شاركت يوم الأربعاء 06.07.2022 بالاحتفاء بمولود آخر للحركة الأسيرة؛ للاحتفاء بنطفة محرّرة كبرت ونمت ونضجت وها هي بيننا في ديوان شعر بعنوان “أنا سيّد المعنى” للأسير ناصر الشاويش.
نظّم اللقاء مركز يافا الثقافي في مخيم بلاطة بالتعاون مع مبادرة “من كل أسير كتاب” تزامنًا مع الذكرى الخمسين لاستشهاد الأديب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني.
ابتدأ الحفل الذي أدرته بالوقوف على أنغام السلام الوطني الفلسطيني، وقراءة الفاتحة على أرواح شهداء الحركة الأسيرة والشعب الفلسطيني، وألقى تيسير نصر الله، رئيس مركز يافا الثقافي، كلمة ترحيبية نيابة عن إدارة المركز وكافة العاملين فيه رحب فيها بالحضور، وأشاد بالدور الذي يلعبه الأسرى في رفد الحركة الأدبية الفلسطينية بالإنتاج الأدبي والشعري، وشكر مبادرة “من كل أسير كتاب” التي أخذت على عاتقها نشر إنتاج الأسرى، ودعا الأسرى إلى توثيق تجاربهم الشعرية والأدبية كما فعل الأسير ناصر الشاويش.
وألقى منيب شبيب، مدير هيئة شؤون الأسرى والمحررين في محافظة نابلس، كلمة الهيئة حيا فيها الأسرى، وشكر المنظّمين على احتضان الفعالية، بينما تعذّر حضور السيد رائد عامر من نادي الأسير.
تبيّن لي أنّ الكتابة خلف القضبان متنفّس للأسير، يحلّق من خلالها ليعانق شمس الحريّة المشتهاة، حريّة مؤقّتة عابرة تمدّه بالأمل والعزيمة.
التقيت الأسير ناصر جمال موسى الشاويش في سجن ريمون الصحراوي، لازمته نظرة خجولة وحدّثني عن رحلته مع الشعر والرسم؛ إصداراته الأولى؛ “طقوس تمّوزيّة”، “للقيد ذاكرة وخنجر”، و”ذاكرة البنفسج” وله قصائد بصوته وحين صدر الديوان الأول شعر “وكأني روّحت”.
تناولنا مشروعه الثقافي، فالكتابة تنفض عنه غبار السجن، ويكتب المخطوطة 7-8 مرات خوفًا من مصادرتها أو ضياعها في طريقها إلى خارج السجن، والكتابة خلف القضبان ليست بترف وبذخ، بل تكتب بحروف من لوعة ودم قلب مجروح.
كانت المداخلة الرئيسة للروائي مصطفى عبد الفتاح، ابن قرية كوكب أبو الهيجا الجليليّة، حيث تناول الديوان وجاء فيها : “ناصر الشاويش، هذا الشاعر المرهف، مسكون بقضيته ويعيش احداث وتفاصيل نكبته، وهو ملتصق بهويته، مجبول بالنّضال من أجل عدالتها، تلاحقه كظله، تكاشفه بعد كل فعل، تطرح عليه أكثر الأسئلة الحاحًا، تعاتبه على كل هفوة، يقف بوجه الرّيح، ويقاوم بصدره العاري، ينظر اليها من خلال ذرات تراب الوطن، وبقايا تراثٍ دمّرته أيدي الغدر، فحفظه برمش العين، واحيانًا ينظر اليها من خلال تاريخٍ كتبوه له بحبرٍ سري، ولغة مزَّقتها سنين الاغتراب، فيمسك ريشته ويخط تاريخه بدمه القاني، فيفجِّر بركان غضب في وجه مغتصبيه. هو يعرف ان كتاب النكبة لن يغلق حتى يوقع بدم آخر شهيد، وبقلم آخر اسير في سجن الاحتلال.” كما وقرأ قصّة مؤثّرة تحمل عنوان “خمس دقائق هزّت كياني” من وحي الديوان ورسالة بعقها ناصر مرفقة بقصيدة له.
حدّثني ناصر عن قنّير المهجرة، بلدة الآباء والأجداد، وحلمه أن يكون حفل إطلاق وإشهار ديوانه هذا على أراضيها، رغم القيد والسجّان والمحتلّ، ما زال سيزيفًا يحملها على كاهله مبتسمًا: “أنا قنّيري وأفخر!”، متشبّثًا بالأمل والعزيمة والإصرار على ملاقاة الفرج القادم، ودلّت (يعني: حذف) الخسارة من معجمه اللغويّ:
أعواد الثقاب
ماذا سنخسر إن خسرنا؟
سوف نخسر ذُلَّنَا، والقَيْدُ والموتَ البَطيء
وسوف نخسر بُؤْس خَيْمَتِنَا
وطعم غُربتنا، وننسى فوق ما ننسى
خناجر أُغمِدَت بِظُهورِنا من جيش أمَراء الجزيرة
أو دُوَيْلات السَّراب
هذا وكتب الأسير حسام زهدي شاهين من سجن نفحة: “اليوم استطاع صديقي حسن عبادي ومن معه من أحبة وأصدقاء، بكل حنكة وذكاء من إحالة قنّير المهجّرة إلى حلبة مصارعة، يتصارع فيها التاريخ الحقيقي والطبيعي مع التاريخ المزوّر والاصطناعي، وهم يدركون تمام الإدراك بأن إمكانية انتصار الآلة على الطبيعة، إمكانية واردة جداً بحكم التقدم التقني والقوة، لكنهم في ذات الوقت يعون تماماً بأن طرح الحقيقة كما هي، وببساطة مجردة أمام الرأي العام الدولي والإقليمي، أبلغ من كل الفذلكات والخطابات الطنانة، وأعمق تأثيراً، فلا أحد حول العالم يمتلك ذرة إنسانية واحدة، يمكنه/ها أن يتعاطف مع الجرّافة ضد الشجرة، ولا مع البندقية ضد الحياة، ولا مع القاتل ضد الضحية، ولا مع اللص ضد المسروق، ولا مع المستعمر ضد المُستعمَر والمشرد من وطنه، ولا مع الكراهية ضد الحب، هذه هي النكبة، وهذا ما ألحقته بشعبنا من ظلم ودمار، هذه هي هويتها القاسية والمؤلمة، الهوية التي يستحيل معها، مهما طال الزمن، أن تحل مكانها هوية “الاستقلال” لكيان طارئ وغاصب مهما بلغت قوته”.
