(أعادة 4 آب 2022، أنظر ملاحظة آخر المقال)
العرب المسيحيّون والعرب المسلمون في الشرق كانوا على مدى القرون توأمين سياميّين حياة وفكرا فرحا وهمّا رغم كلّ التداعيات والتحديّات التي واجهت هذا الشرق بصراعه المستمرّ مع الغرب، ورغم العوامل المحليّة الطوائفيّة. ما نعرفه كلّنا في كلّ أرجاء وطننا العربيّ أنّ التواجد العربي المسيحي في شرقنا في تناقص عدديّ وليس لأسباب بيولوجيّة، ونحن نعرف هذه الحقيقة ونعرف أسبابها ولكنّنا نخاف قول بعض الأسباب جهرا.
هذا التناقص ليس خاصّا بمنطقة أو ببلد وإنما يشمل كلّ أماكن التواجد من العراق شرقا وحتّى مصر غربا مرورا بفلسطين مولد السيّد المسيح (ع) والمسيحيّة ونقطة انطلاقها. وقد طفا الموضوع مؤخّرا وكثرت الاجتهادات فيه لدى الكثير من القيادات العربيّة المسيحيّة في المنطقة والقيادات الدينيّة المسيحيّة حتّى أعلاها، سيّد الفاتيكان.
الحفاظ على التواجد العربي المسيحيّ في المنطقة هو ليس فقط عاطفيّا ومن منطلق كونهم توأما لنا وإنّما كذلك من كون هذا التواجد من مصلحة التوأم الآخر المسلمين على مذاهبهم، وبالذات والإسلام يتعرّض لحملة تشويه منهجيّة تلعب الحركة الصهيونيّة دورا فاعلا فيها.
موضوع هذه المقالة هو التواجد في بلادنا فلسطين، ففيها لم ينج الكثير من المسيحيّين من التهجير النكبويّ في ال-1948 والكثير من قراهم هُجّرت أسوة بالقرى الأخرى وحملوا همّ ونتائج النكبة تماما كما حملتها بقيّة شرائح أبناء شعبنا. لكنّ التناقص في عدد من تبقى منهم في البلاد ممّن تبقى بعد النكبة من أبناء شعبنا، يثير الكثير من التساؤلات التي نعرف إجاباتها وفي الكثير من الأحيان نخاف الجهر بها. الخوف من الإفصاح عمّا نعرفه في هذا السياق حتّى لو كانت معرفتنا منقوصة، عامل مقوٍّ لهذا التناقص وربّما أنّ الانتقال من المعرفة الذاتيّة إلى القول العلن يعزّز هذا التواجد ويوقف الهجرة المتزايدة ويقي البيت.
المعطيات التي نشرتها مؤخّرا دائرة الإحصاء المركزيّة والمعطيات التي جاءت في استطلاع الدكتور جريس خوري ونشرتها صحيفة “كلّ الناس” يجب أن تقلقنا جميعا وتدفعنا للجهر بأسباب أساسيّة ودون مواربة، وانطلاقا ليس فقط من ألم فقدان التوأم حياة وفكرا وإنما مصلحة كما قلت أعلاه. فحسب هذه المعطيات:
في العام 1950 كانت نسبة السنّة من عرب ال-48 %70 والمسيحيين %21 والدروز %9.
في العام 1970 صارت نسبة السنّة %75 والمسيحيين %17% والدروز %8.
في العام 1990 كانت النسب على التوالي %78 ، %13 ، %9. (عدم التناسق بين هذه النسب وما قبلها نابع من شمل سكان القدس وسكان هضبة الجولان في الإحصاء).
في العام 2008 كانت النسب على التوالي %83 ، %8 ، %8.
ومن المتوقع أن تكون العام 2030: %86، %7، %7.
تزايد الأقليّة العربيّة في ال-2008 جاء بالأساس نتيجة طبيعيّة للتوالد والوفيّات 39,000 ولادة و-4,000 وفاة، ونسبته 2.6% في هذه السنة (2011) في حين كان 3.4% بين السنوات 1996-2000 وللمقارنة فعند اليهود كانت النسب على التوالي 1.8% ، 1.7%. أما النسب فيما بين توائم الشعب الفلسطيني فهي كالآتي:
المسلمون: 3.6% في الأعوام 1996-2000 تراجعت إلى 2.8% في العام 2008.
