مداخلة سعيد نفّاع في أمسية رواية العاصي للأسير سائد سلامة

أكبرُ وأكثرُ من مداخلة!

أسرى يكتبون الأمسية رقم 25 – رابطة الكتّاب الأردنيّين

25 تمّوز 2022

أن يقيّضَ لك أن تتداخلَ في إبداع أسيرٍ ليس أمرًا مفروغًا منه بحدّ ذاته، وأجدُني أعود اليومَ وسائد سنوات إلى الوراء، حينها كتبتُ في سائد:

“أن يُقيّضَ لك أن تكتب تقديما لإبداع وجد الطريق إلى الحريّة، وما زالت الحريّةُ أمنيةً بعيدةَ المنال للمُبدعِ، الأسيرِ، ليس بالأمر التقليديّ ولا العاديّ. ولكنّك تجد نفسَك مفعما بكلّ الأحاسيسِ الجيّاشةِ والحيرةُ سيّدةُ عقلك وقلمك.”

هذا ما كتبت حين وجدتُّني أقدّم لباكورة سائد القصصيّة، “عطر الإرادة”، وأضفت:

“تعرّفت على المبدعِ سائد سلامة أسيرَ حريّة في القسم الأمنيّ في سجن الجلبوع، بدءا كزميل سجن كغيره من عشرات النزلاء في القسم، وحين جاءني يسألُني وبعضُ تردّد على محيّاه قائلا وببعض تصرّف: “استاذي أنا أخربش وإذا ممكن تراجع لي ما أكتب وتعطيني رأيك”. وهكذا صار، وفعلا وجدت أمامي نصوصا أدبيّة راقية بحاجةٍ لبعض تشذيب، وبعد أشهر قلتُ له: “إنّ ما تكتبه أبداع راقٍ ويستحق أن يرى النور”. مرّت الأيّامُ وتحرّرت مخلّفا ورائي ليس فقط سائد وإنّما عشراتٍ من نصوصه التي كنت أتمتّع بقراءتها ومراجعتها.”.

وأردفت: ” وكانت المفاجأةُ إذ زارتني عائلتُه وفي جرابها النصوصُ…، ولكنّ الأعزَّ على قلبي كان طلبا من سائد أن أراجع وأقدّم للكتاب المنوي إطلاقُه لفضاء الحريّة الذي ما زال بعيدا عن سائد…”.

وكتبت: “وها أنا أفعل وتتقاذفني أحاسيسٌ لا أستطيع لها تعريفًا.”

وأكتب اليومَ وأنا أمام رواية “العاصي” وقبل أن تصلَني ولكنّي أكتب واثقًا مطمئنّا، كيف لك أن تُعرِّف أحاسيسًا وأنت تقف أمام كلماتٍ أطلقها سائد إلى فضاء الحريّة يقول فيها:  

“لعلّ هذا بالضبط ما جعلني أبتكر مساراتي الذاتيةِ الخاصّة في خضمّ التقاطعات الموغلةِ في سلبيتها والتي يفرضها السجن كنمط حياة، في البداية كنت ساذجًا حقًّا، إذ اعتقدت بأنّ السجنَ كما يصفونه تجاوزًا، بالمدرسة أو الجامعة التي تُخرّج المناضلين، ولكنّني فيما بعد، أدركته على حقيقته، وبأنّني طالما أقبع فيه فسأظلّ أدركُه وسأظلّ أعاود ملائمةَ ذاتي له من جديد، ولكن من وجهة نظري الشخصيّة. لذا قررت أن أواجهَه بانتزاعه من داخلي، حتّى وإن كنت أعيش فيه، فالقبّعات التي ألبسوني إيّاها سوف لن تأسرَني من ذاتي، وسأظلّ أنتزعُها في كلّ يوم وفي كلّ حدث وفي كلّ موقف، وسأحوّلها الى شموع تنتثر على مسار السنين فتضيئه، إلى أن يحينَ موعدُ الإفراج.”

ووجدتّني أخلص إلى القول: “الأسير ليس فقط مناضلا ورمزا للتضحيّة بأغلى قيمة لدى الإنسان، حرّيتِه. الأسير صاحب القضيّة شعلةٌ من الإنسانيّة لا تنطفئ حين يتمنطق البندقيّةَ ولا تنطفئ في ظلمات أعتى الزنازين. هذه الإنسانيّةُ بكلّ أشكالها كانت حبلَ الوريد الرّابطَ بين كلّ النصوص التي أبدعها سائد وراء القضبان.”

