ها هو الأسير حسام زهدي شاهين يحلّق فوق القضبان ليزور عمان كما زار حيفا من قبل وتجوّل في فضاء الوطن السليب عبر كلمته وروايته “زغرودة الفنجان” ليحقّق نبوءة الإعلامي زاهي وهبي في تقديمه للرواية: “يستطيع المحتلّ اعتقال الجسد لكنّه أعجز من أن يعتقل الروح أو الفكرة. من الآن فصاعداً، وسواء كانت حريّة حسام (ورفاقه الأسرى) قريبة كما نحبّ ونشتهي ونتمنّى، أو بعيدة كما يسعى المحتل، فإنّ حسام قد صار كلمة مشعّة بين دفتيّ كتاب، ومَن ذا الذي يستطيع اعتقال كتاب سُطِّر بالحبر المقاوم المُضيء”.
بدايتها تُلخصّها، تلخّص الرواية ما يجري هنا في مجتمعنا في الداخل، طريقة تجنيد العملاء: الضعفاء والفقراء ومن جهة اخرى استغلال “شرف العائلة”، معظم الرواية تتركّز في شخصيات السوء وللأسف هم كُثر في مجتمعنا، خاصة في المدينة، بينما الصورة في القرية (قرية الجدّ) تختلف تمامًا. وصف العلاقات بين المناضلين. في الرواية بؤر من النور (قصة سلمى) والشاب الذي وافق على الزواج منها رغم ما مرّت به، هناك لحظات عاطفية جدًا، معاناة الناس، الأهل والشباب، وكل هذا أعطى الرواية زخم وعمق.
يصرخها حسام بصريح العبارة: هل صار شرفنا هو عورتنا؟ وها هو يُباع الشرف ويُباع الوطن.
تناول الزاوية النفسيّة لشخصيّات الخوَنَة واستغلال المخابرات الإسرائيلية للضعفاء. كنت أسمّي سلمى وفراس بالمتحرّرين واللذان كسرا كل التابوهات، توجّها للجدّ الذي يمثّل دور القائد والمروءة، وهي موجودة رغم الاحتلال.
من الجهة الأخرى – الاسرائيلية: يعرض كم تُجنّد هذه الدولة من الموارد في المخابرات واصطياد أصحاب النفوس الضعيفة.
إحدى الايجابيات بأنّ الكاتب أسير، قدرته على الجرأة والكتابة بحُريّة وصراحة عن تابوهات المجتمع، تفاصيل مشاهد جنسيّة بجرأة كبيرة يُحسد عليها.
جاء حسام رياديًا بفضح المستور، وبجرأة يُحسد عليها، وتبعه الأسير هيثم جابر في روايته “الشهيدة”، والأسير معتز الهيموني في روايته “سراج عشق خالد”، والأسير عمار الزبن في مخطوطة رواية تحت الطباعة بعنوان “ملائكة على باب جهنم”.
توظيفه لاسم رحاب ليس صدفة (رحاب الزانية من أريحا في التوراة)، قصة سلمى وفراس كانت نقطة الضوء في الرواية.
تصميم الغلاف جميل ومعبّر، الرواية شيّقة، لغتها جميلة وسلسة، استعمال العاميّة جاء موفّقًا، وواضح التمكّن من اللغة العربيّة الجميلة، بعض الفقرات بلغة شاعريّة جميلة جدا، الأسلوب سردي “بوليسي” لكنّه لا يخلو من العمق التحليلي للمجتمع والفرد.
إنّها رواية مقاومة؛ الكتاب يخرج من الإطار المتّبع في معظم الكتب المنشورة عن القضية والحياة الفلسطينية. عادة ما تناولت هذه الكتب التاريخ الفلسطيني، النكبة، المقاومة، النضال، المعاناة، فلسطين الجميلة، وأدب السجون الكلاسيكي تناول المعاناة والتعذيب داخل السجن، ويأتينا حسام شاهين بالوجه البشع وبالصفعة المؤلمة وهي الخيانة والعمالة لإسرائيل، لهذا كان الكتاب مفاجأة وصعب للهضم. يثير الشعور بالقرف والاشمئزاز وكنت أبحث وأنتظر الوصول سريعًا إلى بصيص من الضوء (إلى انكشاف الخليّة وصحوة الضمير) التي أتت في النهاية.