المسيحيّون: 1.9% في الأعوام 1996-2000 تراجعت إلى 1.3% في العام 2008.
الدروز: 2.4% في الأعوام 1996- 2000 تراجعت إلى 1.8% في العام 2008.
نرى أنّه منذ سنوات الخمسين تزايدت نسبة المسلمين السنّة من بين فلسطينيّي البقاء ونقصت نسبة المسيحيّين وحافظ الدروز على نسبتهم أخذا بالحسبان شمل 20,000 درزي في هضبة الجولان المحتلّة وقرابة ال- 250,000 مسلم ومسيحي في القدس الشرقيّة المحتلّة.
في مقالة لي نشرتها قبل مدّة تحت عنوان: “كيف تفكك إسرائيل القنبلة الديموغرافيّة؟” عالجت موضوع هذا التراجع لدى العرب مجتمعين بعمق. وما حداني على معالجتي هذه هو هذا التراجع الكبير في نسبة توأمنا المسيحي، من 21% بعد النكبة إلى 8% عام 2008 والمتوقع ل-7% عام 2030. الأرقام أعلاه تفيدنا أنّ نسبة الزيادة الطبيعيّة المنخفضة عند هذا التوأم لا تودي ولا بأيّ شكل من الأشكال إلى هذا التدني بمقدار الثلث.
ما نعرفه هو أنّ السبب الرئيسي لهذا التراجع هو الهجرة الواسعة بين المسيحيّين والقليلة نسبيّا عند السنّة وشبه المعدومة عند الدروز. والسؤال هو: هل هذا نابع ممّا نقوله ونفصح عنه مثلا عن إمكانيّة أوسع لديهم للاندماج في المجتمعات الغربيّة لأسباب دينيّة؟ أو أنّ التفتيش عن مستوى حياة اقتصاديّ أفضل هو السبب؟
ما من شكّ أن نسبة المتعلمين بين المسيحيين كانت وما زالت الأعلى بين كلّ توائم أبناء شعبنا ويكفي للدلالة أنّ نسبة الحاصلين على شهادات ثانوي مؤهّلة للجامعات للسنة الدراسيّة 2007\2008 وصلت بين المسيحيّين إلى 53%، بينما وللمقارنة وصلت عند المسلمين إلى 31% وعند الدروز إلى 37%. أما عند اليهود فإلى 48% وهذا يعود لشمل الوسط الديني المتشدد وبلدات التطوير ففي البلدات المتمكنة تصل النسب إلى فوق ال80%. فمبدئيا هذا التحصيل يؤهل الشباب العرب المسيحيّين في كلّ المجالات فلماذا يفضلون مع ذلك الهجرة؟
على ضوء ذلك فالأسباب المعروفة والمتداولة والمُفصح عنها هي جزء من السبب ولكن السبب الأساسي والحقيقي لهذه النتيجة متعلق بالشعور بالاغتراب والأكثريّة هي المسؤولة. لقد فقد شعبنا لفترة توأما آخر هم العرب الدروز لأسباب كثيرة سلطويّة وذاتيّة، ولكن لا يمكن أن نبقى طامري الرؤوس في الرمال معفيين أنفسنا كأكثريّة سنيّة من المسئوليّة إذ تساوقنا مع فصل التوأم هذا، وحتى عندما يحاول وبجدّ الرجوع إلى مكانه الطبيعيّ لا نجد الاستعداد المطلوب لعودته إن لم يكن أكثر من ذلك. فهل نحن في طريق فقدان التوأم الآخر العرب المسيحيّين؟!
في استطلاع للرأي نشر مؤخّرا كما ذكرت للدكتور جريس خوري جاءت النتائج:
72% من الشباب المسيحيّين يشعرون بالضياع من حيث الهويّة والانتماء.
46% يرون في المركب المسيحي أوّلا في هويتهم.
29% يرون في المركب العروبي أوّلا في هويتهم.
10% يرون في المركب الفلسطيني أوّلا في هويتهم.
و-83% يرون أنّ العلاقات مع المسلمين والدروز قد ساءت في السنوات الأخيرة، و-61% يرون أنّ التعصّب الديني لدى الطوائف ينبع من الجهل الذي يعاني منه كلّ طرف في نظرته للآخر.
