، وقصّة “زيارة عبر الأسلاك”: “إلى أهل الجولان المحتلّ”(ص 179). وأحيانًا يوظّف العتبات ليشير إلى جنسها الأدبيّ، كقصّة “ظريف بلدنا يحرم الرفيق(ح) القيادة: “على ذمّة ظريف بلدنا.. قصّة!”(ص302)، وفي قصّة “مشمشتنا الشاميّة”: “قصّة.. من وحي حزيران”(ص189). أمّا قصّة “مع سيدي بخير ومع ستّي بخير” فيستهلّها بعبارة: “لا تسمّها قصّة إن شئت”(ص 230). إنّ الاستهلال بهذه العبارات يعكس هاجس نفّاع النقديّ ويكشف عن شخصيّة الناقد فيه وانشغاله بالشكل الفنّي وقواعده. كما يكشف عن توتّر بين النصّ والنوع، بين الالتزام بالشكل وقواعده ومحاولات هتكه والتمرّد عليه.[45] ينشغل نفّاع بمسألة الجنس الأدبيّ وضوابطه، لكنّ نوازعه وميوله لرفض القيود تدفعه أحيانًا نحو محاولات الثورة على النوع وانتهاكه وتقويض مسلّماته. إنّ هذه المحاولات نحو انتهاك الشكل التقليديّ تعكس محاولاته للوصول إلى موازٍ على صعيد الواقع، للتمرّد على الواقع بتمرّده على الشكل. هو قلق على صعيد الشكل وهويّة النوع، مثلما هو قلق على الهويّة الفلسطينيّة. هو قلق على صعيد الوجود والواقع. إنّه التوق إلى الانطلاق وكسر القيد والحرّيّة. هكذا تكشف العتبات والعناوين عن ميتاقصّيّة جليّة، والميتاقصّ هو “القصّ الذي يشتمل تعليقًا على هويّته السرديّة.[46] هو الكتابة التي تقدّم نقدًا وتأمّلًا ذاتيًّا لعمليّة الإبداع، فتموضع نفسها على الحدّ الفاصل بين القصّ والنقد، كما تطرح أسئلة حول العلاقة بين القصّ والواقع.[47] هذه العتبات والتي يرى إبراهيم طه أنّها “تؤدّي بعضًا من وظائف السهسلة”،[48] هي ممارسات نقديّة توجّه قراءة الكتاب ومفاتيح الدلالة.
- في جماليّات فنّيّة أخرى
يلاحظ القارئ اختلاف القصص من حيث الجماليّات الفنّيّة والأسلوب. فلمّا كانت تجمع ستّ مجموعات قصصيّة نشرت على امتداد ما يتجاوز أربعة عقود فلا بدّ أن تكشف تفاوتًا واضحًا في جماليّات الكتابة؛ “بعض القصص نمطيّة تقليديّة حسب مواصفات الموديل الأبويّ الصارم في مادّتها وخطابها الجماليّ. وبعضها استحداث جميل على كلا المستويين المادّيّ والجماليّ”.[49] يرى إبراهيم طه أنّ هذه التجربة القصصيّة تكشف عن مرحلتين: “مرحلة القصّة الحكائيّة الدراميّة، هي مرحلة السرد الصائت في السبعينيّات والثمانينيّات، ومرحلة القصّة الفلسفة الحواريّة، هي مرحلة السرد الصامت، في العقدين الماضيين”.[50] تتنوّع القصص إلى ثلاثة أنماط من الكتابة: (1)الحكائيّة الخالصة، وهي مكتوبة حسب الأصول الأبويّة للحكاية، ولأنّها محتشدة بالنوادر والقفشات الغرائبيّة والمواقف العجائبيّة التي تميّز مجتمعنا الفلّاحيّ، خصوصًا القرويّات والسجنيّات. (2) “الحكافيّة” نمط تداخليّ بيني توفيقيّ يجمع بين الحكائيّ والفلسفيّ في كيان واحد. (3) الفلسفيّة الخالصة، والتي ينتقل فيها نفّاع من سذاجة الحكاية إلى عمق التراشق الذهنيّ في القصّة الفلسفيّة”.