محمّد نفّاع كان شيوعيّا قبل أن يكون كاتبًا*

بيت جن تفاجئنا كلّ مرّة بإشعاع جديد مرّة نضاليّ ومرّة اجتماعيّ ومرّة ثقافي رغم الغيوم السوداء التي تغزوها بين الفينة والأخرى. لا فصلَ بين هذا الثلاثيّ في المجتمعات البشريّة، وأيُّ خلل في واحد حتمًا سيؤدّي إلى خلل في الآخر وبالتالي في النسيج العام. مجموعةُ الشابّات والشباب في “ارتقاء” حتمًا سيرتقون بالمشهد الثقافيّ البيتجنّي والعام كما غيرُهم من الفعّاليات الثقافيّة في البلد، فخطوتُهم مؤشّر على الخروج عن ال-“أنا” والانكفاءِ نحوها إلى ال-“نحن” والانطلاقِ بها، وهذا هو طريقُ رُقيّ الأمم.

أثلجتْ صدري عضوُ “ارتقاء” الكاتبة نيروز ظاهر حين توجّهت إليّ كي أساهمَ في عدد مجلّتهم الدجيتاليّة ارتقاء، والمخصّصِ للذكرى الأولى لرحيل محمّد نفّاع الجسد. سأسمح لنفسي بداية أن أقول: كانت افترقت طرقُنا، محمّد وأنا، السياسيّة عام 1998 حين تركتُ صفوفَ الحزب الشيوعيّ لصالح الفكرِ القوميّ، وليس سرّا أن بونًا كان بيني وبين محمّد نفّاع في العقدين الأخيرين سياسيّا وفكريّا، ليس وطنيّا، اتّسم بالحدّة في الكثير من المواقع، ولكنّ ذلك لم ولا يمسّ “العيش والملح” الكثيرَ الكثيرَ بيننا على المستوى الأُسريّ والشخصي، وحقيقة هي، أعتزّ بها، أنّ لمحمّد نفّاع كان تأثيرٌ على نشأتي الاجتماعيّة والسياسيّة والفكريّة.

طغى على المشهد البيتجنّي بعد الوفاة الجانبُ الأدبيّ في محمّد، فقلّ من تناول من فعّاليّات البلد محمّد الشيوعي إلّا عرضًا، ولذلك أسبابٌ عدّةٌ أترك الخوضَ فيها في هذه العجالة. محمّد نفّاع وحين تخرّج وزميلان له كأوّل ثلاثةِ خرّيجي ثانويّة في البلد، وكان قانونُ التجنيد الإجباريّ البغيضُ في أوج سريانه على الشباب العرب الدروز، جُنّد زميلاه وأُعفِي هو كونُه ذكرًا وحيدًا في الأسرة، هكذا كان أيّامَها. كانت المؤسّسةُ “تصطاد” كلّ شابّ متعلّم في منظومتها لتمرير سياسة العزل التي كانت بدأت تمارسُها على العرب الدروز، ومنها تدريزُ الهيئات الدراسيّة في المدارس.

محمّد ومنذ نشأته تخطّى ال”أنا” نحو ال”نحن”، لم يحمل فقط مصلحتَه الشخصيّة والأسريّة كالغالبيّة التي كانت وما زالت بيننا، بل أعطى المصلحةَ العامّة جلّ الاهتمام. ولم تحِد المؤسّسةُ في “حملة الصيد” عن محمّد فوظّفته معلّمًا مؤقّتًا بديلا في بيت جن وعين الأسد. واستوعبته نشيطًا في منظّمةِ الكشّافة التي كانت انطلقت عام 1954م وليس مصادفة ففي هذا العام بدأ مخطّطُ إبطالِ العفوِ عن الدروز من التجنيدِ والذي انتهى بالتنفيذ عام 1956م. ولاحقًا عُيّن محمّد كمركّز نادي الهستدروت الأوّل في البلد، بالمناسبة “استُكثِر” هذا الموقع على محمّد فجرّدوه منه لصالحِ ابن مختار.

هذه الحقبةُ الزمنيّة كانت من الأقسى في حياة بيت جن، جنّدت المؤسّسةُ الأبناءَ وأغلقت في وجه الآباءِ بحجج أمنيّة أراضي “الخيط” ( 17,000دونم، حدودُها وادي الحنداج شمالًا وتل الوقّاص شرقًا وأراضي الجاعونة جنوبًا وجبال صفد الشماليّة غربًا) أجودَ أراضي بيت جن الزراعيّةِ والمصدرَ الأساس لمعيشتهم، معنى الإغلاق الأمنيّ في قوانينِ الطوارئ الانتدابيّة- الإسرائيليّة هو أنّ أهالي بيت جن يشكّلون خطرًا أمنيّا بمجرّد التواجدِ والعملِ بأراضيهم حالةُ من التناقضِ الغريبِ العجيب؛ فكيف لا يشكّل وجودُ الأبناء في الجيش خطرًا أمنيًا ويشكّل تواجدُ الأهل في أرضهم خطرًا أمنيّا؟!، علمًا وأنّه لاحقًا أقام الجيشُ معسكرَ تدريب على أرض الخيط، فصار الابنُ المجنّدُ يتدرّبُ في أرض أبيه الممنوعِ من دخولها وفلاحتها!

