قصّة: من لا يصدّق أنّها واقعيّة، رغم التصرّف بالأسماء، فيجب أن يعيد النظر من الموقف ضدّ البغال!
كانت ضباع البراري، أيّام كان عند أهل فلسطين براري، قد شبعت حتّى الثمالة من لحم جيفة بغل علي محمّد المحمود، حتّى تسنّى له الوصول إلى مقرّ الحاكم العسكري في البلدة، وطبعًا ليس قبل أن توسّط المختار عبد الله الأحمد لدى الحاكم كي يتفضّل ويسبغ على ابن المحمود فضيلة المقابلة.
قاربت الدنيا الظهيرة وابن المحمود كما العشرات يفترشون، كلّ على الجانب والشكل اللذين يريحانه، حجارة وتراب حاكورة دار راشد الحمد الواسعة، والتي تحوّلت دارها الرحبة إلى مقرّ للحاكم بعد أن هجّ أهلها مع من هجّ، من المقاومين وذويهم وبعد أن نفذ رصاصهم في الميادين، أو مِمّن قطّع الخوف أوصالهم عن بعد، أو خوفًا من مذابح البيادر والحواكير، أو ممِّن غُرّر بهم. أمّا المفترشون فممّن تبقّى رغم مذابح الحواكير والبيادر، أو ممّن شفعت له صحبته الصحوبة ل”الحيط الحيط ويا ربّ السُّترة” ولِمَا بعد السُّترة بكثير وما كان همّه إن كان دار قفاه، بالاستعمال الشمال فلسطيني- السوري وليس المصري، لأهله.
المهمّ أن قيظ الظهيرة لم يشفع عند الحاكم لا لأهل البيادر والحواكير، ولا لأصحاب الحيطان العائبة والأقفية السائبة على ذمّة بعض أهلنا، فعند الحاكم القاعد في عِلّيّة دار راشد الحمد ومعه “على الحكي” كم مجنّدة من المتطوّعات التشيكيّات، “كلّة زيّ بعضُهْ”. وما كان أحد من المفترشين ليجرؤ أّن يقضّ راحة الحاكم في عليّته قبل أن يقرّر أن ينزل إلى بهو الدار الذي به كان يستقبل المراجعين، هذا إذا طاب مزاجه في ذلك اليوم وإلّا أعاد الناس من حيث أتوا إلى موعد لاحق قلّما يحدّده.
سمع الكثير ممّن حول ابن المحمود أفأفته قبل أن يقوم تاركًا الحجر الذي جالسه منذ ساعات متّجهًا نحو بوّابة الخروج. أمسك جارُ افتراشٍ كان افترش التراب بجانبه “ذيال” قمبازه وشدّه نحوه قائلًا:
_ اقعد يا عمّي… خْروج الحاكورة مِشْ مثل دْخولها!
_ شو يعني؟!
ومتابعًا:
_ يلعن البْغال واصْحابْها… والله المْعَوِّظ.
لم يفهم الرجل الجالس ما للبغال والحالة التي هم فيها، ولا إن كان المقصود بالبغال الحاكم والحرّاس، ومع هذا سارعه:
_ أقعد يا عمّي! راح تِتْبهدل يا عمّي وانت مِشْ قدّها.
_ ليه؟ شو عْمِلْت؟!
_ مِشْ المهمّ شو عْمِلْت… المهمّ ما تِعمل إلّا اللي يقولوا لك اعملُهْ… دخول المقرّ بإذن وخروجُهْ بإذن… وان رحت خارج إسّا راح يِعْتْبِرها الجندي على البوّابة إهانة للحاكم، وراح يِفْشِل عليك هذا إن ما ضربكْ، وانت مش خَرْج بهدلَهْ يا عمّي!
_ لا حول ولا قوّة إلّا بالله!
عاد ابن المحمود إلى حَجره والحوقلة ما زالت سيّدة موقفه، فبادره الشاب وبعد أن عرّفه على نفسه وأنّه من رْويس العين، يسأله عن حاجته، فمدّ ابن المحمود يده مستخرجًا ورقة عانت الكثير من “الجعلكة”، وناولها لابن الرْوِيس الذي راح يقرأ:
“سعادة مدير وزارة الأقليّات بحيفا المحترم.
المستدعي علي محمّد المحمود الياسين من قمْرة.
المعروض لسعادتكم. بتاريخ 20\2\1949 طوّق الجيش الإسرائيلي قريتنا قمرة وفي أثناء التطويق أطلق أحد أفراد الجيش النار على بغل لي ما لبث بعد برهة أن مات وبما أنّني رجل فقير الحال لا أملك النقود اللازمة لشراء بغل أو دابّة أخرى لتقوم بدل البغل المقتول بحراثة أرضي التي أودّ فلاحتها فأكون قد تعطّلت أرضي لذلك ألتمس من سعادتكم التعويض عليّ ثمن البغل المقتول والمقدّر ثمنه ما ينوف على خمسة وأربعين جنيهًا فلسطينيّا وفي الختام تفضّلوا بقبول فائق احترامي سيّدي.
23\ 2\ 1949 المستدعي علي محمّد المحمود.
أشهد أنّ ما ذكر أعلاه هو صحيح.
مختار قمرا
عبد الله الأحمد\ الختم والتوقيع”
لم يعرف ابن الرْوِيس هل يضحك أم يبكي، ودون أن يعلّق مدّ يده معيدًا الورقة لابن المحمود، فدحشها ذاك في جيبه دون كلام هو الآخر.
كان ابن المحمود أوّل المراجعين الذي نودي باسمه، ولم يطل بقاؤه في “المكتب” إلّا قليلًا، وحين خرج كان يحمل ورقة وراح يجيل نظره بين الناس وقد تغيّرت أماكنهم وجلّهم وقوفًا، وكأنّه يفتّش عن أحد. وقعت عيناه على من يريد، فراح يتقدّم بين المراجعين نحو ابن الرْوِيس مادّا نحوه الورقة، تناولها ابن الرْوِيس وراح يقرأ، وهذه المرّة بصوت مسموع:
“حضرة السيّد علي محمّد المحمود
قرية قمرة
ردّا على طلبكم المؤرّخ 23\2\1949.
لقد اتّصلنا بالمراجع المختصّة وتلقيّنا جوابًا بأنّ قتل بغلكم كان قد نتج عن عدم الإصغاء للأوامر العسكريّة أثناء التطويق من قبل بعض سكّان القرية ولهذا السبب لا يمكن التعويض عن قتل البغل.
مكتب وزارة الأقليّات بحيفا
موسى (لم يعرف ابن الرويس قراءة الاسم الثاني) – المدير”.
رفع ابن الرْويس نظره نحو ابن المحمود فرآه يبتسم، وردّ ضاحكًا مثلما لا يذكر متى ضحك مثل هذه المرة:
_ الحقّ مع الحاكم… والحقّ على البغل اللي ما أصغى للأوامر العسكريّة!
_ الله يلعن…
راحة يده على فم ابن الرْوِيس:
_ لا تسبّ!
سعيد نفّاع
أواخر أيّار 2022