بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى أحرار يكتبون رغم عتمة السجون في شهر حزيران 2019؛ تبيّن لي أنّ الكتابة خلف القضبان متنفّس للأسير، ودوّنت على صفحتي انطباعاتي الأوليّة بعد كلّ زيارة؛
عقّب الأسير المقدسيّ المحرّر ناصر أبو خضير: “آه منك يا عاشق الهم والألم، محظوظة بك الحركة الأسيرة وما أحوجها لأمثالك في زمن القحط والجفاف، بوركت خطواتك”.
“كنت أحب دائما استفزاز وليد دقة، كان برشه مقابلا لبرشي في سجن ريمون وكان طقسه الليلي بعد العشاء الجلوس إلى طاولة الكتابة ليفرغ ما في قريحته مسودا العشرات من الصفحات ليليا وكنت أحسده على هذا الجلد بينما أنا اطالع بإحدى الكتب فأقتبس أي فقرة من الكتاب وأفصلها على مقاس استفزازه لأثير نقاشا حامي الوطيس وكنت طبعا أتعمد مجاكرته لأستخرج منه شيطانه الكوميدي، ليهب واقفا رافعا بنطال التريننج الى أعلى صدره ومقوسا ظهره منتحلا شخصية بائع الكعك ويطوف بالغرفة مناديا: “كعك ..كعك مين يشتري الكعك ويخلصني من ابو خضير “ وحينها وبعد نوبة من الضحك المجنونة والصاخبة مني كان يقول: رضيت .. حل عني.
وفي الليالي التي يكون مزاجي بها متعكر ولا ابادر باستفزازه كان يكون أشبه بالمدمن فيبادر هو لحركة الكعك حتى يضحكني ويخرجني من حالة الكدر.
وليد من أروع وأرقى المناضلين وأكثرهم نقاءً، الحرية لا تليق الا بأمثاله، كان عشقه للأطفال جنونيا حتى قبل أن تأتيه ميلاد بسنوات ويبدوا أنه بكتابته للأطفال كان يخاطب ميلاد ويتنبأ بمجيئها ، لك وله كل المحبة والتقدير”.
“خلّيك داعس”
رافقني صباح يوم الأربعاء 20.04.2022 الصديق مصطفى نفاع في رحلة رمضانيّة للقاء أسرى في سجن عسقلان، وحين وصولي غرفة المحامين متكهّنًا مَن سيكون الأسير الأوّل الذي سألتقيه، فأطلّ خليل محمود يوسف محمد أبو عرام [1] مبتسمًا ابتسامة عريضة ليوصل لي سلامات زملائه في القسم ممّا أنساني عناء السفر.
كانت السمّاعات معطوبةً، يبدو متعمّدا من السجان، ولكن الأمر لم يعطّل اللقاء.
تحدّثنا مطوّلا حول إصداره المنتظر: “القدّيس والخطيئة”، دراسة بحثيّة حول الحركة الأسيرة، والإضرابات والخلل وضرورة التصحيح، واللعب ع المكشوف، وأنهينا النقاش برسالة الصديق جمعة الرفاعي: “خلّيك داعس”.
حدّثني عن مشروعه الأدبي القادم؛ “حنظلة والحلم المسروق” وحنظليّاته، مقطوعات أدبيّة ومقالات سياسيّة.
كما أخبرني عن مشروعه التعليمي وتحضيره للدكتوراه والتواصل مع جامعة تونسيّة لترتيب الأمر، وعن علاقته مع أصدقاء مشتركين: قتيبة وحسام وياسر وراتب وغيرهم كثر.
سألني: “وين وصّلتو بالمشروع التواصلي للكلّ الفلسطيني؟ إحنا صرنا مبلّشين، إحنا هون من الخليل وغزة وباقة الغربيّة”. وطلب إيصال تحيّاته للقاء طولكرم ولكلّ الأهل في كلّ مكان.
داهمنا الوقت وكلّه إيمان بحريّة قريبة.