اعتادت قرانا المتجاورة قبل ال-48 ونتيجة لظروف الحياة وضعف الحكم المركزي أن تعقد تحالفات بينها للدفاع عن أنفسها، ولم تكن لهذه التحالفات صبغة دينيّة والتاريخ القريب يعرف “حلف الدم” الذي كان بين بيت جن الدرزيّة وسحماتة المسيحيّة وعرّابة السنيّة. فكيف يصير 83% من الشباب المسيحيّين يرون أن العلاقات ساءت؟ وأكيد أنّ نسب متقاربة كنت ستجدها عند الشباب السُنة والدروز لو استطلعت آراءهم!
الدكتور جريس يعزو هذه النتائج فيما يعزو إلى أسباب تقليديّة نعرفها مثل مناهج التدريس وغيرها، ولكنه يشير وب-“حياء” إلى دور القيادات العربيّة المقصّر في تعزيز الشعور بالانتماء وإلى تنامي الحركات الإسلاميّة التي تتوجه فقط للمسلمين. يمكن أن نتفهّم هذا “الحياء” عند الدكتور جريس لكنه زاد عن الحدّ في حيائه.
النتائج أعلاه هي تماما التي أرادتها الحركة الصهيونيّة وقبل قيام الدولة بكثير، ففي عام 1920 وإثر انتفاضة أبناء شعبنا التي سُميت “ثورة القدس”، زار وايزمن رئيس المنظمة الصهيونيّة البلاد متفقّدا باحثا عن السبل الكفيلة بتسهيل قدوم اليهود، وقد وجّه لجنة المندوبين في المنظمّة الصهيونيّة لتحضير برنامج عمل بين عرب فلسطين جاء في هذا البرنامج:
“يجب تنظيم أواصر صداقة مع العرب وبثّ روح العداء بين المسيحيّين والمسلمين وتعميق الفارق في المجتمع الفلسطيني عن طريق إبعاد البدو عن باقي العرب وزرع الفتن بين المسيحيين والمسلمين والدروز”.
عدوّنا لم ينوِ لنا الخير ولا ينويه وهذا أمر مفروغ منه تاريخيّا وحاضريّا ومستقبليّا كذلك، ولكن هل نحن ننوي الخير لأنفسنا؟
في مذكراته يروي المغفور له الحاج أمين الحسيني كيف كان الإنجليز يطلقون سراح مجرمين من السجون ويسلّحونهم ويوجّهونهم للقيام بالاعتداء على المسيحيّين ويروي حادثة عينيّة وكيف أوكل المجاهد عبد القادر الحسيني القضاء عليهم، وليس الحال بمختلف اليوم وإن اختلفت طرقه وأدواته.
المعطيات أعلاه لا تشير إلى أنّنا ننوي الخير لأنفسنا ويجب أن نقولها وبدون حياء ولا مواربة ولا تورية ولا ديماغوغيّة: إنّ فقداننا هذا التوأم نابع كذلك وبالأساس من تعاملنا نحن أبناء المذاهب الأخرى مع توأمنا هذا. فما حدث في الناصرة في قضيّة شهاب الدين وما حدث في المغار وعيلبون ومؤخّرا في شفاعمرو من اعتداءات وما حدث ويحدث في طرعان واعبلين من صراعات، وهكذا في نجع حمادي في مصر ونينوى في العراق، عوامل أساسيّة إن لم تكن الأساس في فقداننا هذا التوأم الهام جسديّا ومبدئيّا ومصلحيّا كذلك، وفقط لأنّه “شريك” مع الغرب في الانتماء الدينيّ وكأنّنا بذلك نقتصّ من الغرب ولكن على طريقة “ما يقدر على الثور فينطح العجل”، لكنّ هذا ليس معناه أن يتقوقع كذلك هذا التوأم اجتماعيّا وحتى اقتصاديّا ومهما كانت الظروف، ففي الكثير من الأحيان تُسمع هذه الادعاءات تجاهه ودون علاقة للاعتداءات أو الصراعات وفيها الكثير من الصحّة.
لا يقلّ عن هذه الأسباب الخطاب الدينيّ الإسلامي المحض كذلك في المناسبات الوطنيّة لدى الكثير من القيادات الإسلاميّة الوطنيّة وهذا ما أشار إليه الدكتور جريس ولكن كما قلت ب”حياء”، ولدى الوطنيّة العِلمانيّة وحتى القوميّة منها. ممّا يولد تساؤلا شرعيّا لدى أبناء هذا التوأم الوطنيّين منهم قبل الآخرين: إذا كان لا بدّ فلما الاقتصار على جانب؟!
