قبل فترة اتصلت بنا صديقة واقترحت ترتيب أمسية ثقافيّة تكريميّة لكاتب ثمانينيّ، وعدّدت مناقبه؛ له إصدارات متعدّدة في القصّة والشعر والمسرح وميوله وطنيّة قوميّة وجدير بأمسية تليق بمشروعه الأدبيّ. كعادتي، تشاورت مع صديق عزيز، له باع طويل في المشهد الثقافيّ المحليّ (الأديب حنا أبو حنا الذي رحل عنا في الثاني من فبراير) فأجابني ساخرًا: “هذا كاتب بلاط، كتب في حينه أنّه يكره حرف الفاء لأنّه أوّل حروف كلمة فلسطين!”. ذكّرني بالمثل الشعبيّ “بفزع بعد ما تخلص الطوشة”.
كثيرون من أبناء شعبنا في الداخل الفلسطيني من ناضل وكافح في سبيل القضيّة منذ النكبة، وعلى مرّ السنين، قالوا كلمتهم بصوتٍ عالٍ ودفعوا الثمن غاليًا، إذ اعتقلوا، وسُجِنوا وفُصلوا عن عملهم، لم يُرضِ خطّهم السياسيّ الحكومة فتربّصت بهم المخابرات الإسرائيليّة بالمرصاد ووُجّهت لهم تهم أمنيّة، حوكموا وتبع ذلك فصلهم من وظيفتهم والتضييق عليهم، ولكن الكثيرين أيضًا مَن هادنوا وتعاونوا مع السلطة لتمرير سياستها التجهيليّة ضد أبناء شعبنا.
منهم من لجأ للكتابة تحت اسم مستعار، ومنهم من لجأ للتورية والرمزية، ومنهم من قاوم بقلمه وريشته ولم يساوم… ودفع الثمن.
لم يتوقّف الشاعر لوركا عن إنشاد قصائد الحريّة في مواجهة رصاص الإعدام من زمرة فرانكو؛ وبابلو نيرودا خاطب جنود بينوشيه حينما داهموه أنّه لا يملك سلاحًا بل سلاحه شعره، لم يقتلوه فورًا حتى لا يصنعوا منه بطلًا، بل سمّموه حتّى الموت.
دفع غسّان كنفاني حياته ثمنًا لضميره وقلمه، مثله كمال ناصر، علي فودة، ناجي العلي وغيرهم، وكذلك الحال مع الشاعر عبد الرحيم محمود الذي قال:
سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى
فإمّا حياة تسر الصديق وإمّا ممات يغيظ العدا
واستشهد في الميدان.
نعم؛ قسم كان ماشي “الحيط الحيط ويا ربّ السترة”… صار هؤلاء أرباب النضال بعد أن تمكّنوا… أين كانوا؟ وأين كانت الوطنيّة؟ هم في القطب الجنوبيّ والوطنيّة في القطب الشماليّ… الوطنيّة عليهم صغيرة… وطنيّة رفاه هذه؟… أنا أفهم المرجلة الوطنيّة والسياسيّة منها، وقت دفعوا الثمن… مش عند ما تصير ببلاش… الوطنيّة اللي ببلاش هذه… وطنيّة رفاه… بعد ما يترفّه الإنسان يصير وطنيّ…
هناك طبقة انتهازية باعت ضميرها وقلمها للسلطة، صارت بوقًا لها ضدّ مصالح شعبها، وأخذت “تُلحوِس” للسلطة وتروّج لسياستها القمعيّة، تبوّأت المناصب لتيسير وتسيير أمور الدولة بما يتماشى مع مصالحهم الشخصيّة وفسادهم، أصبحوا نخبة وصوليّة فاسدة متسلّطة على زمام الأمور. أحاطت نفسها بمجموعة من “السحّيجة” والبكّاءات، أصحاب النفوس الضعيفة والرخيصة، تصرفّت تجاه الغير باستعلاء وكأنّ كلّ شيء مُتاح لها، حلّلت وحرمّت بحماية أسيادها وأصابها جنون العظمة، متعامية عن قضايا شعبها، همومه اليوميّة وطموحاته.
هؤلاء لا يستطيعون العيش إلّا كمتسلّقين على أكتاف غيرهم، يحصدون ثمار ما زرعوا، ومهارتهم في خطف الأضواء لقناعتهم بمرض النسيان الذي يتيح لهم تغيير مواقفهم حسب التيّار، فهم هلاميّون دون عامود فقريّ، تكمن مهارتهم بالصيد في المياه العكرة لتلويثها علّها تغطّي عيوبهم وعوراتهم، مستغلّين قدرتهم على فذلكة الكلام المعسول.
