وقفات على المفارق
الوقفة الأولى… وفاتحة
أن أجد نفسي أكتب هذا وفي ذكرى أيّام استشهاد المناضل عبد القادر الحسيني ومجزرة دير ياسين هو محض مصادفة ويا لها من مصادفة، ولكن هكذا شاءت قراءاتي. وما دام هذا حصل فلا بدّ من طرح المفارقة الكبيرة في روايتنا عن موضوع هذه الوقفات، وهي: حين تتماهى روايتك مع رواية عدوّك في موضوع ما من الصراع، عليك التفتيش عن الخلل الذي عندك وتصحيحه وإلًا فلا تدّعينّ أفضليّة وأحقيّة روايتك في بقيّة المواضيع!
الوقفة الثانية… والهموم
كلّما حاولت أن أوغل في تناول الحقل الأدبيّ وهمومه، وهي لا تقلّ عن هموم بقيّة قطاعاتنا، علّه يريحني عن تناول هموم الوطن التاريخيّة والسياسة بماضيها وحاضرها، يستفزّني كتاب يتناول هذه الهموم مكتوبٌ وفق أجندة الكاتب الشخصيّة أو الفئويّة إعلاءً من شأنه أو شأن قريب أو رفيق درب أو فئة سياسيّة حزبيّة. ومن كثرة ما يُكتب في هذا الشأن وعينيّا حول النكبة هذا “الحدث” المؤسّس في تاريخنا الفلسطينيّ الحديث تراك تتابع بحكم اهتمامك ما يقع تحت يديك بنهم، وآخر المتابعات كُتيّبٌ عن “صفحات من تاريخ ….” (إحدى بلداتنا، فالأسماء في هذه الوقفات ليست المُهمّة)، لتجدك تسأل نفسك السؤال المحتوم: ما دمنا كلّنا نحن و”زعماؤنا” الباقون كنّا أبطالًا ميامين طبقًا لهذه الكتب والرواة فلماذا ضاعت فلسطين؟!
الوقفة الثالثة… والمؤرّخون كثيرو الغلبة
النكبة التي حلّت بنا سنة 1948م ليست فقط نكبة وطن بالمعنى الذي تجذّر في عقل كلّ منّا معايشة أو نقلًا وحسب، هي نكبة مع بعد إضافيّ لأولئك الغالبيّة منّا الذين وبحكم مواقعهم الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة، كانت أمور وطنيّة مطلوبةً منهم لم يفعلوها حينها ولا بعدها خوفًا أو حرصًا على موقع ومصلحة إن لم يكن أكثر من ذلك. أولئك عاشوا في كنف الدولة الجديدة “الحيط الحيط ويا ربّ السترة”، ووجدوا أنفسهم، وإن متأخّرًا، قد عاشوا ويكتنف حيواتهم الصمت وشعورٌ من الذنب الصامت، وما ضجّ صمتهم إلّا بعد أن قام مؤرّخون “كثيرو غلبة” في كشف الكثير من المستور، فراح أهل الصمت هؤلاء يحكون الكثير وبعضهم يكتب، والبعض الآخر كلّفوا من يكتب عنهم أو كُتِب عنهم ودون تكليف على يد قريب عائليّ أو فئوي أو سياسي، وعلى الغالب كان الحكي وكانت الكتابة من باب التبرير والتجمّل والتجميل، فجاء جلّها أو كلّها كذبًا أو التفافًا على الحقائق في أضعف الإيمان!
الوقفة الرابعة… والأفندي
القضيّة ليست الأسماء القضيّة الموضوع كما أسلفت، فالأفندي أعلاه هو لقب لرجل كان قائمًا موجودًا، وهذا الأفندي لصّ أراضيا من فلاحي بلدته مسرح موضوعنا في هذه الوقفات، واستطاع بحكم علاقته بالعثمانيّين تسجيلها على اسمه. دارت الأيّام حسب كاتبنا وإذا بالأفندي يختنق اقتصاديّا أو يكاد فيتوجّه إلى والد الكاتب صديقه: “إنّي متضايق جدّا، ولا أريد أن ألطّخ هذه اللحية البيضاء، ببيع ما أملك من أراضي (الخطأ في الأصل) للشركات اليهوديّة، لأنّ أيّامي على الأرض صارت معدودة، وأريد أن أقابل وجه ربّي غير ملطّخ بهذا العار…”.