[51] في قصص ذات النمط الفلسفيّ يستدعي النصّ القارئ في علاقة حواريّة، ممّا يعني أنّ الكاتب يتخلّى عن دوره السلطويّ وسلطته الأبويّة، لا بل يفسح المجال “لموت المؤلّف” مثلما يقول رولان بارث ويصادر العمليّة الإبداعيّة منه وينقلها إلى القارئ. بهذا المفهوم يرفض النصّ أن يضطلع بوظيفة الإيصال ذي الاتّجاه الواحد، ويرفض القارئ الاكتفاء بمهمّة التلقّي السلبيّ.[52] هكذا يجمع الكاتب في أعماله الكاملة بين النموذج الأبويّ الكلاسيكيّ، والاعتماد على الحداثة وما بعدها، فيجاور بين نقيضين متناقضين. الأمر الذي يؤدّي إلى إسقاط مسألة صرامة التّجنيس ونظريّاته ووسمه بنزعة مستمرّة إلى التّجاوز وهدم الحدود والهروب من سلطة النوع.
يوظّف الكاتب القرية الفلسطينيّة الجليليّة بهدف توثيق عاداتها وتقاليدها ولغتها وطبيعتها ونباتها ومناخها وأخلاقيّاتها وموروثها، في البيت والأرض والحقل، وذلك بهدف التأريخ والتسجيل والتوثيق وتثبيت الذاكرة. ولهذا يعتمد على آليّة الوصف الدقيق والتفصيل والتركيز والتبئير. إنّ الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة والوصف الدقيق يجعل نفّاع وكأنّه يصوّر باللغة ويرسم، يشدّ حواسّ القارئ ويستحوذ على عاطفته، فيزيد من قدرته على تخيّل المشاهد القصصيّة. الأمر الذي يضفي واقعيّة على القصص ويقرّب النصّ إلى القارئ فيؤثّر فيه ويثبّت المضامين في الذاكرة. تعكس عمليّة الوصف المكانيّ رؤية ذاتيّة تؤكّد مدى ارتباط الكاتب بالمكان وبيئته، الوطن بكلّ ملامحه الطبيعيّة البيئيّة الفلسطينيّة الخضراء. يحتفي بالطبيعة ليؤكّد شدّة حاجة الإنسان إليها لاعتبارات وجوديّة حياتيّة. ولمّا كانت قصصه تقترب إلى حدّ الحكاية الشعبيّة الفلّاحيّة كان يطعّمها باللهجة الفلسطينيّة الجليليّة المحكيّة وبلغة القرويّين الفلّاحين. واللغة من ملامح الحياة والوجود البشريّ. يوظّف الأهازيج وأغاني الفلّاحين والعتابا الشعبيّة والمواويل والأمثال الشعبيّة. كانت لغته غنيّة بالموروث الشعبيّ واللغة التراثيّة. بهذه اللغة أعلى من شأن المكان الفلسطينيّ واحتفى به. كما أمكن من إعلاء الشخصيّات والاحتفاء بهم في علاقاتهم وانتمائهم به. ألا يعني وصف المكان وتصويره بتفاصيله ومعالمه المادّيّة والبشريّة والجغرافيّة والمناخيّة والحيوانيّة ارتباطًا شديدًا بالأرض المفقودة والوطن؟ ثمّ ألا يعني هذا الحنين والشوق إلى ماضٍ أصفى من تداعيات النكبة وشرذمتها؟ وألا يكون هذا تسجيلًا لحقائق الذاكرة ضدّ الضياع؟ إنّ انشغال نفّاع في قصصه بتوظيف التراث الشعبيّ الفلسطينيّ هو في أساسه “جهاز دفاعيّ”. وحين يعمله الكاتب الفلسطينيّ في أدبه فإنّه “يفعل ذلك لتأكيد جملة من الاعتبارات: الالتفاف على السلطات الاسرائيليّة في محاولاتها المتعاقبة لاقتلاع الانتماء الفلسطينيّ ومصادرة الهويّة القوميّة. فالتراث هو أحد مركّبات الحضارة، والحضارة من أبرز مركّبات الهويّة بها يتميّز القوم عن القوم”. بها يكون “تجاوز التشظّي الطائفيّ والعرقيّ بكلّ أشكاله. فالكتابة عن التراث هي تأكيد على الهويّة الجمعيّة ونفي للفئويّة بكلّ أنواعها. وهي تبعًا لذلك اختراق حادّ لمحاولات التقطيع والتشرذم والطائفيّة”.[53]