أهالي بيت جن لم يرفعوا الرايةَ بيضاء بل حمراءَ قانيةً فراحوا يخوضون معركةً قاسية ودامية مع المؤسّسةِ وأزلامِها وعملائِها دفاعًا عن أراضيهم. محمّد وجد نفسَه وفي أوّل شبابِه في هذا المعمعانِ وبطبيعةِ الحالِ انحاز لأهلِه لا بل كان فاعلًا أساسيّا في المعركة، وكنتيجةٍ طبيعيّةٍ انحاز لشعبه وطنيّا. وكان الاختيارُ لا بدّ واقعًا قريبًا أو بعيدًا، فالمؤسّسةُ بصفتها مُشغّلتُه لاحقته لفاعليّتِه وفي الحقلين مهدّدةً إيّاه بعملِه، لقمةِ عيشه، وبين المدِّ والجزر اختار محمّد ال” نحن” وطريقَ التصدّي لمظالمِ المؤسّسة، فهُدّد في الفصل من عمله، وكانت مفاجأةُ المؤسّسة حين رمى في وجهِها استقالتَه التي لم تتوقّعْها على ما يبدو ظنّا منها أنّه سيتراجع كي يحافظَ على وظيفته. وبدأ يعمل كادحًا في الأعمال الزراعيّة في مستوطنة “يسود همعلاه” في الحولةِ صيفًا، وشتاء في بيّاراتِ “جان حاييم” القريبةِ من طيرة المثلّث. وكان محمّد قد انضمّ لفرع الحزب الشيوعي في البلد مع رفاقه الأوائل؛ فايز قبلان ومحسن أبو طافش، ولاحقًا سعيد قبلان وكامل ذيب وغيرهم… فبدأ نجمُ العملِ المعارضِ للسلطة يلمعُ في بيتَ جن ويقودُه محمّد. كما وانضمّ إلى منظّمةِ الشبابِ الأحرارِ التي كان أسّسها طيّبُ الذكرِ الكبيرُ سميح القاسم، وتصدّوا للسلطة ببيان تاريخيّ وزّعوه عام 1965م عشيّةَ الزيارةِ التقليديّة لمقام النبي شعيب (ع) على خلفيّة تسييسِها.

لم تألُ المؤسّسةُ جهدًا كي تثنيَ محمّد عن الطريق التي اختار. والكاتبُ شاهدٌ فتًى على محاولةٍ عينيّة للمؤسّسة لإغراء محمّد بعد أن يئِستْ في ثنيه من خلال وظيفته. كان صيفُ العام 1967 صيفًا حارّا، ليس بسبب نكسة حزيران، ولكن كما كلِّ الأصيافِ في مستوطنة “يسود همعلا” في سهل الحولة. كان محمّد يعمل هنالك عند صاحبِ عملٍ رومانيّ لم يخضعْ وزوجتُه لكلّ ضغوط المخابرات بعدم تشغيل محمّد لديهما وعلى خلفيّة انتمائِهما الحزبيّ السابقِ على ما بدا. وكنتُ، وكثُر غيري من الفتية، أقضي العطلةَ الصيفيّةَ فتًى في الرابعةِ عشرة من عمري في “يسود همعلا” انتظارًا لفرصةٍ سانحة لأيّ عمل يلائم جيلَنا في مزارعها، وكنت ومحمّد نسكن في نفس “الخَرابة” دارٍ عتيقة لمستوطنٍ من أصل كرديّ، ندفع على الليلة ليرة من يوميّة من 14 ليرة لمثلي و-20 ليرة لمحمّد.

كان الوقت ضُحى ومحمّد في عملِه وأنا لم يحالفْني الحظُّ في ذلك اليومِ بمزارعٍ محتاجٍ لعاملٍ فتى، فبقيتُ في الدار، كنت عل ما أذكر متمدّدًا على سريرِ حديديّ عتيقٍ أمام غرفِها انطر حظّي. كانت الدارُ تبعد عن الشارع الرئيسي بضعةَ أمتار ربّما عشرة أو أكثر، ويفصلها عنه بستانٌ تنوّعت فيه أشجارُ الفاكهة. حين وقفتْ سيارةٌ قبالةَ الدار ظننتها فُرجتْ وأنّ مزارعًا محتاجًا عاملًا جاء يفتّش عن ضالّتَه. المفاجأةُ كانت حين رأيت رجلًا من بلدِنا، ومعه رجلان أو ثلاثةٌ لم أعد أذكر، وكنت أعرف رغمَ صغرِ سنّي كما يعرف أهلُ البلد أنّ الرجلَ “شين بيت – فسّاد”، هكذا أطلقوا عليه وعلى أمثالِه من المتعاملين مع السلطة، أطلقوها دون أن أفقهَ أو يفقهَ جلُّ أهلِ بلدِنا أنّ هذه أسماءَ أحرفٍ أولى لكلماتٍ في العبريّة تعني “خدمات الأمن الداخلي – شاباك”، يعني المخابرات.

