شاركتُ في بداية كانون الثاني عام 2009 في مظاهرات حيفاويّة، في الساحة المعروفة في طلعة شارع الجبل، ضد الهجوم السافر على غزّة، واستفزّني تعدّد الشعارات والصراخات، كلّ “فصيل” وشعاراته، وكانت اللغة العبريّة سيّدة الموقف، وكنت برفقة صديقي فتحي مرشود، من كبيري السنّ، عرّفني على الطبيب ياسر منصور الذي سمع سخطي على الأمر، وكان نتاج هذا التعارف إقامة منتدى الكتاب الحيفاويّ، وكان اللقاء الأول مساء الأربعاء 28 يناير 2009، نناقش خلاله كتابًا كلّ آخر يوم أربعاء من الشهر بتيسير الأديب حنّا أبو حنّا، وفي لقائنا بمناسبة عيد ميلاده التسعين تناولنا كتابه خميرة الرماد، وفي لقائنا مساء 02.02.2022، وقبل اللقاء بدقائق فُجعت بخبر وفاته، فاقترحت بعفويّة إطلاق اسمه على المنتدى فقبل الزملاء الاقتراح دون تردّد وبات من يومها “منتدى حنا أبو حنا للكتاب”.
تزامنًا مع عيد ميلاده التسعين ارتأت صحيفة “المدينة” الحيفاويّة تكريم حنا ووجدت في نشر “يوميّاته” من على صفحات المدينة خير تكريم له في حياته إيمانًا بأنّ تكريم الأحياء في حياتهم أبلغ منه بعد وفاتهم، تيمُنًا بالمثل الجزائري: عندما كان حياّ كان يشتاق إلى ثمرة وعندما مات غرسوا نخلة جنب قبره.
وعليه رتّبتُ لقاء طاقم “المدينة” بالراحل حنا أبو حنا في بيته يوم 13.11.2018 وتمخّض عن اللقاء نشر “فستقيّات” التي تمثّل سيرته على مدار 45 حلقة؛ أرفقت بصور شخصيّة زوّد “المدينة” بها، وتابعها أبو الأمين أسبوعيًّا وكثيرًا ما كان يتصّل ليستفسر ويوجّه.
دُعيت في يناير 2005 لأمسيةٍ ثقافيّة معه في مقهى أدبيّ حيفاويّ “الدارة“، فقبلتُ الدعوة متلهّفًا للقائه، وحفل توقيع ثلاثيّة السيرة الذاتيّة، وعند افتتاح المنتدى كان ليَ الشرف أن أكون تلميذَه ليزيدني قناعةً بفنّ القراءة المُغايرة، فهو ميسّر وموجّه اللقاء الشهريّ مع كِتاب كل آخر أربعاء من كل شهر، وبعدها بدأت ألقاه كلّ خميس، وأصبحتُ، محظوظًا، بأن أكون سائقَه الخاص بطريقنا مِن وإلى الأمسيات لأستغلّه في عصفٍ ذهنيٍ ثقافيّ، عدا عن لقاءاتِنا الأخرى التي سَرَعان ما تتحوّل إلى فستق أدبي.
للأديب الراحل حنا أبو حنا إصدارات كثيرة ومنها: المجموعات الشعريّة: “نداء الجراح، قصائد من حديقة الصبر، تجرّعت سمّك حتى المناعة، عرّاف الكرمل”؛ الدراسات: “عالم القصّة القصيرة، رواية مفلح الغسّاني، روحي على راحتي: ديوان عبد الرحيم محمود، دار المعلمين الروسية في الناصرة، رحلة البحث عن التراث، الأدب الملحمي، ديوان الشعر الفلسطيني، ثلاثة شعراء: ابراهيم طوقان، عبد الرحيم محمود، عبد الكريم الكرمي – أبو سلمى، مذكرات نجاتي صدقي، طلائع النهضة في فلسطين”؛ الترجمات: “ألوان من الشعر الروماني، ليالي حزيران”؛ أدب الأطفال: “أحمر أخضر، أرنوب وفرفور، جحا والقمر، أصابع ديمة”؛ أدب السيرة: “ظلّ الغيمة، خميرة الرماد، مهر البومة”.
بعد رحيله قرأت “خميرة الرماد” للمرّة الثالثة وبهرني الإهداء: “إلى الذين يدركون نعمة الاختلاف ووَيْلَ الخلاف“. الكتاب عبارة عن سيرة ذاتيّة شموليّة لشعبنا، سيرة تمزج بين الأحداث الشخصيّة لكاتبها والأحداث العامّة التي دارت في البلاد، فهو كان محورًا مركزيًّا في الكثير منها، ولم تتحوّل هذه السيرة إلى سرد للتاريخ، ولا منبر للتنظير السياسيّ وفرض وجهة النظر، فاستطاع أن يقدّم صورة واضحة غير منحازة، من وجهة نظر شخص عايش الأمور ومطّلع عليها.
