بدايةً؛ اسمحوا لي أن أحيّيكم من حيفا وبحرها وكرملها، وأن أشكر القيّمين على هذه الندوة لإتاحة الفرصة لي أن أشارككم وأكون بينكم.
أوّل ما قرأت للشاعر الرِّوائي أحمد أبو سليم كانت هذه الرواية، رواية “الحاسَّة صفر” الصادرة عن منشورات ضفاف اللبنانيّة ومنشورات الاختلاف الجزائريّة ومكتبة كل شيء الحيفاويّة الفلسطينية حين ناقشناها في حيفا يوم 19.08.2014؛ وقرأت له بعدها رواية ذئاب منويَّة ورواية كوانتوم ورواية يس؛ وحين رأيت الإعلان عن هذه الأمسية قرأتها ثانيةً؛ وجاءت قراءتها مختلفة وتساءلت: هل هذا مرتبط بنظريّة التلقّي الألمانيّة “إنّ قراءة نصّ واحد في زمنين مختلفين من القارئ نفسه تؤدّي إلى قراءتين مختلفتين” أم هو قراءاتي لباقي إصداراته؟
تناولت “الحاسَّة صفر” تجربة المقاومة الفلسطينيَّة في لبنان، حطَّم من خلالها كل التابوهات، أنسن التَّجربة النِّضاليَّة الفلسطينيَّة ونزع القناع عن هالتها وقدسيّتها وصرخها بصريح العبارة: “لا قداسة لأَحد، ولا مطلق أَبدًا”.
وجاء أحمد في روايته “ذئاب منويَّة” ليُعرّي الواقع والإنسان العربي، حيث أَصبحت الذِّئْبويّة هي القيمة الَّتي يحملها الإنسان في داخله، يتصيّد الفرص ليهمِّش الجمال ويُهشّمه ليقلب المفاهيم والمعتقدات رأسًا على عقب.
ووصل في روايته “كوانتوم” إلى القدس التي تحوّلت إلى رمزٍ خطابيّ يتغنّى به الجميع رغم أنّها تتآكل، شوارعُها تغترب، بيوتها تفقد هُوِيَّتَها وأهلَها، والكلّ نيام، وخوفي أن نصحو من سُباتِنا ونجدَها في مخيّلاتنا فقط. قام الاحتلال بتغيير معالِمها، وهدم الكثير من بيوتها وأماكنها.
وحفر في روايته “يس” ليصل النكبة وما حولها؛ فوجدته مشروعًا متكاملًا وليس نزوة عابرة.
تساءلت عندما رأيت الرواية للمرّة الأولى: ما هي “الحاسَّة صفر“؟ فوجدتها “هي الحاسَّة التي لازمتني منذ ولادتي. الحاسَّة صفر هي حاسَّة الخيبات والوجع الذي لا يتوقّف أبداً، هي الحاسَّة التي لا تصل إلى حقيقة قطّ، حاسة القلق والشكِّ والألم”. (ص149).
يعرّي الكاتب المقاومة وسلبيّاتها وينتهك “مقدّساتها” ويؤنسنها ضاربًا عرض الحائط بالمسلّمات والتابوهات المتكلّسة البغيضة التي أجهضت الثورة وما زالت؛ فيصرخها بصريح العبارة: “كلُّ شيء كان مباحًا، ليس ثمّة حدود ولا قواعد ولا قوانين، وإذا سقطتَ داستك الأرجل الكثيرة التي لم تكن ترحم أحدًا أبدًا”، ويقول: “لا تقل لي إنّك تؤمن بأنّ فلسطين يمكن أن تتحرّر بالحجر، أو حتّى ببندقيّة الكلاشنكوف” (ص57)
يحاول أبو سليم تعرية “المقاومة والثورة” وتفكيك مركبّاتها بحِرَفيّة، يصوّر بحِرَفيّة سرقة الثورة، عمليّة سطو مُمأسسة؛
يتحدّى أحمد أبو سليم التعذيب والموت ويهزمهما قائلًا:
“الثّقة تعني الموت!.. الرّاحة.. الوقوف.. الانحياز.. الحياد.. السُّكوت.. الكلام.. والموت… كلها تعني الموت! (ص27)؛ “الموت أكثر رحمة من الأسر….فكَّرت: “الموت يعني أن تغمض عينيك لحظة، وتموت، أمّا الأسرُ فهو أن تبعث من الموت كلَّ لحظة لكي تموت….”، وحين يقول: “الموت يعني أن تُغمضَ عينيك مرّة واحدة فقط، وتموت، أمّا العذاب فهو موت يوميٌّ لا يتوقَّف!”، وهذا ما أسمعه يوميًا من أسرانا خلف القضبان.