بهذه الكلماتِ استهللتُ تقديمي ل-“عطر الإرادة” وأنهيته، وها أنا أجد نفسي أكثرَ فعومةٍ وأحاسيسي أكثرَ جيشانٍ وأنا أتداخل حول هكذا إبداعٍ في غيابِ المبدع. وليس لذلك فقط، بل لأنّني حين كتبت التقديمَ وحين كتبت هذه المداخلةَ كان ذلك الشابُ الأسمرُ الآخذُ سمرتَه من جبال القدس الشرقيّة، يتداخل معي بين الأحرف، يتداخل ونحن نلِفّ في “الفورة” لفّةً وراء لفّةٍ نقطعها مُقطّعين معها أحاديثَ في السياسةِ والأدبِ والحياةِ الأسيرة، يتداخل معي وهو يجاريني ونحن نمارس الريّاضة وهو الشابُّ تماما من جيل بكرَي التوأمين (التوأم)، يتداخل معي ونحن نقرأ سويّا نصوصَه التي أبهرتني وأبهرني أكثرَ إنسانيّتُه وتواضعُه ودماثةُ خُلقِه.

قلتُ سابقًا في ندوة إشهار: “لا تتوقّعوا منّي مداخلة في أدب السجون إلّا لمامًا… (ولا تتوقّعوا ذلك منّي الآن)، كنت قرّرت حينها ومع سبق إصرار وها أنا أعود على قراري، أن أتركَ للنقّاد تناولَ المولودِ الذي بين أيدينا أدبيّا إبداعيّا، وأن أتناولَ أنا بالأساس، سيرةَ الولادةِ وعسرَها والتي آمنت دائما أنّ مثلَها لا يمكن أن يتعسّرَ بعد أن استطاعت أن تشقَّ ناصيةَ الطريقِ الوعرة، جدرانَ السجون كاشحةَ الألوان، إلى أن واكبتُها لألمِسَ كم هي معسّرةٌ رُغم سلاستِها الطبيعيّةِ المفترضةِ، وليس العسرُ فيها وإنّما لعسرٍ في عقلِ وقلبِ قابلاتٍ يجب أن يحملن مثل هكذا مهمّةٍ، ودون منّة.

وأجدُني اليومَ أعود لبعض ما ساورني وقطع عليّ انسيابَ قلمي حين كنت أخط، إن صحّ التعبير، فاتحةً للمجموعة وليس صدفة أسميتها “أكبرُ وأكثرُ من تقديم”، قطعَه عليَّ إنسانيّةُ سائد الطاغيةُ فكتبت:

“سائد لم يقفْ عند استلالِ كلِّ ما في الأسير من إنسانيّة سلاحا في الصمود في وجه السّجان وفقط، سائد جعل منها أيقونةَ تفاؤلٍ تزيّن طريقَ الانتصار. وليس ذلك وحسب، فبإدراك الواعي قارب الإنسانيّةَ في ضعفها…”

عندما أقول؛ قارب الإنسانيّةَ في ضعفها، أعني أن غالبيّةَ أدب السّجون، الذي قرأت طبعا، يصوّر بطولاتِ الأسرى. الأسير بطلٌ لا شكّ ولا ريب، ولكنّ الأسيرَ إنسانٌ يحزن ويضعف ويتمزّق ويسأل ويتساءل ويبكي على أطلالٍ حينا ومن عذابٍ أحيانا، وهذه المحطّاتُ في سنيّ أسرِه كثيرة، وعلى هذه المحطّاتِ وقف سائد.

ووجدتُني، ومن هذا المنطلق، أضيفُ خلاصةً للقول في التقديم، والتي جاءت أعلاه وأرى أن أكرّرَها:

“الأسير ليس فقط مناضلا ورمزا للتضحية بأغلى قيمة لدى الإنسان، حريّتِه. الأسير صاحبُ القضيّة شعلةٌ من الإنسانيّة، لا تنطفئ حين يتمنطق البندقيّةَ ولا في ظلمات أعتى الزنازين. هذه الإنسانيّةُ بكلّ أشكالها كانت حبلَ الوريد الرّابطَ بين كلّ النصوص التي أبدعها سائد وراء القضبان، بمواطنِ قوّتها وبمواطنِ ضعفها.”

ودّعت سائد في الأسر على وعد أن ألتقيَ كلماتِه طليقةً حرّةً وأن أفعلَ ما أستطيعُ إلى ذلك سبيلا لإطلاقها تُحوِّم في سماءِ الوطنِ مكانِها الطبيعيّ، خصوصا وبعد أن سمعت منه عن التسويفاتِ التي لا أولَ لها ولا آخر. ولم تطُلِ الأيامُ وما أن نفضتُ عنّي غبارَ “القواويش”… حتّى بدأت رحلةُ “توليد”، هذا ال”أقلّ الواجب”… إلا أنّه سريعا تبيّن أنّ “أقلُّ الواجب” تأكلُها الأيامُ والشهورُ ببطءٍ وتلذّذٍ ربّما، إلى أن ضاعت ولم يبقَ منها ما يؤكلُ.