يصوّر الدور الذي قامت به الكليّة الأرثوذكسيّة العربيّة في حيفا كمدرسة ثانويّة خرّجت أجيالًا متميّزة، تبوّأ خرّيجوها مناصب رياديّة وقياديّة للأقليّة التي بقت في البلاد متطرّقًا لدور ودعم رفيق دربه المحامي حنّا نقّارة.
يعود حنا إلى الماضي، فترة الشباب (ظلّ الغيمة تناول طفولته حتّى شبابه)، لكنّه يعي الحاضر وعيًا تامًا، فيربط أحداث الحاضر بصراعات الماضي، لا بل يربطها بما مرّ به بعد سنين عديدة، وآلام الحاضر بأخطاء الماضي، آملًا ألّا تتكرّر الأخطاء وألّا يستمرّ الانحدار نحو المجهول.
نلاحظ الحسرة والألم على الشرخ الذي حصل بينه وبين الحزب الشيوعي وقادته، رفاق دربه لسنين طويلة، وعلى الأخصّ علاقته بإميل حبيبي التي تأزّمت ووصلت درجة التخوين، وذروتها مقاطعة جنازة المرحوم حنّا نقارة لئلّا يلتقيا على منصّة واحدة، والحملة التي شنّها الحزب ورجالاته ضدّه التي وصلت ذروتها بالمقالة سيّئة الصيت: “هذا الفكر حان له أن يتراجع إلى المقبرة” التي آلمته وأوجعته، وما زالت، رغم مرور عقود، مؤكّدًا قول الشاعر طرفة بن العبد: “وظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَـةً عَلَى المَرْءِ مِنْ وَقْعِ الحُسَامِ المُهَنَّـدِ”
ومن جهة أخرى صوّر بموضوعيّة وحَنِيّة علاقته بصليبا خميس وآرنا ومشروعها الإنسانيّ الوطنيّ الذي ضحّت بحياتها من أجله.
كان حنا نسويّاً بامتياز، فهو نصير المرأة قولًا وفعلًا، ولها دور مهمّ في حياته، يرسم علاقته على مرّ السنين برفيقة حياته سامية، من مرحلة التعرّف، فالخطوبة والزواج والحياة المشتركة عشرات السنين.
وجدته إِنسانًا واثقًا بنفسه، متحدّيًا كلّ الصّعوبات، طَموحًا إِلى أبعد حدود، كان له دور رياديّ في المشهد الثقافيّ الأدبيّ المحليّ، من خلال لقاءات تثقيفيّة ومجلّات أدبيّة وإرشاد لراشد حسين ومحمود درويش، وغيرهم كُثُر، في بدايات مشوارهم الأدبي.
لم يولد وفي فمه ملعقة من ذهب، كافح مثل أبناء هذا الشعب العامل، بالتنقّل هنا وهناك، من أجل لقمة العيش والنضال. عايش الحكم العسكريّ البغيض، ورافقه مقصّ الرقيب على الصحافة وحريّة الكلمة، ودور المخابرات الإسرائيليّة ضدّ أبناء شعبنا، العلاقة مع اليسار الصهيونيّ والأدباء اليهود وتعويله عليهم آنذاك، ملاحقة الشيوعيّين والقوى الوطنيّة، الاعتقالات السياسيّة والمحاكم العسكريّة الظالمة والسجن بسبب مواقف، مجزرة كفر قاسم والتعتيم عليها، مرحلة الأمل القوميّ مع عبد الناصر، النكسة وأثرها وموبقاتها واللقاء بالأخوة من جناح الوطن الآخر السليب، حرب الغفران والأمل المنشود والمفقود وأحداث يوم الأرض الخالد. أطلّ علينا بشهادة موسوعيّة: فالتجربة عريضة والثقافة مُميّزة، المُتابعة دقيقة، التحليل يستندُ إلى معلومات تفصيليّة تتجاوز الأخبار، والذاكرة المميّزة التي تحتفظ بشبابها… كل ذلك يحضر معه، فإذا هو دائرةُ معارف: يعرفُ الكثير الكثير عن البلاد وأحوالها، اقتصادًا وثقافةً وتوجُهات. ذاكرته نضِرة، ومعلوماته شاملة، ثم إنّه متابعٌ دقيق وخزينه المعرفيّ يُسهّل عليه تحليل الحاضر واتجاهات الريح.