مزج الكاتب بين اللغة العامّيّة واللغة الفصحى، فجمع بين لغتين، لغة بسيطة قريبة من لغة الناس المحكيّة واللغة الشاعريّة التي امتازت بها القصص الفلسفيّة. حين كان يناقش قضايا فلسفيّة وجوديّة كانت لغته ترقى إلى مستوى الشعر وتصبح ذات تراكيب مجازيّة شعريّة ترتكز على التضادّ والرموز والإيحاء والتلميح. وفي بعض القصص مزج بين اللغة البسيطة غير المعقّدة ولغة الشعر. كما كان يخلط أحيانًا اللغة العربيّة بكلمات عبريّة حين تكون الشخصيّة المتحدّثة شخصيّة يهوديّة كقصّة “البيت المهجور”(ص 9). كما اعتمد استخدام الهوامش لتفسير الكلمات العامّيّة كقصّة “حمارتنا والإنجليز”(ص 153).
كان الراوي في معظم القصص عليمًا بكلّ شيء، عالمًا بأدقّ التفاصيل. ولم يكن ثمّة توسّع في تصوير دواخل الشخصيّات، ولعلّ هذا يعود لكون العمل هو قصص قصيرة وليست رواية. كان صوته مهيمنًا على النصّ، ولم يمنح الشخصيّة سلطة السرد. وهذا ما نأخذه على الكاتب مأخذًا، إذ كان بإمكانه أن يمنح سلطة السرد للشخصيّة بتوظيف المونولوج مثلًا، وبهذا الشكل يبيّن صراعات الشخصيّة وأزمتها وتوتّرها. لقد سيطر الكاتب على النصّ مستخدمًا ضمير الغائب. وهذا ما جعل الطرح عامًّا وجماعيًّا لا ذاتيًّا أو فرديًّا، فعكس الراوي آراء الكاتب نفسه وآيديولوجيّته وأفكاره. الأمر الذي يجعلنا نرى سعيد نفّاع خلف هذا الراوي، أو أنّ الكاتب الضمنيّ ليس إلّا صورة عن الكاتب الحقيقيّ.
يستخدم نفّاع كغيره من الكتّاب الفلسطينيّين السخرية والتهكّم والمفارقة. تأتي السخرية كآليّة مقاومة ودفاع ورفض وهجوم في آنٍ معًا. ففي حالة الفلسطينيّ المكبوت والمسلوب تكون السخرية ضرورة لا خيارًا، بل تشكّل تعويضًا نفسيًّا هامًّا، هي صمّام الأمان والتعزيز النفسيّ في مواجهة السلطة.[54] “تعد ميخانيزمًا دفاعيًّا ناجعًا ضدّ القهر والمطاردة”، وهي “وسيلة لضحد التوتّر النفسيّ الناجم عن مصادرة خارجيّة، كالسلطة بكلّ أشكالها وممارساتها ضدّ الأقلّيّة العربيّة في إسرائيل”.[55] برزت السخرية في كثير من القصص، كقصّة “ظريف بلدنا يحرم الرفيق القيادة”(ص302)، “سطح جاسم عجّة والدكتور”(ص307)، “حديث القهوة”(ص312) و”التشذوب”(ص327). ولعلّ ما يقوله الراوي في قصّة “حمارتنا والإنجليز”(ص 149) خير إثبات على إدراك الكاتب لدور هذا الآليّة وأثرها، فيقول: “عندما لا يجد الإنسان طريقًا للتنفيس عن قهر يتفتّق ذهنه أحيانًا عن سخرية لاذعة معزّيًا بها نفسه”(ص 151).
