السلام عليكم
بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى خلف القضبان ويكتبون؛ لاهتمامي بأدب السجون،
كان اللقاء الأوّل صبيحة الاثنين، 03.06.2019 عشيّة عيد الفطر، في سجن ريمون الصحراويّ. مع أحمد سعدات والتقيت بشكل دوريّ كلّ أسبوعين بأسرى يكتبون، وكان لي شرف لقاء العشرات منهم، ولكلّ قصّته وحكايته.
سألني الأسرى وأصدقاء مهتمّون من العالم العربي: “وماذا عن الأسيرات؟“؛ قبلت التحدّي وبدأت مشواري التواصليّ معهن في شهر أيار 2021، والتقيت مذّاك بكل الأسيرات في سجون الاحتلال.
وكان من الطبيعي أن يكون اللقاء الأوّل مع الأسيرة خالدة جرار في سجن الدامون، حدّثتني عن تجوالها في كرمل حيفا وبحرها في “زياراتها” بواسطة “البوسطة” البغيضة، يرافقها حرس ملكي فشعرت وكأنّها برينسيسة، لفحوصات طبيّة في مستشفى حيفاوي، وحين دخلت الغرفة صاحت بالطبيب: “زيح، بدّي أشوف البحر!”، وكم كانت سعيدة بأنّ الطبيب الذي فحصها عربيّ من جناح الوطن الآخر الذي تحلم به ليل نهار، شاهدت البحر عبر النافذة…والبواخر للمرّة الأولى!
التقيت بأسيرات تعلّمن الثانويّة العامّة داخل جدران السجن، فاعتقلن وهن طفلات مثل نورهان وملك، على سبيل المثال، وها هن يدرسن في الجامعة،
ويحلمن بالتجوال في شوارع حيفا، ويطلبن من الأهل تصوير الكرمل وجماله في كلّ زيارة وتزويدهن بالصور ليشاهدن الكرمل الذي يتنفّسنه، وتقول إحداهن بسخرية سوداويّة: “محبوسين في أحلى محلّ بالدنيا ومحرومين من المنظر”. ويتمارضن كي تجري لهن في الفحوصات في المستشفى لكي يتحقّق حلمهنّ برؤية البحر.
سمعت عن أهميّة الرزنامة السنويّة، ففي الأسر، وبغياب النقّال والحاسوب، تصير لها أهميّة عظمى، يدوّن الأسير عليها يوميّاته وما يجري حوله، ولكن حرم الأسرى منها هذه السنة بسبب التقليصات والتواطؤ من الصليب الأحمر ممّا جعل الأسيرة تخطّ السنة على دفتر، كلّ ترويسة صفحة تحمل اليوم والتاريخ… وتنتهي بيوم التحرّر المرتقب.
التقيت بإيناس التي تشتاق لاحتضان ولداها “محمد (7 سنوات) وعبد الرحمن (4.5 سنوات)” ووالدهما/ زوجها يقبع في زنازين ريمون الصحراوي وآية التي تنتظر كلّ يوم سماع صوت أولادها عبر الإذاعة، وأماني حشيم المحرومة من احتضان أحمد وآدم ، وفدوى القلقة على خمسة أولادها: حمادة، سدين، محمد، أحمد-آدم ومريم.
سمعت من غالبيّتهن عن رحلتهن الأسبوعيّة لجبال الكرمل، ففي غرفة رقم 11 طاقة (شبّاك صغير) تطلّ على الكرمل، تضع الأسيرة وزميلاتها الخزائن فوق بعضها، ويتسلّقن لمشاهدة جبال الكرمل وخضارِه عبر تلك الطاقة، والبعض يرفضن رؤيته (عشان ما يتحسّروا).
حدثّتني إحداهن عن التواصل مع العالم الخارجي عبر الإذاعة، فتوقيت أسيرات الدامون يترتّب حسب برامج الراديو التي تعنى بشئون الأسرى، ودور الرزنامة التي تكون آخر صفحة فيها يوم التحرّر، وفي آخر الليل تخبّئ ورقة اليوم سرًا ففيها دوّنت كلّ ما جال في خاطرها من خربشات وتأمّلات.