كتب حنا بوضوح رؤيةٍ ورؤيا، فهو مُطّلع على خبايا الأمور لحنكته وتجربته الحياتيّة والسياسيّة وكتابه يتّسم بمصداقيّة عالية كشاهد عيان على ما حدث وليس كمؤرّخ سمع عن الحدث أو باحث قرأ عنه في بطون الصحف والكتب، ويصف الحالة الفلسطينيّة بتفاصيلها وخيباتها، والمحنة التي عايشها وبقي مرفوع الرأس، لم يرضخ للتهديدات ولم تغرِه الوعود والإغراءات.
لغته سلسة وانسيابيّة، متبّلة بالعاميّة واستعماله للأمثال الشعبيّة كان موفّقًا: “البراطيل بتحلّ السراويل”، “أوّل الرقص حنجلة!”، “اطعم الضّاري وخلّ المشتهي”، “أعزب دهر ولا أرمل شهر”، “اللي ما بيجي معك تعال معه”، “كلّ بيت وله مصرف”، “المال بِجُرّ المال والقمل بِجُرّ الصيبان”، “مائة قَلبِه ولا غَلبِه”.
أنهى حنا كتابه قائلًا: “لم يكن المسار يسيرًا، لكن كانت هناك حكمة سامية، الشريكة النابضة بالمحبّة والكتف المؤازرة بذكاء في إدارة الدفّة والشراع الذي أسعف بالتغلّب على الرياح غير المشتهاة وتحقيق الكثير” (ص. 224)
حين أنهيت قراءة الكتاب، وحسب معرفتي بأبي الأمين، كأنّي به يردّد ما قاله الشاعر لويس أراغون:
لو عدتُ إلى بدايتي
لما اخترتُ إلّا هذا السبيل
ترجّل فارس أدب المقاومّة وعرّابه؛
كتب صديقي د. فيصل درّاج : “ظل الغيمة” سيرة ذاتية لطفل فلسطيني، يشبه الآخرين ولا يشبههم، وسيرة ذاتية للروح المنشطرة التي تخبّىء أحلامها تحت ظلّ غيمة مباركة ولا تعثر على ما خبّأته حين تبحث عنه بسبب تبدّد الغيوم، أو بسبب الغيوم المتكاثرة التي تبدّد ظلاله.. الكتاب في أسلوبه الرائق، ومراجعه اللغوية والأدبية، مرآة لثقافة عربية خالصة، وصورة عن كاتب يؤكّد عروبته في تملّك اللغة التي يكتب بها، كما لو كان الفلسطيني المهدّد الذي تضاءلت أسلحته، يرى في لغته الموروثة سلاحًا عزيزًا أخيرًا، يركن إليه مقاومًا زحف النسيان، وتخلخل الوجود في آن”.
وكتب صديقي رشاد أبو شاور: “وحنّا أبو حنّا المسكون بروح التراث العربي يسير على هدى أسلافه العظام في السرد، فكأنّما روح الجاحظ تدخل فيه متخطيّة زمنها، متأقلمة من زمننا… تُرى أليس هذا ما يفعله الشيخ حنّا أبو حنّا في كتابه “ظلّ الغيمة”، ألا يسعى في الذاكرة متسلّقًا الأيام والسنين راسمًا تخوم الأحداث، وملامح الناس وتقاليد وعادات أبناء وبنات وطنه، معيّدًا كلّ الحياة ليُفشل مخططات ونوايا الاحتلال، مفوّتًا الفرصة على رياح السموم السافية التي لا همّ لها سوى اقتلاع وجودنا، لتبديل السمات الخارجية لأرضنا..”
أمّا صديقي ظافر شوربجي (الذي رافقه سنين طويلة) فكتب: تثير قراءة “حنّا أبو حنّا” كثيرًا من الشجون، وتستحضر الذكريات، فلكلّ منّا حالة من حالات التعاطف ضمن سرده الممتع وقد تجلّى هذا في ثلاثيّة السيرة “ظل الغيمة”، “مهر البومة” و “خميرة الرماد”، وباعتقادي أن تمييز الأديب حنّا أبو حنّا أنّه عايش الحياة الثقافيّة والأدبيّة والسياسيّة في فلسطين قبل وبعد النكبة وكان حاضرًا فاعلاً وليس متفرّجًا كما البعض، من هنا أسرَتني وأمتعتني السيرة لما فيها من فصول ومراحل”.
عقّب حنا ذات مرّة على ما كتبته حول إصدار له: “ناديت تواضعي وأحرجته”، وأضافت رفيقة دربه سامية قائلة: “جميل شامل ودافئ، سلمت لنشر الكلمة ورعاية الثقافة”.
وصف النُقّادُ أستاذي حنا أبو حنا بزيتونة فلسطين، وأسمح لنفسي، وبكل تواضعٍ، أن أصفَهُ بأيقونةِ وبوصلةِ فلسطين الثقافيّة الأدبيّة.