يوظّف الكاتب التناصّ[56] بكثرة حيث ينهل متناصّاته من مجالات عديدة كالتراث الفلسطينيّ والعربيّ والغربيّ والفكر والتاريخ والدين والأدب، فيوظّف الأسطورة مثلًا في ” قصّة لمار بين النار والنار”، و”أفروديت لم تسحق روحي”(ص197)، و”مأتم في الجنّة”(ص51). كما أنّه يعتمّد الرمز في عدد من قصصه الحداثيّة. والرمز هو حذف ونقص وغياب يولّد فجوة من الفجوات لتكون مهمّة الاهتداء ملقاة على القارئ، فيدخله في علاقة حواريّة مع النصّ ويحفّزه للتفاعل الذهنيّ والعقليّ بهدف ملء الفجوة. برز توظيف الرمز في قصّة “الخيمة والنخل”(233) والتي تعتمد على تبنّي الأمثولة في شكلها الترميزيّ، فالخيمة والنخيل مثال لا حقيقة، وكلاهما من الأيقونات الثقافيّة الحضاريّة العربيّة الممتدّة، الخيمة موسومة بالحلّ والترحال والنخلة بالثبات والاستقرار.[57] ولعلّ قصّة “الخائن” من القصص الرمزيّة الحداثيّة التي يكشف عن دلالة رمزها الكاتب نفسه، حيث يعلّق على هذه القصّة في رده على مقالة نقديّة كتبها “نبيل عودة” حول مجموعته القصصيّة “مأتم في الجنّة”، مؤكّدًا أنّه كتب قصّة “الخائن” من باب الحداثة اتّقاء لشرّ الحداثيّين. يكشف نفّاع في ردّه هذا عن رمزيّة الشجرة فيقول: “والحقيقة يا نبيل لم أجد حتّى الآن من استطاع سبر غورها رغم أنّي أعطيت أكثر من مفتاح. على كلّ الحديث يدور عن زيتونة اقتلعت من زيتون البروة كما اقتلع الآلاف المؤلّفة غيرها لتزرع في الحدائق العامّة في البلدات اليهوديّة للزينة وهي التي احتضنها بطلنا”(ص393). على الرغم من نيّة كاتبنا الحسنة في الكشف عن الرمز، إلّا أنّ إيراده هنا في هذا الكتاب وبهذا الشكل يسلب دور القارئ في عمليّة القراءة والتأويل لإنتاج الدلالة، ويخمد من روح تفاعله مع النصّ. ولهذا أعتقد أنّ الكاتب أخطأ في جمعه بين قصصه والمقالات النقديّة.
الإجمال
بحثت هذه الدراسة في “الدوريّ المهاجر” للكاتب سعيد نفّاع. وهي الأعمال الكاملة التي جمعت المجموعات الستّ التي نشرها خلال عدّة عقود. تعكس القصص اهتمام الكاتب بهموم الإنسان الفلسطينيّ منذ النكبة، كاشفًا عن نبرته الآيديولوجيّة والعقائديّة. بحثت هذه الدراسة بشكل خاصّ في علاقة الكاتب بالمكان/ الوطن الفلسطينيّ، فكشفت عن علاقة متينة تدلّ على انتماء واعتزاز وارتباط وثيق بالوطن وهويّته. ولشدّة انتمائه لهويّته الفلسطينيّة العربيّة يرفض الخدمة العسكريّة فيسجن. الأمر الذي تمخّض عن عدد من قصص أدب السجون/ السجنيّات اشتمل عليها هذا البحث. يشكّل المكان المنكوب والأرض المسلوبة البؤرة الأساسيّة للنصّ القصصيّ عنده. فلا يمكن للفلسطينيّ أن يعيش مكانه دون أن يربطه بوعيه بزمن النكبة وأثرها وتداعياتها. تجسّد قصصه رفض كلّ محاولات التغييب والتهجير والتهميش ومصادرة الأرض والقلع التي تمارسها السلطة الإسرائيليّة حيال الأقلّيّة الفلسطينيّة، مؤكّدة على ضرورة التمسّك بالهويّة الفلسطينيّة والتشبّث بالأرض. كما بحثنا في العتبات والعناوين فكشفنا عمّا تحمله من إشارات المكان ودلالاته، ثمّ أهمّيّة توظيف آليّات فنّيّة كتوظيف التراث الشعبيّ الفلسطينيّ والسخرية واللغة المحكيّة والوصف في تعزيز المكان/ الوطن والاحتفاء به، ثمّ ترسيخه وتثبيته في الذاكرة من أجل التأكيد على الهويّة والبقاء. كما بحثنا في آليّات فنّيّة أخرى تكشف عن استراتيجيّة الكاتب في إبداع هذا المؤلّف.