سلاح المخابرات البسيط: حبّة منوّم وكاميرا. حين يكتب السجين الأمنيّ يجب أن نصغي لكل كلمة. مبنى الرواية سرديّ مشوّق مع تكرار الخيانات والشخصيات، لكنّني أدركت لاحقًا أنّ هذه الشخصيات غطّت كل الاطياف وشرائح المجتمع المختلفة (اليتيم، الفقير، رجل الأمن، زوجة شخصيّة مهمّة، طلاب الجامعات والخ).
لم يغب عن الكاتب اختيار “أبطاله” المتعاونين، فليس صدفة ولا إقحامًا اختار أبطاله من كلّ ألوان الطيف الاجتماعي ليصرخ أنّ القضيّة قضيّة مجتمع بكامله.
تحكي الرواية قصة الصراع بين الخير والشر، بين شعب يتوق للعيش بحريّة وكرامة واستقلال فوق ترابه الوطني وبين محتلّ غاصب يقهر هذا الشعب ويعتدي عليه ويحرمه من أبسط حقوقه. هي حكاية الحرب الدائمة بين المقاومين البواسل من جهة وبين المحتلّين وأعوانهم من المرتزقة والعملاء وضعاف النفوس والإرادات.
زغرودة الفنجان هي زغرودة الأسير الذي ينتصر على المحتلّ وأعوانه لأن نصيره الحق والمحتل وأعوانه نصيرهم الباطل الذي تزهقه وتمقته النفس الأبيّة (إنّ الباطل كان زهوقًا).
الأسير الروائي يعيش في عالم يُبعده عن عالم السجن والسجّان ويجعله متفائلًا بالحياة والحريّة والانعتاق مهما طالت مدّة محكوميّته، والأسرى الفلسطينيون والموهوبون خيرُ من كتَب ويكتب روايتهم وحكاية شعبهم لأنّهم الأدباء الصادقون والعالمون ببواطن الأمور ومجريات الاحداث وتسلسلها.
تسعى السلطات إلى حرمان الأسرى من زيارات غير ذوي القرابة الأولى للأسير الفلسطيني بهدف عزله عن مجتمعه وحاضنته الشعبية، وقد كسر حسام هذا من خلال روايته، التي وصلت “ما بعد حيفا”، عالجت الرواية أكثر المواضيع حساسيّة وتطرّقت الى سبل إسقاط المتعاونين من خلال المس “بالشرف” ومعالجة الموضوع من خلال كسر أنماط من تعامل الفصائل في معالجة موبقات الاحتلال فمن خلال الرواية رأينا المقاوم الفلسطيني مسؤول تجاه أبناء شعبه وهو يقاوم المحتل بكل موبقاته ويظهر سعة احتواء وتفهّم حتى للفلسطينيين ضعيفي النفوس ممّن وقعوا في شرك المخابرات، كذلك رأينا الوجه المشرق لجيل شاب مسؤول يبشر بالمستقبل. رواية شيّقة، سرد جميل رغم التكرار في عمليات الإسقاط والتشابه في سردها.
وأخيرًا؛ هناك تكرار بأسلوب خطابيّ وبأسلوب تبشيريّ (وعظات)، أحيانا كان يفسّر المُفَسّر ويأخذ بيد القارئ ليوصله مراده، فلم يتخلّى حسام عن قبّعة القائد الواعظ الموجِّه، تمامًا كما فعل لاحقًا في كتابه “رسائل إلى قمر”.
أحببت التوصيف لروح الشباب الفدائيّة، يأخذون الموت كحالة عاديّة عابرة.
الحريّة تليق بأمثالك عزيزي حسام وشمسها تتوق لعناقك.
***مداخلتي في ندوة شبيبة حزب الوحدة الشعبية في عمان (أدار الندوة فراس السعدي) يوم الثلاثاء 16.08.2022