من تابع ويتابع مسيرة “مسرح الأفق” منذ تأسيسه حتى اليوم يلمس مراحل التطور التي حققها المسرح بشكل دؤوب وطول صبر وجهد متواصل، إلى أن وصل إلى القفزة الكبيرة في تقديم وعرض مسرحيته الجديدة “أنتيغوني تنتفض من جديد” للكاتب والفنان عفيف شليوط، مؤسس مسرح الأفق ومديره الفني. ولم تكن هذه القفزة تتحقق دون قفزات سبقتها ومنها على سبيل المثال مسرحية “بموت إذا بموت” و”مذكرات عاهر سياسي”.
جاء في تعريف المسرحية الجديدة أن الكاتب “يستحضر من خلالها شخصية أنتيجوني التي رفضت الانصياع لقرار الملك كريون بعدم دفن أخيها، لأنه حسب منطق الملك لا يستحق هذا الأخ أن يُعامل بكرامة ويُدفن لأنه برأي الملك يمثل الشر، فيما يسمح بدفن أخيه الآخر الذي قُتل معه لأنه حسب رأيه يمثل الخير. وهنا يُطرح السؤال: أين ينتهي حق الحاكم ومن أين يبدأ حق الشعب؟”
فالمسرحية اذن تتكيء على أسطورة يونانية قديمة، تقول بأن أوديب الذي قتل أباه لايوس وتزوج أمه جوكاستا وأنجب منها أربعة أبناء: إيتيوكليس وأخوه الأصغر بولينيس وبطلتنا أنتيجون وأختها إسمين. ثم فقأ عينيه ولعن ابنيه ودعا عليهما بأن يقتل أحدهما الآخر. وفعلا يختلف الابنان على الحكم، ويتحالف الأخ الأكبر مع خاله كريون ضد أخيه الأصغر بولينيس. ينشب قتال بين الأخوين ويصرع كل منهما الآخر وبهذا تتحقق النبوءة. ويصبح الخال كريون ملك البلاد، ويقرر تشييع جثمان حليفه إيتوكليس ويأمر بعدم دفن جثة بولينيس المتمرد، وتركها مكشوفة لكي تنهشها الوحوش المفترسة والطيور الجارحة. هنا تبدأ حكاية أنتيجوني في مسرحيتنا، حين تتقدم وحدها، لكي تقاوم الملك وحكمه الجائر وتقرر تحدي الأوامر الملكية، وتقوم بدفن جثة أخيها، رغم تحذير شقيقتها إسمين.
لكن أنتيجوني الحديثة لا تتمرد على خالها وأوامره فقط بل على أوامر العادات والتقاليد البالية في مجتمعنا، وتسعى لأن تنال حريتها في الحركة والعمل وتحقيق طموحاتها التي يعرقلها الرجل الشرقي بأفكاره الرجعية. وهكذا تمتزج الأحداث وتتداخل المشاهد، فنرى الشخصيات تنتقل من زمن لآخر ببراعة من قبل الممثلين مما يجعل المشاهد متعلقا بالمسرحية طوال عرضها متابعا تصاعد أحداثها خشية فقدان إحدى حلقاتها. وتتداخل قصة أنتيجوني اليونانية بأنتيجوني الفلسطينية، التي تتعرض للقتل على يد شقيقها، ايمانا منه بانه يغسل “شرف العائلة” من العار، وبهذا تضع المسرحية قضية “قتل المرأة” في مجتمعنا في مقدمة القضايا التي على المجتمع والهيئات المجتمعية والسياسية معالجتها ومحاربتها.