هذه الطبقة مارست الانتهازيّة بحرفيّة مستغلّة أزمة أبناء شعبنا، متلوّنة ومنافقة، طُفيليّة مراوغة، متسلّقة لأبعد الحدود، وما أن تصل سنّ التقاعد وتعتزل الوظيفة حتّى تقلب جلدها رأسًا على عقب. تلعب دور المثقّف الانتهازيّ، يغطّي تواطؤه بالكلام المعسول والمزاودة، ويبدأ بالشعارات الرنّانة ليتسابق إلى المنصّات الوطنيّة علّه يبيّض بعضًا من ماضيه. من المؤسف حقًّا أن منصّاتنا الوطنيّة تمنحهم تلك الفرصة الذهبيّة للظهور وتلميع صفحتهم!
أبدع إدوار سعيد حين قال في كتابه “المثقّف والسلطة” إنّ المثقّف هو صوت الجماهير العريضة الذي يستعمل المعايير الأخلاقيّة التي تخدم الحقّ والعدل كما يقول فولتير، هي أسلوب حياة، إنّها صراع السيف والقلم، غسّان كنفاني وناجي العلي نموذجًا.
يواجه الأديب الفلسطينيّ ثالوث المسلّمات المقدّس: السياسة، الدين والجنس، ذلك الثالوث الذي يقيّد حريّته الإبداعيّة، حيث تَعتبر الدولة صوت المثقّف المعارض صوتًا مُحرِّضًا ضدّها، فتلاحقه وتقمعه جسديًّا وفكريا، فتصادر كتبه وفكرِهِ وقد يتعرض للاعتقال والسجن والتعذيب، وإلى المنفى، ناهيك عن فقدان مكان العمل والحرمان الديني والاجتماعي.
هذا هو وضع حمَلة القلم في الداخل الفلسطيني، أمّا الوضع في امبراطورية رام الله والدولة العتيدة فأصعب بكثير، فهناك الرقيب المحتل الغاشم وهناك الرقيب الأوسلوي الذي يتماشى مع إرادة ومصالح أسياده؛ قلبت المفاوضات المعايير على الساحة الفلسطينيّة والأحزاب صارت انتهازيّة في زمن الردّة الفكريّة والتخبّط وغيّرت “من كان رجل حزب حاد وحازم، تغيّر دفعة واحدة بعد أوسلو، إمّا أصابته ضربة سلطة أو خذلان أصاب قلبه الثوريّ تحوّل من أقسى اليسار إلى أقسى اليمين” كما كتب الأسير باسم خندقجي حين يتساءل “هل كنّا أنظف صغارًا أم أنّنا حين كبرنا اتّسخنا لدرجة أننا نستحمّ في كلّ يوم ألف مرّة لكي تعود إلينا نظافة الطفولة”؟
منهم من لجأ إلى التّاريخ ولا يكتب عن عالمه، فكتب الرواية التاريخية لمُحاربة التغيير والقمع فنجح بكشف العيوب ورأى من مهمّته عدم التستّر عليها، أعاد لنا التاريخ في رواية بأبعاد رمزيّة، كتب الحاضر بأحداث الماضي، فحاضرنا امتداد طبيعي لأحداث الأمس. ثار ضد قمع الانسان في كلّ زمان ومكان. يسرد لنا الحدث التاريخيّ، شعرًا أم نثرًا، مرتكزًا على شخصيّة تاريخيّة أو أسطوريّة، ليجعلنا نستنبط الحالة الإنسانيّة عامّةً، وحالتنا العربيّة والفلسطينيّة خاصّةً لرفض الوضع القائم والتمرّد عليه. يغوص في جدليّة الحياة: هل هناك جدوى من الرفض والتحدّي، وصفّ الصفوف وتجنيد الناس وراء فكر مهما كان ساطعًا مشرقًا إنسانيًّا وعادلا، أم أنّ في الدنيا توازنًا ما يفرضه الأقوياء؟ عندها هل تبقى لجذوة الكفاح نفس الجدوى؟ هو سؤال يخترق التاريخ والمستقبل، ويجثم على كاهل الحاضر. إنّه سؤال يُحرج الأيديولوجيّات المذهبيّة، السياسيّة، العلمانيّة والدينيّة، ويُعرّيها أمام النتائج، يجعلنا نتساءل: ما جدوى رفض القيم القائمة؟ ما جدوى التأرجح مقابل القبول؟ ما جدوى الرفض مقابل الرضوخ؟ هل نتقبّل الوضع القائم كما هو؟ محاولًا صدمنا بالحقيقة.