كان “الرجل” يعرف ابنَ مَنْ أنا كما اعتاد أهلُ بلدنا التعريفَ بنا نحن الأولاد، فبادرني بالسلامِ المقتضبِ عليّ من بعيد، وراح يسألُ عن محمّد. وحين عرف أنّه ليس موجودًا وسيعود لاستراحة الغداء، قال إنّه سيرجع وطلب منّي أن أخبرَه بذلك. وإنْ أنسَ لا يمكن أن أنسى ماذا كان ردُّ محمّد عليّ حين أخبرته، فقد سارعني باسمًا وحسبما أذكر وربّما بالكلمة: “روح سَكْتِر بلا كذب!”، ولم يبدُ عليه أنّه اقتنع باجتهادي الفتيّ لإثباتِ صدقي ولا حتّى بقسمي الغليظ!

قُصرُ الكلام، كان الغداءُ “طوّاية بندورة محيوسة مع بصل”، وما أن بدأنا غمسَ لقمِنا من الخبز “الافرنجيّ” في البندورة المحيوسة الساخنة، وإذ بالرجل يطلُّ عند الباب المفتوح، فسلّم وسارع وقد رآنا نأكل، بما معناه؛ “صحتين… هيّانا نقعد برّة… في كم كرسي… وعلى مهلكو خلّصوا أكل!”.

لم يتحرّك محمّد من مكانه، ولا أذكر أنّي فعلت، لكنّه رمقني بنظرات ليست كنظراته العاديّة باسمًا ودون تعليق. ولمّا انتهينا وقبل أن نخرجَ قال محمّد، وأذكرُ ذلك تمامًا: “بدّي أقعد معهم برّة لكن إذا فاتوا انتْبِه انت ليرموا شي ورقة في الأوظة ورا التخوتة!”. حقيقةٌ لم أفهم القصدَ ولم يكن الوقتُ وقتَ أسئلة، ولحسن أو سوء حظّي لا أعرف، جلسوا برّة، وأنا قريبٌ منهم اللّهم إلّا حين طلب منّي ال-“شين بيت” أن أحضّر فنجان قهوة، أومأ لي محمّد أن أفعل.

كان الحديثُ يدور باللغة العربيّة الطلِقَة رغم أنّ المشاركين الاثنين أو الثلاثةَ الباقين كانوا يهودًا، استغربت أنا الفتى ذلك، لكنّ كثيرًا كهذه وكثيرًا غيرَها ممّا سمعت أو رأيت، أفهمني إيّاه لاحقًا محمّد. ومرّة أخرى قُصرُ الكلام، أنّ الجماعة أرادوا من محمّد أن ينسحبَ من عضويّة الحزب وسيعيدونه إلى عملِه، ولكن هذه المرّة مديرًا للمدرسة الوحيدة في البلدة إذ سيشغرُ الموقعُ مع بداية السنة الدراسيّة لأنّ المدير “أبو جريس” ابنَ الرامة سيخرج للتقاعد.

كان ردّ محمّد بما معناه: “أقبل الإدارة شرط أن أبقى على عضويّتي في الحزب!”

طبعًا ما كان للمبعوثين أن يقبلوا ذلك، لكنّهم وبخبثهم المعهود لم يقطعوها وأبقوا على “شعرة معاوية”، إذ لخّصوا كم فهمت من محمّد لاحقًا: “فكّر وسنلتقي في البلد… وين تحب عند أبو فلان (الحاضر) معهم، أو أبو فلان (سْميّه) الغائب؟!”

ردّ محمّد: “على الشارع العام باب بيتنا!”

ولم يتمّ اللقاء لا عند “أبو فلان” ولا سَميّه “أبو فلان” ولا على الشارع، وظلّ محمّد شيوعيّا ومات شيوعيّا، قبل وبعد أن كان كاتبًا.

**الكلمة هذه خُصّصت للمجلّة الديجيتاليّة لمجموعة ارتقاء الأدبيّة بيت – جن، وبناء على طلبها.

سعيد نفاع

الذكرى الأولى لرحيله جسدًا

15 تمّوز 2022

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*