ألم يكن نهب أرض الفقراء إلى عارًا؟!
أملاك أفندينا بيعت في النهاية للشركات اليهوديّة، ويتابع كاتبنا “كان (…..) كثير الصلاة، لا يقطعها أبدًا، يحافظ على مواعيدها محافظة تامّة… ففاجأه مجهولون عند عتبة المسجد عند صلاة الفجر فاغتالوه وألقوه في الشارع العام قتيلًا… كان مقتل المرحوم… بهذه الصورة الوحشيّة، أوّل حادث اغتيال يحدث في البلاد…” (1933م)
بغضّ النظر عن الموقف المبدئي من القتل، فكان ما ينقص حسب الكاتب وربّما من الذين لصّ أراضيهم الإعلان عنه شهيد فلسطين وإقامة نصب تذكاريّ له!
الوقفة الخامسة… وقيادة المعركة
يكتب الكاتب: “كان والدي مع (……) في قيادته بجانب المعركة، وكان معه أيضًا، جميع رجالات البلدة، أذكر منهم، الشيخ (…..) (هذا كان قد مضى على تعامله مع الحركة الصهيونية أكثر من عقد، فما له ولقيادة معركة ضدّ الهجناه؟!)، والمرحوم (…..) (وهذا كذلك) و … و …” (ولا يختلف معظم البقيّة). ويضيف:
“وكان المئات إن لم يكن الآلاف من شباب (البلدة) المناضل…”. وفي مكان آخر يقدّرهم ب- 5000 آلاف، وكلّ سكان البلدة لم يتعدوا يومها 2824 نسمة!!!
ليست المبالغة المُهمّة، المُهمّ أن والد الكاتب وأصدقاءه كانوا في القيادة، رغم أنّ بعضهم كان يومها وبعضهم لاحقًا من أعزّ “أصدقاء” الحركة الصهيونيّة وولدتها؛ الدولة حديثة القيام على أنقاض شعبهم!!!
الأنكى من ذلك أن هؤلاء القوم وحسب الكاتب كانوا وغيرهم أعضاء اللجنة القوميّة!!!
الوقفة السادسة… والقائد جابر
يكتب الكاتب: “بعد انسحاب الفوج (…..) في أواسط شهر أيّار 1948” (التاريخ المثبت تاريخيّا للانسحاب 22 أيّار 1948 وكما كان مقرّرا على يد اللجنة العربيّة العليا فمع دخول الجيوش العربيّة تنسحب أفواج جيش الإنقاذ وهذه دخلت يوم 15 أيار 1948)، يتابع كاتبنا:
“… خلت هذه البلدة الكبيرة والهامّة من ناحية استراتيجيّة، من أيّة حامية عسكريّة، تحميها… وتجتمع اللجنة القوميّة العربيّة (!)… وتطلب من قيادة المنطقة… إرسال حامية تستجيب القيادة لطلبهم وترسل إليهم ذات يوم قائدًا عسكريّا عراقي الأصل، يُدعى “جابر”… (يعني أواخر أيّار). ويتابع الكاتب:
“مهما قيل في هذا القائد العسكريّ، وفي “حُكمه” ل (…..) على مدى أشهر قليلة اتّسمت في الكثير من الأحيان بالشدّة والقسوة، في معاملة الناس… إنّ هذا الرجل كان يتمتّع بحق وحقيق، بشجاعة أسطوريّة فائقة نادرة الوجود!!…” ويستطرد:
“إنّ شجاعته هذه، هي التي أودت بحياته، إذ استشهد لاحقًا في معركة “السجرة” اليهوديّة… ولم تُثنه عن عزمه، على الذهاب للمشاركة في هذه المعركة كلّ المحاولات التي استعملها والدي، لإقناعه بعدم ترك البلدة، وهو قائد حاميتها…”
الوقفة السابعة… وخلط شعبان في رمضان
طبعًا “أخونا” الذي رفع من دور والده وأصدقاء والده (أصدقاء لا بل وبعضهم عملاء الحركة الصهيونيّة) في مواجهة اليهود والحركة الصهيونيّة، ويفعل ذلك من خلال الانتقاص من فوج جيش الإنقاذ وتصرّف أفراده ومعركته رغم سقوط العشرات منهم، يعمل كذلك بين السطور على المقارنة بين قائد فوج الإنقاذ وجابر قائد الحامية. ولكّن من خلال “خلط شعبان برمضان”، وكالآتي:
الفوج انسحب يوم 22 أيّار 1948.
