الخطاب في -الرسالة الأخيرة لأب ذر الغفاري- الناقد رائد الحواري

من يتابع كتابات “هادي زاهر” يجدها متعلقة بالوطن وهموم المواطن، فهو الحريص على إتمام هذه رسالة وإيصالها لمجتمعه، وبما أنه يخاطب عامة الجماهير، فهذا يستدعي أن تكون لغته بسيطة وسهلة حتى تكون قريبة من الفئة المستهدفة ومفهومة، لكن هذا لا يعني خلوها من الصياغة الأدبية، فهناك صورة تأخذ البسيط لتصل إلى العميق، وتجعل المتلقي يستمتع بجمال ما يقدم له إضافة إلى الفكرة والتقدمية/الوطنية، فعلى سبيل المثل يرثي ابنه في : “أتراه الحزن لا يرضى بسواي؟”
“…لغتي هربت مني يا ولدي
أتراها ذهبت تبحث عنك
في تربة البلد” ص13

 فهنا الحديث متعلق “بابن زاهر” وقد قدم الشاعر بصورة أدبية مذهلة: اللغة هربت/تبحث عن الابن الغائب، ثم ربطه بالوطن/بالبلد، وبهذا يكون الشاعر قد تحدث عن الوطن بطريقة غير مباشرة، مشيرا إلى حرصه وتعلقه بابنه وبالمكان، وهنا تكمن أهمية الصياغة الأدبية ودورها في أمتاع المتلقي.
يقول في “حضوره فينا كان الدواء” والتي يرثي صديقة “علاء الدين غلو”:
“هذا الغلو سدرة المنتهى
وهذا السمو على أرائك الجنة
علا بها وسما حين أتاها
بحفظ الواحد الأحد
يا علاء العلو والمحبة الغالية
سيذكرك الكرمل في كل حين
كما طلع النهار وغابت الشمس
هيهات ..ينتهي هنا الحنين
سيظل الذروة
في جبين الحاضر والأمس
ومدارته بين عسفيا والدالية
ومهما توالت الأعوام والسنين
ستظل ذكراك مطبوعة في النفس” ص20، اللافت في هذا المقطع كثر الألفاظ المتعلقة بالسمو: “سدرة المنتهى، السمو، الجنة، علا، سما، العلو” فكل هذه الألفاظ متعلقة بالعلو السماوي، لكنه أنه أيضا يعطي المكان الأرضي صفة العلو “الكرمل” الدالية” فرغم أن اسم المكان حقيقي، إلا أنه خدم فكرة العلو التي يريدها للفقيد، وبهذا يكون قد ربط ما هو سماوي بما هو إنساني بما هو وجغرافي/وطني.
في قصيدة “نستطيع” والتي يتحدث فيها عن الفعل/العمل/المقاومة يقول:
” …ونعيد كل ما كان لنا
دون نقصان .. بحتمية الزيادة
ونكف أن يُفعل بنا
وتكون لسوانا السيادة
وإلى متى سنبقى مشروع أمه مبادة
يقف على أطلالها أقزام؟
نحن نشقى.. وسوانا يرقى
ومن بقايانا يشيد له مستقبل
ونحن نستطيع
أن لا نكون كما القطيع
وعلنا أن نكد ونعمل
ونكون كما كنا في الصف الأول” ص43
إذا ما توقفنا عند هذا المقطع، سنجد فيه البعد الوطني والقومي والعروبي، حيث يمكن أخذه إلى أكثر من مستوى، على مستوى الفلسطيني والعربي، بحيث يجد الفلسطيني في ذاته، وكذلك العربي، وهذه الشمولية تحسب للنص وللشاعر، الذي يتحدث بلغة تتجاوز المكان/الجغرافيا لتصل إلى كل العرب أينما كانوا.
ونلاحظ أن الشاعر يعلم الطريقة التي يفكر بها العربي، الإثارة وشحذ الهمم وتعبئة الإرادة، من هنا نجده يركز على واقعنا البائس وفي الوقت ذاته يعطينا الصورة/المكانة التي تليق بنا والتي كانت لنا: “يُفعل بنا/لسوانا السيادة/أمة مبادة/أطلالها أقزام/نشقى/كما القطيع” وهذا الطرح يتناسب مع الواقع العربي ومع عقلية العربي، فالشاعر بهذا التقديم اختزل وكثف وقدم فكرة تقدمية/تحررية بناءة.
وعندما يريد أن يعالج الانحراف/السلبيات في المجتمع الفلسطيني/العرب نجده يستخدم هذا الاسلوب:
“خمارة وسيجارة وبالوعة
لماذا يا هذا تحرف مجرى الغدير
هل أزعجك صوت الخرير
أو أصوات زقزقة العصافير” ص65
الشاعر يبدا الحديث عن جمالية الطبيعة، والتي تخدم فكرة الخير المادي: “مجرى الغدير” والجمال الروحي: “صوت الخرير/زقزقة العصافير” وهو بهذا يعري المنحرف وأيضا يبين له حجم الخراب الذي يحدثه في (الطبيعة/المجتمع)، وهذا ما سيجعل المُخاطب يعيد النظر في سوكه ويتقدم إلى الطريق القويم.
الشاعر الملتزم يأخذ نماذج تقدمية تساعده في إخراج الناس من الظلمات إلى النور، من هنا يستعين الشاعر “بجوليا بطرس” واغنيتها “وين الملاين”
“جوليا ..حنجرة خضراء تنزف
عشبا .. وردا وصلاة
وموسيقى كونية تعزف
الملاين نائمة
***************************************
أن الموقف في مدن الأموات نجاة
اهتفي سيدتي اهتفي
“وين الملالين؟” هل هي أرصدة في البنوك
أم هي جثث بين طنجة وتبوك
.. جوليا حنجرة من ذهب ويمام
راحة المتعبين في فصول الأرض
فلا بد ن سيول جارفة
تزيل الوحم العالق في البلاد
فكيف لأمة في سوق الكساد
تباع وتشترى في المزاد
كأنها حزمة من الحطب
وبعد أن يعتريها الرماد
تُكرم بأن تكون حفنة من سماد
***************************************
صوتك حيت يفيض عذوبة
يملأ أرضنا العطشى خصوبة
ربما ذات نشيد من جديد
تعود الملايين من جديد” ص78-83

