“يوميات من تل الزعتر”.. حسن عبادي/حيفا

صدرت في السويد مؤخرًا الترجمة السويدية لكتاب “يَوميّاتُ طَبيب في تَل الزّعتر” للدكتور يوسف عراقي، (من مواليد حيفا 1945، لجأت عائلته الى لبنان عام 1948، تخرج طبيبًا من جامعة موسكو في 1974. عاد إلى لبنان حيث عمل طبيبًا في مستشفى مخيم تل الزعتر في فترة حصار المخيم بين 1975 و1976. عمل مُدرّسًا جامعيًّا في كلية الطب بجامعة اوسلو، ويقيم في النرويج منذ العام 1988)، تحت عنوان: “يوميات من تل الزعتر، شهادة طبيب عن الحصار والمجزرة 1975-1976” “Dagbok fran Tal El-Zaatar”(ترجمة يول إيجور حمد ماجنوسون-ابن صديقتي إيفا/سميرة شتّال-حمد، دار سيلندر للنشر).

د. يوسف هو الشاهد الذي رصد الجرائم ووثق مذبحة المخيم ودوّن تجربته والمآسي التي عصفت بالأهل كي لا تضيع الذاكرة، لينقل ما عاشه وعايشه وشاهده خلال عمله كطبيب في المخيم خلال فترة الحصار، محاولًا نقل أحاسيسه على شكل يوميات توثّق حياة الناس اليوميّة داخل المخيّم ساعة الحصار بتفاصيلها وحذافيرها، بما شاهده من مشاهد حياتيّة قاسية عاشها اللاجئون في المخيم،  فكان من القلائل الذين وثّقوا المأساة بتفاصيلها الدقيقة، كما فعل من بعده صديقي د. عبد العزيز اللبدي في كتابه “حكايتي مع تل الزعتر” فجاء توثيقه لها مزيجًا من الشخصي والمهني، بريشة من تواجد في الميدان وأدى رسالته المهنية والانسانية بما أملاه عليه ضميره النابض. 

طلبت من صديقي الزعتريّ د. علي هدروس المشاركة في حفل إشهار الترجمة للسويديّة فلبّى طلبي مشكورًا (رافقه الصديق سعيد هدروس) وقدّم باقة ورد باسم زوجتي سميرة وباسمي للعزيزة إيفا.

كتب لي د. عراقي في الإهداء على الطبعة العربية “اللقاء على أرض الوطن وتحديدًا في حيفا أعطى هذا اللقاء طعمًا ومعنىً آخر… لا يمكن للكلمات أن تصفه”.

وكتب لي في الإهداء على الطبعة الإنجليزية “دماء الشهداء وأنينه وآلام أهله عبرت الأطلسي… وستطوف العالم مطالبة بالعدالة… وملاحقة المجرمين”.

كتبت لنا العزيزة إيفا شتال (الطبعة السويديّة تشمل مقدّمة بقلمها) في الإهداء: “To my dear friends Hassan and Samira. Eva. Sweden, Malmo. 22.06.18”

 

وكتب لي في الإهداء على الطبعة السويدية: “العزيز حسن عبادي صديق اللحظات الفلسطينية التي تنير لنا طريق العودة. جرعة سويدية من الوجع الفلسطيني في سلسة المجازر والمعاناة… العودة قادمة مهما طال الزمن. يوسف عراقي. النرويج 22.06.2022”.

يشكّل الكتاب تحية إجلال وإكبار لهؤلاء الباقين، وحبذا لو تُرجمت هذه الشهادة لكل لغات العالم لمحاولة محاربة تغييب وتهميش المجزرة.

 يُهدي د. عراقي كتابه “إلى شهداء تل الزعتر الذين صنعوا مجدًا… إلى أهلي، أهالي مخيم تل الزعتر الذين حفروا. عميقًا في وجداني”.

استشهد في تل الزعتر أكثر من أربعة آلاف لاجئ ومعدم، معظمهم من الأطفال والنساء والمسنين، ومنهم من توفي عطشًا! وجوعًا! نتيجة لحصار المخيم. سقط المخيم بعد أن تعرّض أهله لويلات وشرعت جرافات الكتائب فورًا بتدمير المساكن المهدّمة وتسويتها بالأرض كي لا يبقى شاهدًا على الجريمة وتم تشريد ما تبقى من لاجئين.