الحل هو تعزيز التواصل الوطنيّ فوجودنا في بلادنا إن لم يكن الجسديّ فعلى الأقلّ شكل هذا الوجود هو المهدّد من أعدائنا، فلا يعقل أن يكون مهدّدا كذلك من داخلنا بخلق الاغتراب فيما بيننا بأيدينا، اعتداءات وتغييب من ناحية وتقوقع من الأخرى.
مواطن وأركان قوتنا في الحفاظ على تعزيز شكل وجودنا المُهدّد هما تواصلنا اجتماعيّا واقتصاديا وسياسيّا خطابيّا، وفوق كلّ ذلك وطنيّا بتغليب المشترك بيننا فغير المشترك هو بيننا وبين الله و”الدين لله أم الوطن فللجميع”، فلا يعقل أن نهدم هذين: الموطن والركن بأيادينا والمسؤوليّة على كل التوائم ولكنها أولا على عاتق التوأم الأكبر.
النائب المحامي سعيد نفّاع
صيف العام 2009
ملاحظة: تمّ توزيع المقالة وإعادة نشرها على منصّات التواصل لنادي حيفا الثقافي عقب أمسية 4 آب 2022 عن: عراقة الحضور المسيحي في المشرق العربي.
تعقيب خلود سريّة فوراني
5 آب 2022
الأستاذ المحامي سعيد نفاع
تحية طيبة وبعد،
سررت بلقائك في أمسية الأمس بموضوع عراقة الحضور المسيحي في المشرق العربي وشكرا لمقالتك بالموضوع منذ العام 2009 والتي لم يتسن لي قراءتها من قبل.
هذا الصباح، عندما قرات مقالتك ” التوأم العربي المسيحي.. ما نعرفه ونخاف أن نجهر به” قررت أن أكتب لك تعقيبا آمل أن تجد به ما يعنيك:
أولا وقبل أي شيء كل التقدير لك على مقالة تنم عن وعي وطني بعيد عن التحزب والتعصب وبموضوعية تامة ولا يمكنها إلا أن تترك قارئها للتفكر وإعادة ترتيب الأوراق من كلا التوأمين عامة والمسلم-أو السني كما أسميته – خاصة.
الإحصائيات التي اعتمدتها في المقالة (د. جريس خوري) مثيرة وأثارت فضولي
والمعلومات حول نقص نسبة المسيحيين ونسبة المتعلمين منهم مقابل النسبة لدى التوأم، والهجرة إلى الغرب/المسيحي وموضوع الاغتراب وغيرها من المقارنات بين التوأمين..
أنت بمقالتك لمست الجرح وأتيت بالبلسم دون تورية أو مواربة – كما ذكرت.
تطرقت لدور الحركة الصهيونية منذ البداية حتى اليوم في تفكيكنا وبث روح العداء بين المسيحيين والمسلمين وسياسة “فرق تسد” لكن لا نعفي أنفسنا من تحمل مسؤولية هذا التفكك والتشرذم. الخطاب الديني من جهة وشعور القهر لدى المحكوم والدونية من جهة أخرى…
نقاط هامة جدا شددت عليها بما فيها جملة الاختام “علينا تعزيز التواصل الوطني…. فهذا الوجود المهدد من أعدائنا لا يعقل أن يكون مهددا من داخلنا بخلق الاغتراب…”
صدقتَ وأصبتَ.. لا يعقل أن نقصي بعضنا البعض.. إقصاء داخلي فوق الإقصاء الذي تمارسه المؤسسة ضدنا..
شكرا لكل كلمة وفكرة ورسالة تحملها مقالتك..
كنت أتمنى لو ألقيتها في الأمسية على أسماع الحاضرين ليكتمل بها المشهد .
ملاحظة هامشية:
لماذا استعملت مصطلح ” السنّة” ولم تستعمل ” المسلمين”؟.
مع العلم أن التصنيف سنة/شيعة غير وارد في بلادنا فلسطين كما في العراق وإيران.
دام عطاؤك الفكري ودمت بخير
مع احترامي،
خلود فوراني