يصوّر الكاتب مخيّمات اللجوء وبنيتها التحتيّة “السقوف الواطئة، والأزقّة، والحارات، والأبواب المتهالكة، والنوافذ التي تشي بأسرار البيوت، والمجارير، والماء الآسن، والشعارات الثورية على الجدران، وملصقات الشهداء، والوجوه التي تضجُّ بالفقر والجوع والتعب والخوف، والذباب، والجرذان، والقطط، والكلاب الضّالة، والمخبرون، والباعة المتجوّلون”، وكأنّي به يصف مخيم الوحدات أو بلاطة، مخيّم البقعة أو جنين؟ وطوابير المؤن! وما أشبه اليوم بالأمس، وقادتنا يجوبون فنادق الخمسة نجوم في تل أبيب وعواصم العالم، فالناس البسطاء الفقراء هم الذين يدفعون ثمن الحرب، أمّا الكبار فيتعاملون دائمًا بالمصالح العليا التي يعتقدون أنّها أهم من آرائهم الشخصيّة، ومن حياة البشر.
ويتناول ازدواجية المعايير في المجتمع الدولي “هنا إذن، على هذه الأرض، في هذه الطُّرقات والأزقّة تناثرت الجثث التي ملأت صورها الدنيا ولم تحرّك مشاعر أحدٍ في الكون”(ص62).
يتناول استباحة جسد المرأة الفلسطينيّة، سواء كانت بنت شهيد أو أرملة شهيد، أو زوجة ثائر ومقاتل، فكان القادة “يعبرون على جسدها ثم يمضون باحثين عن سواه” (ص94) وويل لتلك الثورة “التي أخرجت النساء من جحورهنَّ، وتركتهنَّ فريسة لكثير من الذئاب الذين كانوا يتربَّصون بهنَّ، ويعلنون عكس ما يُبطنون”.
يصوّر بجرأة قضيّة الاختراق الأمني المتفشيّة منذ القدم، بشتّى الطرق والوسائل، “كان يعرف أنّ الثورة مخترقة حتّى العظام” وللأسف ما زالت. نعم ، لا عزاء في الساقطين.
والخديعة والنفاق والغش، من البندقيّة التي زوّده بها عبد الحميد إلى زينب شقيقة أبو الفوز!
ويتناول ظواهر اجتماعيّة بغيضة ومقيتة؛ معاملة اليتيم/ ابن الشهيد من زوجة الأب أو من قبل المجتمع، عمالة الأطفال واستغلالهم وغيرها.
نكبتنا مستمرة، من لجوء إلى آخر، من نزوح إلى آخر، من هزيمة إلى أخرى.. وها هي أم أحمد ترحل من تل الزعتر بعد استشهاد زوجها ومسح المخيّم عن الوجود لتهجّر من جديد.. إلى صبرا والبرج وشاتيلا.. “كم شهيدٍ راح ضحيَّة الماء!” ليبقى الفلسطيني مشروع موت، لاجئ أزليّ، متهم حتى تثبت براءته.
في أيام الزمن الجميل؛ “المتطوِّعون جاؤوا بالآلاف من كلِّ أنحاء الأرض، وبيروت كانت تنزف دمًا… ومقاتلين” لكن بعنا الثورة بأبخس الأثمان! وتركونا للكلاب تنهش لحمنا.
يحاول أبو سليم تعرية الهزيمة لتولد من رحمها الثورة والمقاومة، فالتجربة حارقة ومميتة،
سمّى أحمد الأمور بمسميّاتها، أذهلني وعيه وتصويره لعنصريّة اليهودي فيقول على لسان إدريس المغربيّ: “أنا لم أسمع ذات يوم يهوديًّا يهتف ضد فلسطينيّ… سمعت اليهوديَّ يهتف دائمًا ضدّ العربي، وأنا شخصيًا لم أسئ ذات يوم لليهود، لكنّني ذلك وجدتهم يناصبونني العداء” (ص133)؛ نعم يا أحمد، يكرهوننا لمجرّد كوننا عرباً وليس كفلسطينيين، أسمعهم يصرخون في المظاهرات: “الموت للعرب”، يحاولون حذف وتهميش كلمة فلسطيني من قاموسهم، هذه العنصريّة والفاشيّة بأمّ عينها.
