بهدوء ودون إثارة أي انتباه، ينسحب الطفل الصغير الكبير من المسيرة ويتجه نحو رصيف الشارع، يسير مترنحا بخطى بطيئة وثقيلة، متراجعة ومتداخلة المواطئ. يصل حائط بناية ضخمة، يكاد يسقط عليه. تسبقه يداه …
آه… تصدر آهات التعب والإعياء فتضغط على القلوب. يستعين بيديه حتى يقتعد حجرا يسند ظهره إلى الحائط، يمد رجليه إلى الأمام ويفتح فمه على اتساعه، يأخذ كمية كبيرة من الهواء ثم يخرجها متأففا زفيرا بطيئا ومستجديا الراحة. يكرر عملية الشهيق والزفير هذه كثيرا،
ملابسه تبدو قديمة، قميصه الأحمر بلا أزرار، صدره مكشوف يعلو ويهبط بوضوح.. يمسك بقميصه ويحرره من الالتصاق المضايق لجسمه؛ ليسمح لنسمة هواء لطيفة بالوصول إلى مساماته مباشرة.. بنطلونه الأسود مهترىء جدا ويكشف جزءا من ركبتيه ومقاسه كبير عليه، يشده عند الخصر بقشاط بلاستيكي أخضر مليء بالثقوب التي صنعها بمسمار حديدي محمّى.
تناول من جيبه منديلا أبيض ومسح عرقه الذي يغسل وجهه القمحي الصغير، فرك بقبضة يده عينيه العسليتين الغائرتين بعض الشيء في محجريهما، حكّ رأسه الصغير ومسّد شعره الأشعث القصير. اغتصب ابتسامة من نفسه المعذبة، زمّ شفتيه ومطّهما وتلمظ ريقه…
ببطء.. طوى ركبتيه محاولا الوقوف، لم يستطع، عاد وجلس. ملامح الحيرة الخرساء والقلق الحائر والرجاء الأخضر ترتسم بوضوح على وجهه. يجلس مطرقا ويمتد نظره إلى الأمام امتدادا لا نهائيا… يتأمل، يتساءل، يحلم ويعود ليضغط فكيه بعضهما ببعض. تلمع أسنانه كصفين من اللؤلؤ أو حبات البَرَد. يلقي رأسه ويسنده على صدره.
بقوة يضغط بطنه بيديه ويضغط أكثر وأكثر… يهز رأسه برجفة متوترة ليصحو من نعاس يكاد يغلبه ويحملق أمامه على الأرض أو في الأفق.
الجوع يعوي في جوف الطفل… ينهشه بلا رحمة. المعدة فارغة وتطحن نفسها، الأمعاء تتلوى/ تتقلص / تتوتر. الألم / العذاب/ المرارة. قرقرة البطن مسموعة، وكما يقولون عصافير البطن تزقزق طلبا للأكل، والطفل يتألم.. يتلوى.. يتعذب.
الحزن يمور في عينيه بريقا وأسى، وعلى وجهه يتماوج اللون الأصفر… والجوع انتزع منه حيويته ونشاطه… والتعب شلّ حركته… الخمول في جميع أعضاء جسمه ..
ما الذي يفعله؟. نعم، ماذا يفعل؟
الناس نهر بشري يتدفق أمامه، يرشقهم بنظراته الغاضبة التي تلسع ظهورهم وتخترق أجسادهم ولكنها للأسف، لا تصل قلوبهم. يستجديهم بعينيه وملامح وجهه التي تحكي قصصا تثير الشفقة وتذيب الحجر ولا حياة لمن تنادي.
يحاول أن يقف فلا يقدر… يضع رأسه بين يديه ويحدق بين قدميه… يرفع رأسه ويخترق ازدحام المارة… يتسلق بنظراته أجسامهم من أخمص الأقدام حتى أعلى الرؤوس، والناس يسيرون بسرعة، بعصبية، بضيق، بلا مبالاة، وبوتيرة واحدة. وجوه كالحة وباهتة، نظرات تائهة وخطوات فوضويه الإيقاع.
يغتصب الطفل ابتسامة ويرمقهم، يحاول أن يشتمهم، يبصق عليهم، لا، فهذا ليس من أخلاقه.. إنما يريد أن يشرح لهم حالته… لعل وعسى.