قائمة المراجع
باختين، ميخائيل. أشكال الزمان والمكان في الرواية. ترجمة: يوسف حلّاق. دمشق: وزارة الثقافة، 1990.
الباردي، محمّد. الرواية العربيّة والحداثة. اللاذقيّة: دار الحوار، 2002.
باشلار، غاستون. جماليّات المكان. ترجمة: غالب هلسا. بيروت: المؤسّسة الجامعيّة للدراسات والنشر،1984.
البحراوي، حسن. بنية الشكل الروائيّ. الدار البيضاء: المركز الثقافيّ العربيّ، 2009.
بلعابد، عبد الحقّ. عتبات (جيرار جينيت من النصّ إلى المناصّ). بيروت: دار العربيّة للعلوم ناشرون، 2008.
جابر، كوثر. الكتابة عبر النوعيّة– تداخل الأنواع الأدبيّة في الأدب العربيّ الحديث. حيفا: مجمع اللغة العربيّة، 2012.
جابر، كوثر. التشكيلات المكانيّة في الرواية الفلسطينيّة. حيفا: دار راية للنشر، 2019.
الجزّار، محمّد فكري. العنوان وسيميوطيقا الاتّصال الأدبيّ. القاهرة: الهيئة للمصريّة العامّة للكتاب، 1998.
حمد، محمّد. الميتاقصّ في الرّواية العربيّة (مرايا السّرد النّرجسيّ). باقة الغربيّة: مجمع القاسميّ للّغة الغربيّة، 2011.
ديفيز، ب. س. المفهوم الحديث للمكان والزمان. ترجمة: د. السيد عطا. القاهرة: الهيئة المصريّة العامّة، 1996.
الشيخ – حشمة، لينا. أدب السجون في مصر سورية والعراق- الحرّيّة والرقيب. باقة الغربيّة: مجمع القاسميّ للّغة العربيّة وآدابها، حيفا: مكتبة كلّ شيء، 2016.
صالح، ضاري مظهر. دلالة اللون في القرآن والفكر الصوفيّ. دمشق: دار الزمّان، 2012.
طه، إبراهيم. “نظام التفجية وحواريّة القراءة”. الكرمل. حيفا: جامعة حيفا، ع14، 1993، ص 95- 129.
طه، إبراهيم. البعد الرابع. النّاصرة: مجمع اللغة العربيّة، 2016.
طه، إبراهيم. فتنة الأدب والنقد. باقة الغربيّة: مجمع القاسميّ للّغة العربيّة وآدابها، حيفا: مكتبة كلّ شيء، 2019.
عبد الفتّاح الحجمريّ، عتبات النصّ- البنية والدلالة. الدار البيضاء: شركة الرابطة، 1996.
عبيد، كلود. الألوان: دورها، تصنيفها، مصادرها، رمزيّتها ودلالتها. بيروت: مجد- المؤسّسة الجامعيّة للدراسات، 2013.