التقيت في الآونة الأخيرة الكثير من الأسرى، وفي كلّ لقاء سمعت حسرة أحدهم يحدّثني بحرقة عن عزيز له مات ولم تتح له الفرصة للوداع الأخير، منهم من فقد أبناءه وبناته وأمّه، ومنهم من فقد أخًا أو أختًا، ومنهم من فقد جدّاً أو جدة، ومنهم من فقد والده دون أن يلقي عليه النظرة الأخيرة قبل مواراته التراب، وساعتئذ تكون حسرته أكبر ولا تكفّر عنها مواساة زملاء الأسر.
مع وفاة سهى جرار رفضت سلطة السجون السماح لخالدة بالمشاركة في الجنازة، كغيرها من الأسرى، فالتقيتها بعد الجنازة مباشرة، ونقلت لها رسالة زوجها غسان الذي هاتفني من باب المقبرة، واصفًا لها حفل وداع سهى في البيت، جنازتها في المقبرة وتكريمها بجنازة “ما صارت لقائد أو شهيد”، كلمات التأبين، ووصفت لها الإكليل الذي جهّزه أبناء أخيه سهيل ليليق بسهى وكُتب عليه ما أملتهُ: “حرموني وداعك بقُبلة أودّعك بوردة. أمّك المحبّة خالدة”. وكذلك الأمر حين التقيت إيمان الأعور غداة وفاة والدتها.
ما أصعبك يا موت! ويزيد صعوبة ساعة الحرمان من وداع من تحب.
حدّثتني الصبيّة ربى عن اكتشافها داخل الأسوار العالم الحقيقي خارجها وأهميّته، في المستشفى لامست كرسي من العالم الحقيقي (الكنبة)، وفي طريقها من الزنزانة إلى غرفة الزيارات تشاهد “السما الحقيقي”، ومن طاقة غرفة الأحكام العالية تشاهد السما بدون شبك. (ذكرت كلمة “العالم الحقيقي” أكثر من عشر مرّات وجعلتني أستوعب أكثر وأكثر الزمن الموازي للأسير وليد دقة).
التقيت بختام التي قالت بعفويّة “إحنا بشر بنتوجّع”، وحدّثتني عن وجع البعد والفراق، وجع الأمهات البعيدات عن أطفالهن، وجع البعد عن طالباتها وزميلاتها، وجع الحرمان من المشاركات في المناسبات من أفراح وأتراح، ووجع حرمانها من رؤية واحتضان وعناق حفيدتها سارة… وأختها جنى، كان من المفروض أن تتحرّر من الاعتقال الإداري يوم 01.03.21 لتكون إلى جانب ابنتها دينا ساعة الولادة، ولكنّها اعتقلت في بوابة السجن يوم تحرّرها لتُحرم تلك المتعة!
التقيت بجامعيّات تم اختطافهن من مقاعد الدراسة وأروقة الجامعة إلى زنازين الاحتلال لتصير أمنية شذى أن ترى شبابيك طبيعيّة، دون شبك وحديد وحماية، لتصير سبيّة الفورة، وزملاؤها تخرّجوا من الجامعة لتُحرم صورة الفوج، تسمع بتخرّجهم عبر الإذاعة وتتضايق لأنّها ليس بينهم وصورتها ناقصة وربى عاصي تتوق للحياة الحقيقيّة وحياة الجامعة وممرّاتها…ولمّة الكافيتريا.
التقيت الأسيرة أنهار، كانت حامل في شهرها الثامن، متوتّرة جدًا من فكرة الولادة في الأسر، وهي خائفة أن يأخذوا منها المولود “علاء” وتظّل سجينة وهو بعيد عنها، وتقول بحرقة: “بدّي أخلّف برّا ويرجّعوني بعدها قدّيش بدهم”. وكنّا في التحالف جزء من الحملة الدوليّة التي أجبرت السلطات على تحريرها لتلد خارج الزنزانة.