نعم؛ الاحتلال وغياب الحرية واستلاب الديموقراطية أدّى إلى أزمة حرية حقيقية يشكّل رقابة حادة على الكاتب ليدجّن الرأي الآخر المُغاير ويصبح هامش الحرية المتاح محدودًا جدًا ، فيتنازل الكاتب أو يبحث عن ناشر خارج البلد أو ينشر تحت اسم مستعار، فالرقابة قائمة وتتخبّط وقائمة الممنوعات تزداد والإبداع يُكبت خوفًا من بطش السلطة أو منعًا من الرقابة. فالعلاقة المتوتّرة بين المثقف والنظام، إذ رفضت السلطة الرأي الحرّ المعارض لها ، والجهاز الرقابي مطّاطيّ دون معايير رقابية ثابتة وواضحة، بل تتغيّر ضمن الزمان والمكان، حسب تغيّر الظروف السياسيّة، وضبابيّتها تتّسع من يوم ليوم لتصبح مزاجيّة مُفرطة بموجب معايير يحدّدها الحاكم بأمره.
إن القمع والكبت للحريات من قبل السلطة، ومنع النشر أو تغيير وتشويه النصوص أو مصادرة الكتب وحرقها، أدّيا إلى خلق رقيب جديد أشدّ صرامةً من الاحتلال، ألا وهو الرقيب الذاتي الداخلي/ الأنا الذي تمأسس وتذوّت داخل الكاتب وقيّد حريّة فكره، خلقه وإبداعه، وصادر نموّه وانطلاقته ليتكلّس ويتقوقَع ويتحوّل إلى المراوغة، والتورية، والرمزيّة والتعقيد، ممّا يؤدي إلى أزمة حريّة حقيقيّة تشكل حاجزًا وسدًّا منيعًا أمام تحليقه في سماء الإبداع.
حضرني ما كتبه البرازيلي باولو فريري في كتابه “تعليم المقهورين” حول نشر ثقافة الخوف والخنوع والصمت وقال بأن عملية التحرر لا بد أن تنبع من المقهورين أنفسهم الذين تقع عليهم مهمة النضال من أجل تحررهم ليثوروا على القهر والخنوع ورفض الرؤية الموحدة المفروضة من خلال وأد مهارات التفكير النقدي للواقع والمجتمع والسلطة، ضد عملية التكبيل القهريّة المستمرة. نتاج الكبت والرقابة اضطر الكاتب الذي يرزح تحت نير الاحتلال تفعيل ذاك الرقيب الذاتي فكتب ليرضي السلطة والرقيب، فتبنّى الرقيب الذاتي داخله ليحاول الكتابة لئلا يصطدم بعوائق رقابيّة عند النشر فجاء فكره “مخصيًّا” مشلولًا ذا عاهة، كتابة تفقده الجمالية في التحليق.
ومن هنا؛ من خلال مشواري التواصلي مع أسرى يكتبون، لقاءاتي بهم ومتابعتي لأقلامهم، تبيّن لي أنّ الكتابة خلف القضبان متنفّس للأسير، تجعله يحلّق ليعانق شمس الحريّة؛ من عتمة الزنازين يرسمون الوطن قوس قزح… هم في زنازينهم أكثر حريّة من الطلقاء ذوي النفوس الذليلة، فالحرية هي حريّة الأفكار… بالرغم من أنّهم خلف القضبان، فإنّهم أحرار بعكس الكثيرين خارج القضبان فهم أسرى بمواقفهم. نعم، إنّهم أسرى أحرار رغم القيود اللئيمة!
وأخيرًا؛ الاحتلال ليس فقط احتلال الأرض، بل هو محاولة احتلال ومصادرة المأكل والمشرب والمسكن والموروث الحضاري، وجاءت أقلام الأسرى الحرّة، رغم القيود وعتمة الزنازين، لتحاول تحرير الفكر ورفع السقوف لتطوير الموروث الحضاري، فهم أكثر جرأة وأصحاب رؤية ورؤيا “وبلاقوا حالهم داخل القضبان” وهم المنارة والبوصلة في طريق التحرّر.
***مداخلتي في ندوة “الكتابة في زمن الاحتلال” يوم السبت 26.03.2022 للمركز العربي الأميركي للثقافة والفنون