عزّام، فؤاد أحمد. “بناء المكان في الخطاب السرديّ”. المجمع. باقة الغربيّة، ع 2، كانون الثاني، 2010، ص 205-231.
الغضنفري، صهباء حازم. شعريّة الخطاب السرديّ. عمّان: دار فضاءات، 2018.
قاسم، سيزا. “المكان ودلالاته” في: جماليّات المكان. الدار البيضاء: عيون المقالات، 1988، ص 59-67.
قاسم، سيزا. بناء الرواية- دراسة مقارنة في ثلاثيّة نجيب محفوظ. القاهرة: مكتبة الأسرة، 2004.
القاسم، نبيه. “سعيد نفّاع سياسيّ يأخذه الأدب” في: الدوريّ المهاجر. معليا: مطبعة سما، 2018، ص 358-364.
قطّوس، بسّام موسى. سيمياء العنوان. عمّان: وزارة الثقافة، 2001.
كريستيفا، جوليا. علم النصّ. ترجمة: فريد الزاهي. الدار البيضاء: دار بوبقال، 1991.
لحمداني، حميد. بنية النصّ السرديّ. بيروت: المركز الثقافي العربيّ، 1991.
لوتمان، يوري. “مشكلة المكان الفنّيّ” في: جماليّات المكان. ترجمة سيزا قاسم درّاز. الدار البيضاء: عيون المقالات، 1988، ص 68- 86.
موقع محميّات: “الدوريّ البلديّ”: http://www.mahmiyat.ps/ar/floraAndFauna/175
النابلسيّ، شاكر. جماليّات المكان في الرواية العربيّة. بيروت: المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، 1994.
نفّاع، سعيد. وطني يكشف عريّي. عرعرة: دار الأماني، 2016.
نفّاع، سعيد. الدوريّ المهاجر. معليا: مطبعة سما، 2018.
هلسا، غالب. “المكان في الرواية العربيّة”. الآداب. ع 2-3، 1980، ص 77-72.
هيبي، فيّاض. “السخرية في الأدب الفلسطينيّ”. شذى الكرمل. كانون أوّل، 2019، ص 81-85.
يقطين، سعيد. انفتاح النصّ الروائيّ. بيروت: المركز الثقافيّ العربيّ، 1986.
Lotman, Jurij. The Structure of the Artistic Text. Michigan Brown University Press, 1977.
Peled, Mattityaho.”Prison Literature”. in: S. Ballas and R. Snir, (eds.), Studies in Canonical and Popular Arabic Literature. Toronto, Ontario: York Press, 1998, pp. 69-76.
al-Sheikh-Hishmeh, Lina. “Prison literature in the arab world: features and samples”. Journal of Oriental and African Studies. 27, 2018, pp. 165-199.
Taha, Ibrahim. “The Power of the Title: Why Have You Left the Horse Alone By Mahmud Darwish”. Journal of Arabic and Islamic Studies. Vol. 3, 2000, pp .66-83.
Taha, Ibrahim. “Swimming Againts the Current: Towards an Arabic Feminist Poetic Strategy”, Orientalia Suecana, LVI, 2007, pp. 193-222.
Woods, M. & Agostein, F. “Personal Identity and the Imagery of Place, Psychological Issues and Literary themes”. Journal of Mental Image. No 8, 3,1984, pp. 51-66.
[1] من سيرة الكاتب الذاتيّة التي أوردها بقلمه في الأعمال الكاملة “الدوريّ المهاجر”. للمزيد انظر: نفّاع، 2018، ص 461-465.
[2] وهي: “لمار بين النار والنار”، “الموت المهزوم” و”المواطن يكتب القصّة”.
[3] القاسم، 2018، ص 359.
[4] طه، 2019، ص 24.
[5] ن.م.، ص 26.
[6] للمزيد عن مفهوم المكان انظر: لحمداني،1991، ص 53-64؛ ديفيز، 1996، ص 9؛ النابلسيّ، 1994.
[7] للمزيد انظر: قاسم، 2004، ص 101-175.