التقيت شذى عودة التي حُرمت النظّارات الطبيّة ممّا يمنعها من القراءة وأمور أساسيّة
التقيت عائشة الأفغاني لتخبرني عن أمراضها المزمنة دون علاج ويتفاقم وضعها سوءًا نتيجة الإهمال الطبّي المتعمّد من سلطة السجون، وصُدمت حين التقيت إسراء جعابيص لتصوّر لي معاناتها وحرمانها من تلقّي العلاج لسنوات طويلة، دون أصابع ووجه مشوّه يتوق لعلاج، وجع وتشنّجات متواصلة ، ونوال فتيحة ومعاناتها الصحيّة والنفسيّة، والطفلة مرح التي أصيبت بأربعة عشرة طلقة نارية يوم 12.10.2015 وصارت جامعيّة تحلم أن تصبح محامية لتدافع عن الظلم اللاحق بشعبها.
خواني تتألم أنّ لها زميلات في المعتقل أصغر بكثير من أولادها وغالبيّة حرائر الدامون من الصبايا في مقتبل العمر.
التقيت أماني لأوصلها كرت عرس أخاها الذي سيتزوّج وهي خلف القضبان، لتشاركها منى بزغرودة خاصة بالحفل.
التقيت بأسيرات اعتقلن قاصرات، تعلمن فنّ الطبيخ في الأسر، صفا تعلّمت تحضير المنسف، ونورهان صارت أميرة التحالي ومنى مرشدة دورة صناعة المخلّلات.
التقيت بمنى قعدان التي حدّثني بلهفة عن التظاهرة الشبابيّة (نشطاء من أجل أسيرات الدامون) يوم السبت بجانب السجن، كان الصوت واضحًا جدًا وكلّ أسيرة سمعت اسمها عبر مكبّرات الصوت والزمامير وانبسطن جدًا (ويا ريت تلفزيون فلسطين يتابع ويوثّق) ورفع الأمر من معنويّاتهن، فهناك من يذكرهن ويخرجهن من عالم النسيان، وهذا ما أخبرتني به تسنيم وشروق وإيمان الأعور غيرهن.
تجربة قاسية وصعبة!
مطالب الأسيرات:
- إجبار السلطات على تزويدهن بطبيبة نسائيّة وعيادة نسائيّة دائمة (هناك صبايا صغار وأمّهات)
- أن يُسمح بزيارة مفتوحة للأبناء (وليس فقط لمن هم دون الثامنة) فالأم بحاجة لأن تحضن ابنها.
- وجود الكاميرات بشكلّ مكثّف وفي كلّ زاوية اعتداء غاشم على الخصوصيّة (يقلن: من 2018 شعري ما شاف الشمس)
- غياب التليفونات العموميّة (حاليًا يسمح بمحادثة هاتفيّة واحدة في الشهر)
- هناك تضييق على الزيارات وصار يُسمح بها على فترات متباعدة.
- الضغط على الصليب الأحمر للقيام بدوره تجاه الأسيرات. اليوم دوره يتلخّص بترتيب زيارات الأهل فقط، وحتى الرزنامة بطّل يزوّدهن فيها.
- التوجّه للإذاعات الفلسطينيّة لتخصيص مدّة بث أطول لإتاحة التواصل من الأهالي عبر الأثير
نعم؛ الحريّة خير علاج للسّجين.
من هنا أبعث بتحيّاتي لكلّ أسيراتنا وأسرانا آملًا بحريّة قريبة.
وأنتهز الفرصة لأشكر زوجتي سميرة التي تحمّلتني في الثلاث سنوات الأخيرة وحثّتني على مواصلة هذه الرحلة الجبليّة الصعبة، ولأشكر كلّ أسير وأسيرة أعطوني فرصة ومتعة العطاء.
***مداخلتي في المؤتمر السابع للتحالف الأوروبي لمناصرة أسرة فلسطين (السبت 18.06.2022) في مالمو السويديّة