 نلاحظ أن الشاعر يقدم صوت جوليا بصورة أدبية شعرية: “حنجرة خضراء تنزف/حنجرة من ذهب ويمام/راحة المتعبين في فصول الأرض/صوتك حيت يفيض عذوبة/يملأ أرضنا العطشى خصوبة” فهو يربط الصوت/الإنساني بالطبيعة، والمقصود بالطبيعة هنا تلك التي نظر إليها الفينيقي/الفلسطيني قديما، حيث الصراع بين الخصب/البعل وخصمه الموت/يم، والجميل في هذا التقديم أنه قدمنا من جديد لقراءة ملحمة “البعل” والطريقة التي تناولت فيها حالة الناس بعد أن غاب “البعل” في العالم السلفي، فالشاعر زواج/جمع بين صوت جوليا وصفات البعل من جهة، ومن جهة أخرى ربط حالة الناس بحالة “البعل” الغائب، مما جعل عودة البعل تتماثل/تتساوي مع عودة الناس عما هم فيه من خنوع وركوع.
وإذا علمنا أن عودة “البعل” تمثل (ثورة/تمرد) على حالة الموت/الغياب، وأن صوت “جوليا” أيضا يمثل ثورة/تمرد على ما هو سائد/حاصل، نصل إلى جمالية القصيدة، وعلى أن النهوض من الموت/الكبوة حالة طبيعية لم تكون وليدة الحاضرة، بل لها جذور تعود إلى أجدادنا الفينيقيين/السوريين، الذين غنوا واحتفلوا بعود البعل/الحياة/الخصب لأرضهم ولهم.
قصيدة العنوان “الرسالة الأخيرة لأبي ذر” يلجأ إلى تذكير القارئ بحقوقه:
” أخي المُعدم
من حقق أن تنعم
***************************************
من حقك أن تترنم
أن تسترخي في ظلال الميسم

أنتفض … أنت وحجر سيان
إن لم تكن زلزالا ..بركان” ص109-111
نلاحظ أن الشاعر يستخدم الفاظ تنتهي بحرف الميم: “المعدم، تنعم، تترنم، الميسم” والذي له إيقاع خاص على أذن المتلقي، فهو من خلال اللفظ والمعنى ويشحذ همم المستمع ليخرج من واقعه البائس وينطلق نحو الحرية/التحرر والتخلص مما هو فيه من بؤس.
وعندما استخدم “سيان، بركان” والتي تلفظ ممدودة تنتهي بألف ونون أراد بها أن تكون منسجمة بين طريقة لفظها الممدودة والمضمون الذي تحمله، استمرار الثورة التي نجدها في “زلزال، بركان”.
الديوان من منشورات دار ابن رشيق، عمان، الأردن، الطبعة الأولى 2021.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*