ومر به رجل، والتفت نحوه. الحمد الله. وأخيرا وقف الرجل، نظر إلى الطفل طويلا ثم إلى سكرتيرته، عاد ونظر إلى الطفل ثم إلى سكرتيرته، ابتسم وقال لها: يجب أن نتضامن مع هذا الطفل البطل، هذا الطفل الشجاع الذي غيّر جميع المفاهيم النضالية … سجلي في المفكرة دعوة إلى مهرجان شعبي ألقي فيه خطبة تاريخية مهمة اشرح فيها قضية هذا الطفل … وفي نفسه ” يجب أن لا ننسى دعوة كوادر التصفيق والصحافة ” واستمر ينهش في رغيف ” الشوارما ” الذي بين يديه، وخاطب الطفل: سترى تأثير المهرجان في حلّ القضية… هذا واجب وطني، سيكون المهرجان على شرفك، أي والله العظيم، وقال في أعماقه ” والتصفيق على شرفي ” . سنكتب الخبر في الجريدة وبالبنط العريض… وواصل سيره مع سكرتيرته التي تسير بحذائه قابضة ذراعه.
ابتسم الطفل ، هز رأسه وبصق …
ومر رجل آخر، التفت نحوه… الحمد لله. أيها الطفل البطل لست وحدك في هذا النضال المقدس… وأنا معك … سأرسل برقية احتجاج إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن … وسوف أوزع مناشير التضامن معك واشرح فيها عدالة قضيتك وما تعانيه من جوع وعذاب وظلم… سأوصل كلمتك إلى جميع المنابر العالمية… سأعقد مؤتمرا صحفيا .. نعم .. على العالم أن يسمع ويسمع ويسمع. واستمر الرجل في طريقه.
ابتسم الطفل ، هز رأسه وبصق …
ومر رجل أخر، التفت إليه. الحمد الله، ترامقا طويلا … إني أتضامن معك من كل قلبي
ويجب أن أقوم بواجبي تجاهك… سأنظم مسيرة شعارات لتأييدك في نضالك المقدس .. أراك تبتسم. تعتقد أني غير قادر على تجنيد الناس للمسيرة، اطمئن، فالكوادر جاهزة لكل أمر، وفي نفسه قال وهو يهز رأسه ويبتسم بخبث: (إن كوادر الطاعة العمياء جاهزة لتنفيذ كل أمر: للاحتجاج ولرفع الشعارات والتصفيق وتفجير الاجتماعات ونشر الأكاذيب)
لا أريد إضاعة الوقت سدى … يجب أن أعود بأقصى سرعة لتنظيم المسيرات واخذ التصاريح لها، حتى أفوِّت الفرصة على الشرطة. نعم ، يجب العمل ضمن القانون وتحت سقفه واستثمار بعض الديمقراطية المتوفرة … أنا جائع ، سأسرع لتناول الطعام ، حتى أتفرغ لتنظيم المسيرات والمهرجانات لدعم قضيتك العادلة .. إلى اللقاء . لا تنس أن تأتي إلى المسيرة… وبهمس غير مسموع: لآخذ صورة تذكارية معك لتفيدني في حياتي ومرّ رجل آخر وآخر وآخر.
ابتسم الطفل .. هزّ رأسه وبصق …
وأخيرا مر رجل . التفت إليه . الحمد لله . توقف، ترامقا طويلا، تسمر . حدّق في الطفل . ماذا بك ؟ ما الذي تفعله هنا وأترابك يكنسون الاحتلال بحجارتهم المقدسة. آه… يبدو أنك تعبت. التعب ممنوع، الاستراحة مسموحة للتزود فقط . أن تستريح قليلا من الوقت لتوفر طاقه من اجل كثير من العمل، فهذا مسموح بل وضروري.
والطفل لا يتحرك… بل يغتصب ابتسامة صفراوية، وبريق عينيه يدل على الإجابة ويرد على تساؤلات الرجل، يا ولدي انك ولا شك جائع… نعم أنت جائع ويجب أن تملا بطنك بالطحين لا بالجعجعة.. عليك أن تُسكت عصافير بطنك وتوقف تقلصات معدتك.
تناول الرجل حقيبته، فتحها وتناول المنقوشة، ناوله إياها.. خذ ، وخذ حبة البندورة هذه، ما رأيك؟ خذ جميع الزاد. سأتدبر أمري. ونحن يا ولدي لا نتضامن معكم بل نلتحم معكم، وهل يتضامن الإنسان مع نفسه؟!
تناول الطفل المنقوشة.. التهمها بسرعة؛ فأطفأ جفاف وحرارة جوعه بفغماته لحبة البندورة واستراح مع حبات الزيتون. تنهد… تدفق الدم إلى وجنتيه .. إلى وجهه .. رقصت الفرحة في بريق عينيه.. ابتسم من قلبه.. نهض بحيوية.. فتح ذراعيه . شدهما . شد جسمه إلى أعلى . عاد النشاط إليه .
ــ شكرا.. شكرا من كل قلبي.
ــ لا تقل شيئا، لا تشكرني فهذا واجبي… وأنا المُقَصِّر معك.
ــ المعذرة، عليّ أن أسرع لألحق برفاقي.. وركض ليلحق بالمسيرة.
وقف الرجل ابتسم .. مسح دمعة حارة على وجنتيه واستمر في طريقه.