وتلتها مداخلة للناقد رائد الحواري الذي يواكب إصداراتهم ويتناولها بتحليلاته النقديّة، عدا عن ملاحظاته وإرشاداته حول المخطوطات عنونها “تعدد المهارات الشعرية في ديوان “أنا سيد المعنى“، وجاء فيها “الشعر لا يأتي إلا من شاعر، والشاعر هو أكثر إحساسا ورهفه ومقدرة على التعبير عما يريد/يشعر به، كما أنه حامل هموم الأمة ورافع رايتها، مجسدا آمالها ومعبرا عن روحها في الحياة، هذا هو الشاعر، من هنا ليس لأي شخص يمكن أن يكون شاعرا، وأن يأتينا ديوان من خلف القضبان والجدران ورقابة السجان، ما هو إلا تأكيدا على الروح الأمة في الحياة، فالشاعر ناصر الشاويش بديوانه “أنا سيد المعنى” يعطينا نموذجا على مواجهة التحديات وممارسة الحياة بشكل متألق، ففي هذا المنجز الشعري نجد مجموعة قضايا، لكن الأهم هو الطريقة التي قدمت بها.”
كتب لي ناصر: “اندلعت انتفاضة الحجارة المجيدة في عام 1987، وكنت انا وأخي خالد وأخي موسى الذي استشهد في ذلك الوقت من أوائل المنخرطين فيها، وما زلت أذكر كيف كان اخي الشهيد موسى يقول لي ونحن نرشق وجه المحتل بحجارة فلسطين أن كل حجر نقذفه بوجه المحتل سوف يقربنا مترا آخر من قنير، وكنت مع رغم صغر سني آنذاك احرص إن أرشق المحتلّ بأكبر عدد ممكن من الحجارة، وأحسِب الأمتار التي تقربنا فيها من قنير بعدد الحجارة اليومية التي اقذف بها وجه المحتل القبيح.
في الانتفاضة الثانية عام 2000 قال لي اخي خالد ربما لم يعد الحجر كافيا ليقرّبنا من قنّير كما اعتقَدَ اخونا الشهيد موسى، وأصبحنا انا وخالد من أوائل المطاردين والمطلوبين للاغتيال من قبل ناهبي قنير وسالبيها. وها نحن اليوم نواصل المسيرة نحو قنير انا وأخي خالد من داخل الأسر، هو نجى من محاولة اغتيال فاشله اقعدته على كرسي الشلل والكرامة الأبدية قبل أن يتم اعتقاله والزج به في عيادة سجن الرملة منذ سبعة عشر عاما، وحكم عليه بالمؤبد لمده عشرة مرات بالتراكم، وانا أقبع منذ عشرين عاماً في الأسر مع احكامي الأربعة المؤبدة.”
القت الطفلة رفيف سمودي (مشاركة في نادي مخيم العودة) كلمة الأسير ناصر الشاويش جاء فيها: “اليوم اخوتي واخواتي الحضور، بفضلكم وبفضل وطنيّتكم العالية وحضوركم اللافت تنتصر القصيدة على فضاءات السجن الضيقة وينتصر الشاعر الأسير على عتمة وضيق زنزانته وتنتصر قنّيرعلى كل محاولات شطبها من قاموسنا وذاكرتنا الفلسطينية، شكرا اولا وقبل كل شيء لأخي الحبيب المحامي الحيفاوي حسن عبادي ولكل من أصر أن يشاركنا اليوم عرس انتصار المقولة الثقافية والأدبية على آلات حربهم العسكريّة وعلى سجونهم التي ارادوها لنا مقابرَ للأحياء، فجعلناها ساحات للاشتباك السياسي والثقافي مع المحتل، ولتأصيل روايتنا الفلسطينية في مواجهة رواية صهيونية لقيطه لن تجد لجذورها فرصة تنمو فيها على أرض آبائنا وأجدادنا.”
والقت خلود الشاويش (شقيقة الأسير ناصر) كلمة العائلة شكرت فيها القائمين على هذا الحفل، وقالت إن ناصر سيكون سعيدا عندما يعلم بإشهار كتابه هنا في مخيم بلاطة.
وفي الختام تم تقديم درع لعائلة الشاويش مقدم من مركز يافا الثقافي، كما قدمت لي عائلة الشاويش درعاً تقديريا أعتزّ به وأفخر.
نعم؛ الحريّة خير علاج للسّجين.