اللجنة القومية اجتمعت وطلبت بديلًا من القيادة التي استجابت وأرسلت جابر ومعه حامية. دعونا نعطي ترتيب الأمر يومين (48 ساعة)، يعني وصل (…..) يوم 24-25 أيّار.
معركة السجرة بدأت في 11 حزيران، يعني أسبوعين بعد وصول جابر وحاميته إلى (…..).
فكيف يكون “حُكمه”، كما يطلق عليه الكاتب، دام أشهر قليلة كما كتب أعلاه، إذا كان استشهد في السجرة؟!
دعونا نسجّل لصالحة أنّه ربّما الاستشهاد كان في الجولة الثانية من معركة السجرة وهذه بدأت في 11 تموز 1948 بعد انتهاء الهدنة، والبلدة المذكورة سقطت في 14 تموز 1948، أربعة أيّام بعد انتهاء الهدنة، فكيف يترك جابر البلدة الهامّة الاستراتيجيّة حسب وصف الكاتب، تمامًا في هذا التوقيت؟!
وكيف لنا أن نتبنّى بقيّة “الرواية” والتناقضات فيها لا تقلّ عن هذه لا بل أخطر، وليس كاتبنا هو الوحيد في ذلك، بالمناسبة في كلّ ما يخصّ جيش الإنقاذ والروايات!
الوقفة الثامنة… والخلاصة
القضيّة ليست مع “جابر” ومن وجهة نظري فجابر وكلّ قائد ونفر في جيش الإنقاذ استشهد أو جُرح أو ظلّ حيّا هو بطل من الأبطال. بطل جاء يحمل دمه على كفّه من المغرب واليمن والعراق وسوريا وحتّى يوغوسلافيا، دفاعًا عن فلسطين وأهلها. القضيّة مع هؤلاء الكتّاب وكاتبنا منهم الذين يسيئون لهؤلاء الأبطال ومن خلال تبييض صفحات ذويهم العصبيّين أو الفئويّين أو السياسيّين، ومن خلال المرويّات الشفهيّة في أحسن الأحوال، فيسقطون في شرّ ما يكتبون حين تتضارب رواياتهم من داخلها كما المثال أعلاه عند كاتبنا. فكيف سيطلب منّا الكاتب أن نصدّق ما روى عن والده وأصدقائه؟! وكيف لأمثاله أن يطلبوا منّا أن نصدّق ما يروون وبينهم وبين الدقّة عداوة متأصّلة خدمة لأجندات غريبة.
كنت كتبت كتابي الدراسيّ: “جيش الإنقاذ وظلم ذوي القربى!” محاولًا وبالاعتماد على الوثائق وبالأساس الوثائق العدوّة تفنيد الرواية السائدة وهذا لا يكفي. آن الأوان للكفّ عن ترويج رواية المهزومين والأعداء والمغرضين في حقّ هؤلاء الشباب قادة وجنود جاءونا حاملين الدماء على الراحات ومنهم من عاد ومنهم من بقي في حضن تراب فلسطين، وهذا مطلوب من باحثينا. وكما أنّ هنالك “مؤرّخين جدد يهودًا” يصحّحون الرواية عند الطرف الآخر، فليقم من لدّنا “مؤرّخون جدد” يصحّحون روايتنا، فشتّان ما بين شعب صحيح الرواية وآخر مشوّه الرواية!
سعيد نفّاع
أوائل نيسان 2022