يتحدّث د. عراقي عن المخيم ووضعيّته، وعن الحصار الذي عبّد طريق المجزرة، حيث تم فرض طوق عسكري في الرابع من كانون ثاني 1976 وتبعه حصار تمويني وتزايد الحصار عنفًا بالتدريج حتى بدأ العدوان الغادر في الثاني والعشرين من حزيران 1976 بهجمات القوات الانعزالية اللبنانية مدعومة من حكومة اسرائيل وجيشها، بتواطؤ سوري، سبقها قطع شبكة الكهرباء، وحظر وصول الغذاء ومياه الشرب للفقراء واللاجئين. اجتاحت القوات الانعزاليّة المخيّم يوم 12.08.1976 ونفّذت سلسلة مروّعة من المجازر فسقط المخيم بعد يومين من بدء المجازر!

يصوّر الكتاب تناقص المواد الطبيّة الأساسية: “جاءنا أحد المقاتلين، ذات مرة، وهو يحمل ثوبًا من القماش… وبدأت الممرضات والأهالي يتساعدون في قص القماش، وهكذا وجدنا حلًا لمشكلة الضمادات والشاش”، وحُرِموا من كسرة خبز جافة يسدون بها رمقهم وجرعة ماء تروي ظمأهم!، وقُطعت الكهرباء فابتكروا إضاءة خاصة “عثروا على كمية كبيرة من مادة البرافين، فقاموا بتسخينها وصبوها في زجاجات بعد أن وضعوا داخلها خيوطًا، وبعد أن جفّت كسروا الزجاجات حولها فإذا هي الشموع”، واختفت مياه الشرب “الماء، اخذ يتناقص. وكان كوب الماء الواحد إذا توفر، يدور على أفواه عدد من الحاضرين، كل يتناول رشفة يبلّ فمه، وبوده لو يبتلع كل ما فيه” وحضر الجفاف الرهيب “لقد كانت رهبة موت الأطفال نتيجة الجفاف، بسبب نقص الماء ماثلة أمام أعين الأمهات” ونتيجة ذلك “أخذ الموت ينهش أجساد الأطفال الضعيفة ويصطادهم جماعات” وخيّم شبح الموت على سماء المخيم “وهكذا أصبح الإنسان في تل الزعتر يترقّب الموت، محتارًا كيف سيموت، وأيّ طريقة يختار. هل سيموت جوعًا؟ عطشًا؟ بقذيفة؟ أم برصاص قنّاص؟ وتوزعت أسبابه من شهداء الماء، إلى شهداء الملجأ، وشهداء المتراس والموقع، إلى شهداء الجوع لتغطي دماؤهم الزكية رمال المخيم!

كما ويصوّر د. عراقي معجزة نجاته هو، وخروجه من تل الزعتر يوم سقوطه، في أطول طريق قطعها في حياته وشاهد مئات الجثث الطاهرة للأطفال والنساء والشيوخ على جانبي الممرّ الإجباري وكتب:” مشينا حوالي ثلاثمائة متر، ولكنني أحسست أنها كانت أطول طريق مشيتها في حياتي. كانت جثث الأهالي الأبرياء متناثرة على جانبيّ الطريق. والكثير من بطاقات الهوية الفلسطينية متناثرة حول الجثث. جثث الشيوخ، جثث الأطفال. رأيت جثة امرأة حامل. وقد أطلِقت النار على بطنها لتوها. والدم ما زال ينزف منها. وتتوالى الجثث أمامي والطريق تطول. وتطول. وفي نهاية الطريق، كانت هناك آلياتهم وهم على ظهرها يتلذّذون بمنظر القتلى.”

هناك ضرورة ملحّة لتوثيق روايتنا الشفوية الصادقة، المُهمّشَة والمُغيّبَة والكتاب لُبنة ومدماك أساسي من فسيفساء لم يكتمل، شهادات مَن نجى مِن المجزرة ليروي قصّته وقصّة من استشهد من ذويه لأن المتبقّين من المنتكبين ومن نجوا من براثن الموت يتناقصون ويموتون وتموت معهم حقيقة ما حدث علّها تكون عبرة لمن اعتبر فالذاكرة الجماعية سلاح لتحقيق العدالة!

 يشكّل الكتاب تحية إجلال وإكبار لهؤلاء الباقين، وحبذا لو تُرجمت هذه الشهادة لكل لغات العالم لمحاولة محاربة تغييب وتهميش المجزرة.

هذا الكتاب هو بعض من الحزن الممزوج بالبطولة… حكاية مخيم صمد واستشهد وأرسل لنا رسالة… منها وبها ومعها .. نستمر!

 لن ننسى ولن نغفر!

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*