[8] البحراويّ، 2009، ص 26.
[9] حافظ، 1984، ص 171. وطبقًا لتقسيم الباحثين مول ورومر هناك أربعة أماكن حسب السلطة التي تخضع لها: 1- عندي. 2- عند الآخرين. 3- الأماكن العامّة. 4- المكان اللامتناهي (قاسم، 1988، ص 62). وهناك من قسّم المكان إلى: 1- المكان المجازيّ. 2- المكان الهندسيّ. 3-المكان كتجربة معيشة. 4- المكان المعادي. انظر: هلسا، 1980، ص 72-77.
[10] قاسم، 1988، ص63-65.
[11] باشلار، 1984، ص 31.
[12] الغضنفريّ، 2018، ص 114.
[13] انظر: Woods, & Agostein, 1984, pp. 51-66
[14] Lotman, 1977, p.218;البحراويّ، 2009، ص 33- 35؛ لوتمان، 1988، ص 70-72.
[15] باختين، 1990، ص6.
[16] إيراهيم، 2016، ص108– 110.
[17] طه ، 2016، ص 299-300.
[18] جابر قسوم، 2019، ص 162.
[19] طه، 2019، ص 35.
[20] للمزيد عن أدب السجون انظر: الشيخ- حشمة، 2016،
Peled, 1998, pp. 69-76; al-Sheikh-Hishmeh, 2018, pp. 165-199.
[21] عزّام، 2010، ص 207.
[23] قصّة أرسلها الكاتب إليّ عبر البريد الإلكترونيّ.
[24] طه، 2019، ص 43.
[25] نقصد بالعتبات النصّيّة: العنوان الرئيس، العناوين الفرعيّة، لوحة الغلاف، المقدّمة، التمهيد، الغلاف الخلفيّ، الهوامش وغيرها. للمزيد انظر: بلعابد، 2008؛ الحجمريّ، 1996.
[26] Taha, 2006, p. 66.
[27] غنايم، 2015، ص 17.
[28] Taha, 2000, p.66.
وعن العنوان ووظائفه انظر أيضًا: قطّوس،، 2001، ص 49-52؛ الجزّار، 1998.
[29] للمزيد انظر: حمد، 2011، ص 160.
[30] الباردي، 2002، ص 233.
[31] موقع محميّات: “الدوري البلدي” : http://www.mahmiyat.ps/ar/floraAndFauna/175
[32] باشلار، 1984، ص 102- 106.
[33] ن.م.، ص 106.
[35] ن.م.، ص 109.
[36] طه، 2019، ص 26.
[37] عبيد، 2013، ص 107- 114.
[38] صالح، 2012، ص 220-221.
[39] نفاع، 2016.
[40] طه، 2019، ص 27-29.
[41] ن.م.، ص 28.
[42] ن.م.، ص 29.
[43] ن.م.، ص 28.
[44] ن.م.، ص 41.
[45] ن.م.، ص 37-41.
[46] حمد، 2011 ص 20.
[47] تؤدّي الميتاكتابة إلى انتهاك الأجناس الأدبيّة السّائدة، إذ تشير إلى أنّ الجنس الأدبيّ لم يعد نقيًّا، بل تمزج بين الكتابة الإبداعيّة والنّقد. وفي هذه الحالة يصبح للكاتب/ الكاتبة وظيفتان: إضافة إلى دوره ككاتب عليه أن يكون ناقدًا انظر: . Taha, 2007, p. 212
[48] طه ،2019، ص 32
[49] ن.م.، ص 25.
[50] ن.م.، ص 43-44.
[51] ن.م.، ص 31.
[52] طه، 1993، ص 95.
[53] طه، 2016، ص 307 – 308.
[54] هيبي ، 2019، ص 81-85.
[55] طه، 2016، ص 365.
[56] للمزيد عن التّناصّ انظر: جابر، 2012، ص 237-240؛ كريستيفا، 1991؛ يقطين، 1986.
[57] طه، 2019، ص 32.