استحضر الكاتب غسّان كنفاني بحرفيّة، حيًا وقتيلًا/ شهيدًا وإرثه الباقي، وغيابه الذي يزداد حضورًا وكذلك الأمر جورج حبش.
يهزأ الكاتب من اتفاقيَّات السَّلام” ومنذ متى التزمت “إسرائيل” بالأعراف والمواثيق؟ منذ متى توقّفت عن القتل وسفك الدماء واحتلال الأرض، وبناء المستوطنات؟ مصر أعادت سيناء، وخسرت مصر” (ص59) وكذلك الحال مع مفاوضات مدريد المقيتة ومرحلةَ السراب الأوسلَويّ، ويكاشفنا قائلًا: “الدنيا تتغيَّر، وفلسطين بحاجة إلى قائد لا يساوم، ولا يهادن، ولا ينساق وراء الزعماء العرب، والأمريكان، ولا يخلق الذرائع والحجج ليبرّر موقفه” (ص160)، نعم، إنّها حالة من الجنون.
راق لي استحضار قصيدة/ أغنية ليونيل ريتشي (ص198-199)، وجاءت لغة الكاتب شاعريّة، فيتغلّب أحمد الشاعر على الروائي ولكنّها كانت مهضومة بُنيوية خدمت النص دون ابتذال، وهناك سيناريوهات لمشاهد مسرحيّة أو سينمائية راقية، وعلى سبيل المثال افتراقه عن ليلى واللازمة “الآن عليك أن تجيب إن كنت تحبّني أم لا!”
يلجأ الكاتب لأسلوب السخرية السوداء وجلد الذات فيُبدع: “كنت أقطف باقةً ممّا تبقَّى من الورود فوق الأشجار في حدائق البيوت المهجورة في الصباح، وأضعها في إناءٍ على الطاولة، وسط الصَّالة، لعلَّ أريجها يطرد رائحة الموت التي كانت تملأ المكان” (ص28)، “كانت رائحة الجثث المتحلِّلَة في صبرا وشاتيلا تعمي العيون، وتزكم الأنوف وهي تطوف كلَّ أرجاء الأرض”. وكذلك حين صوّر رجب “هذا المجنون نكح نصف نساء المخيّم” (ص142) ويصل ذروة سوداويّته حين يقول: “نضال ما عاد إلّا ذكرى، صورة شهيد معلّقة على الجدران”، وكذلك الأمر “لو قُدِّر لنساء المخيّم أن يعترفن بالحقيقة لشابت رؤوس الرّجال” و”رجب يعتبر الأب غير الشَّرعي لكثير من أطفال المخيّم” (ص210)
صدق جيفارا: “الثائر آخر من يأكل، وآخر من ينام، وأوّل من يموت”، وثوّارنا إمّا شهداء وإمّا أسرى.
صدقت عزيزي أحمد؛ أم عيسى اغتصبت ليلة الخروج من حيفا.
“كُلّنا شياه معدّة للذبح من أجل المصالح العليا لشيء ما يُسمَّى الوطن.
الكلّ ضاعوا، تغيّر الناس، صدَّقوا وهم السلام، انقلبت المفاهيم، انتهت الحرب، وكلٌّ بات يبحث عن نفسه، عن موقعه، عن مكاسبه، كلّ دخل ماراثون البحث عن الذات”.
أين ضاع التاريخ؟ وأيُّ يد لم تغتسل بالدم الفلسطيني بعد؟ حتى يد الفلسطيني ذاته جرّبت حظّها في دم الفلسطينيّ، علينا أن نناضل من الداخل ومن الخارج كلّ لحظة لكي نطهّر الثورة من أدرانها. “ربّما لو اعترفنا لكان بوسعنا أن نبدأ من الصَّفر، وأن نؤسّس لنظريّتنا الخاصة التي يمكن أن تؤهّلنا للحياة” (ص175).
نعم، بدها تصفير، وبلغة اليوم: بدها “ري- ستارت”.
(ألقيت هذه المداخلة في أكثر من قراءة/عمان – يوم الأحد 05.06.2022)