إنّها فرصةٌ اليوم كيّ أعود وأؤكّد ما كتبت حينها، فكتبت: “أسوق هذا الكلامَ لا لأنغّصَ جمالَ ليلةِ فرِحٍ، ولا ك-“النائحة في فرح”، وإنّما صرخةَ تساؤل في وجه كلّ القيّمين وذوي الشأنِ على الكلمةِ الإبداعيّةِ الفلسطينيّةِ بشكل عام، واجبًا وليس منّةً، وبالذات تلك الوليدةِ خلف القضبان. فأين القيّمون من وزارات واتّحادات كتّاب والكتّاب من ذلك؟!

التساؤلُ كلّ التساؤلِ الأكثرُ من شرعيّ والأكثرُ من مقلقٍ: هل تصحّ في تعسّرِ ولادةِ أجنّتنا التي تُخصّب خلف القضبان بالدّم والدمع، “المقولةُ الأميركيّة عن “فحول” الزّنوج ترجمةً حرفيّةً: “الزنجيُّ فعل ما هو مطلوبٌ، الزنجيُّ يستطيع أن يذهب”؟!

“الأشقياءُ في الدّنيا كثر، وليس في استطاعة بائس مثلي أن يمحوَ شيئا من بؤسهم وشقائهم فلا أقلّ من أن أسكبَ بين أيديهم هذه العبراتِ علّهم يجدون في بكائي عليهم تعزيةً وسلوى.”

هذا ما كتبه سائد في إهدائه. هذا ما قرأتُه بعد أن كتبتُ ما كتبت في التقديم. أمثلُ هذا الوليد، “العبراتُ تعزيةً وسلوى للأشقياء في الدنيا”، كان على ولادته أن تتعسّر، ويدوم تعسّرُ ولادة الأشقّاء الأصغر وهم كُثُر؟!

هل هنالك ما هو أسمى طبيعيّةً من توليدِ هكذا مولود لا بل الاحتفاءِ به احتفاءً خاصّا يليق؟!

هنالك من يجب أن يدركَ أن الكلمةَ المنتصرةَ على الأسلاكِ والقضبانِ والجدرانِ لن تهزمَها كلّ بيروقراطيّات الدّنيا!

وهنالك من يجب أن يعتذرَ من عبرات سائد وبقيّة “السائدين” وراء القضبان، التي تُسكب تحت أنوار الزنازين الباهتة حين لا تجدُ من يمسحُها عن وجناتهم!

هذا الاعتذارُ يزداد طلبُه زخما حين نقرأ في نصّ “عطر الإرادة”:

“أية خسارة؟ سألتْ بنبرة جادّة… الخسارةُ أنّه لا يمكنكِ أن تشمّي رائحةَ العطر الفاخر الذي وضعته اليوم خصّيصا للقائِك. انفجرت عنها ضحكةٌ مباغتة… أردت أن ألتقيك في اللازمن. قلت لنفسي كم جميلٌ أن يمنحَكَ القدرُ فرصة أخرى كي تعيش في الزمن الذي فرّ منك يوما. في غمرة المستحيل حاولت أن أبحثَ عن الممكنِ في أن أمنحكِ شيئا من إحساسي الجميلِ الآني. لكنّه خرج مبتورا وملتبسا بالشكل الذي رأيتِ، حتّى هذه الأمنيةُ التي حاولت أن أحتال بها على الواقع لم تُفلح… تذكّرتْ كيف كتب لها يوما عن كيفيّة صهر الوعي الذي يُمارَس بحقّ الأسرى، كيف يغدو التعذيب مبضعا ناعما يشقّ الجراح دون أن تنزف ودون أن يترك أثرا لاعتمال الجرح في الجسد، أصعبُ عذاب هو حين تشعر بالألم لكنّك لا ترى شاهدا على عذابك… جراحٌ دون دماء… ألمٌ دون جراح. حتّى أنت نفسُك تغدو ويراودك الشكُّ فيما تشعر، فتظلَّ حائرا تتخبّط في دائرة اللايقين، وفي هذا عذاب أكبر.”

ويختم: “سيكتب لها في أول رسالة بعد تلك الزيارة… وكان ضمّخ أوراقَها بعطر ال C. k.  المتواضع. وأكمل بسطورها ما حجبته الإرادة التي تتحكّم “ظنّا” بالزمن على اختلاف أشكاله. “فأيًا يكون العجز، فإنه لا يكمنُ إلا في النفوس المنكسرة”، مثلما كتب لها.”

أبمثل هكذا مواليدَ يجب أن تتعسّر الولادة؟!

تساءلت حينها وها أنا أكرّر السؤال!

وأضيف: أقلُّ الواجب هو أكبرُه وفوق كلّ الواجبات!

سعيد نفّاع

الأمين العام للاتّحاد العام للكتّاب الفلسطينيّين – الكرمل48

25 تموز 2022

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*