تعالج المسرحية أكثر من موضوع إلى جانب موضوعها الرئيس، وأهمها الحواجز التي تنصب في الشوارع والطرقات، ويقع المارة تحت هوس ورغبة الحارس المسيطر على الحاجز. وبأسلوب ذكي يترك الكاتب أمر هوية صاحب الحاجز غير واضحة ويترك للمشاهد حرية اختيار ما يراه مناسبا. فيمكن ان ترى بهذا الحاجز الحواجز الإسرائيلية التي تعيق حركة أبناء الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال، وما يعانية من مزاجية الجنود الإسرائيليين الذين يتصرفون وفق رغباتهم وأهوائهم ويتلذذون بتعذيب الفلسطينيين. كذلك يمكن أن يذكرنا ذلك الحاجز بالحواجز التي ينصبها أفراد المليشيات والعصابات التي دخلت بعض الدول العربية، واحدثت الفوضى ونشرت الاجرام في تلك البلاد وأخذت تتصرف وفق مصالحها وتعتدي على حرية وحقوق المواطن.
كذلك تتطرق المسرحية إلى مسألة الهجرة الاضطرارية لعدد كبير من الناس إما هربا من الحرب أو من الفقر أو بحثا عن مستقبل أفضل، بأساليب غير شرعية عبر البحر ويقعون فريسة تجار البحر الجشعين الذين جل ما يهمهم الحصول على المال دون الاهتمام بأمان وسلامة المهاجرين.
لقد أثبت عفيف شليوط الكاتب والمخرج، في مسرحيته الجديدة على أنه كاتب مسرحي متمرس وحاذق في اختيار المواضيع ووضعها في قالب مسرحي مناسب، وكي يضمن وصول الرسالة كما أرادها قام بإخراج المسرحية بنفسه. وقام بأداء أدوار الشخصيات في المسرحية: روضة سليمان، أمجد بدر، أمير يعقوب وسها ربيع.
أدى الممثلون أدوارهم ببراعة وتقمصوا الشخصيات التي جسّدوها بشكل مقنع، مما يدلّ على الجهد الكبير الذي بذلوه خلال المراجعات والاعداد للمسرحية. ومن نافل القول الإشارة إلى الفنانة القديرة، صاحبة الرصيد الغني على مسارحنا المحلية، الفنانة روضة سليمان التي أدت دور أنتيغوني بكل براعة، وساعدها على ذلك صوتها العميق الهادر حينا والهاديء حينا آخر، وتقاسيم وجهها التي عكست حجم الآلام التي تعانيها والهموم التي تحملها، ولم يشب أدائها إلا شائبة تحريك الكلمات، ولا أدري لماذا لم تعمل فنانة قديرة مثل روضة على التخلص من تلك الشائبة، وهي ليست بمهمة شاقة أمام ما بذلته من جهد في تقديم شخصيتها لتكون كاملة في الأداء؟
وأثبت أمجد بدر في هذه المسرحية مدى موهبته الفنية في تقمصه للأدوار التي قام بها وإجادته في أدائها بشكل مقنع. كذلك كشفت لنا هذه المسرحية عن موهبة تمثيلية، تبشر بميلاد ممثل ذي شأن مستقبلي على خشبة مسرحنا المحلي ألا وهو الممثل أمير يعقوب، وتبقى الممثلة سها ربيع التي اجتهدت في تقديم دورها لكنها لم تصل إلى درجة إقناعنا التامة بموهبتها، فهي بحاجة إلى تدريبات وصقل موهبتها وخاصة صوتها المسرحي. لكن العمل الجماعي والتعاون بين الممثلين فنيا جعلنا نرى فريقا متفاهما ويكاد يكون متكاملا مما غطى على هفوة هنا أو خطأ هناك.
ولم يكن للمسرحية أن تكتمل وتحصد هذا النجاح دون العوامل الفنية المساعدة والتي ساهمت بشكل واضح في نجاح عرض المسرحية على خشبة المسرح من خلال ديكور وإضاءة عادل سمعان، موسيقى الياس غرزوزي، تصميم ملابس رهام جريس، تصميم حركة أسيل قبطي.
مسرحية “أنتيغوني تنتفض من جديد” لمسرح الأفق، تجمع عناصر وألوان فنية جديدة، وتطرح قضية وربما قضايا جدية، لهذه الأسباب وغيرها فهي مسرحية جديرة بالمشاهدة.