“ تُهنا عن الطريق“
بعد لقائي بخليل، أطلّ الأسير الخليليّ معتز محمد فخري عبد الله الهيموني [2] وبادرني بالسؤال: “شو صار مع البوتقة التي وعدنا بها صديقك جميل؟ قرّبت”، فتبادلنا الضحكات التي أربكت السجّان المُلازم.
حدّثني عن اعتزاله “الفورة” بعد سرقتها (صادر السجان ثلثي مساحتها)، وتقليص فضائها يحثّ على القيل والقال لفقدان الفضاء، ممّا يفسح له المجال للقراءة والكتابة أكثر وأكثر، وتناولنا مجدّدًا طقوس كتابته، وتقدّم مشروعه الروائي “غابة عزازيل” فصارت في مراحلها الأخيرة.
تحدّث بحِرقة عن فقدان البوصلة، “تُهنا عن الطريق وأبعدنا عن كبد الحقيقة”؛ ابتعد حلم الدولة وتحوّل إلى لهاث وراء تصاريح عمل لبناء المستوطنات!
يحلم معتز بحاضنة لكتابات الأسرى، تشجيع الكتابة والنشر وما حولهما وما زال يحمل الراية: “نحن هنا”، لا تنسوا الأسرى وقضيّتهم.
يعوّل معتز على لقاء الكلّ الفلسطيني، وراء القضبان وخارجها، وهو الطريق الأقصر والأضمن لتحقيق الحريّة المنشودة.
يصرّ معتز أن الحريّة إيمان وليس مجرّد حلم عابر ولا بدّ منها.
“لا زمان.. ولا مكان”
التقيت الأسير وليد دقّة [3] في سجن عسقلان؛ مباشرة بعد لقائي بخليل ومعتز، وكانت ميلاده محور بداية حديثنا، واصفًا لي لقاءه الأخير بها بتفاصيل التفاصيل و”هديّته” لها؛ نصف طابة تنس الطاولة لوّنها بالأحمر واضعًا إيّاها على أنفه لإثارتها “لعِبتها مهرّج!” ومفاجأته الكبرى حين عادت إلى البيت و”صنعت” لها دمية مشابهة متمتمةً: “بابا وليد.. بابا وليد”، وتلك كانت من أسعد لحظاته منذ أسره، وحُرم حتى اليوم من عناقها واحتضانها للؤم السجّان وقسوته.
حدّثني عن آخر تطوّرات رياحينه والمورفولوجيا وما حولهما بمواكبة الصديق د. عبد الرحيم الشيخ وصارت في مراحلها الأخيرة، وكذلك عن رسوماته الأخيرة.
حدّثته بدَوري عن عرس صالح أبو مخ واللقاء بناصر أبو خضير.
ناقشنا فكرة مشروع “طقوس الكتابة خلف القضبان” ومشاركته؛ حيث الكتابة دون زمان أو مكان، الكتابة في السجن/ المنفى/ المخيّم/ المعازل والمقابر، زمان ومكان الكاتب والمتلقّي، زمانان ومكانان مختلفان تمامًا، والكلّ مؤقّت: المخيّم/ الشتات/ المنفى والسجن.
لكم أعزائي خليل ومعتز ووليد كلّ التحيات، والحريّة القريبة لكم ولجميع أسرى الحريّة.
حيفا نيسان 2022
___________________
الهوامش
[1] الأسير خليل أبو عرام، اعتقل يوم 30 أكتوبر 2002، حكمت عليه المحكمة العسكريّة الإسرائيليّة بالسجن المؤبد 7 مرات. [2] الأسير معتز الهيموني، اعتقل يوم 25 نيسان 2002، حكمت عليه المحكمة العسكريّة الإسرائيليّة بالسجن المؤبد 6 مرات وعشرين عامًا. [3] الأسير وليد دقّة، اعتقل يوم 25 آذار 1986، حكم بالسجن المؤبد الذي حُدّد فيما بعد بسبعة وثلاثون عامًا، أضيف عليها سنتان يوم 28 أيار 2018.