“نشيد الرجل الطيب” ما بين الواقع والأيديولوجيا – رياض كامل   

مقدمة

يدعونا إدوارد سعيد إلى قراءة ما هو خارج النص، أي قراءة ما يغيب عن النص المكتوب. وهي العملية الأهم، برأيي، في مسار التأويل، وإلا كانت الكلمة في النص لا تحمل أكثر من معناها المعجمي المباشر. تتقاطع هذه الدعوة وتتلاقى مع ما تسعى إليه السيميائية والتأويلية اللتان تبحثان عن المعاني والمقاصد التي يخفيها المؤلف في ثنايا نصوصه. وبالرغم من أهمية هذا الجانب فإن هناك جوانب أخرى لم يعد بالإمكان تحاشيها أثناء معالجة نص أدبي ما حتى تكون عملية التأويل ناضجة فلا تتحول “الدراسة” إلى موضوع إنشائي يشيد بالمؤلَّف أو يذمّه. من هنا نرى إلى أهمية معاينة عملية صناعة النص وطريقة بنائه، وتبيان أهم التقنيّات التي يوظفها الكاتب ودورها في تشييد الجسد الروائي. لم يتوقّف النقاش حول كيفية معالجة النصوص الأدبية منذ زمن بعيد، فهو كان وسيظل الموضوع الأكثر أهمية. يقوم العمل الأدبي على طرح أفكار الأديب بصورة فنّية وبلغة أدبية لها ميزاتها حتى يكون لها وقع أكبر على المتلقّي، تماما مثل فعل الرسم والنحت والموسيقى في النفس والروح والوجدان، لكنّ اللافت، وهذا الأهم، أن النقاش اليوم لا ينحصر في علاقة الشكل بالمضمون في عرضه التقليدي لأنّ التقنيّات الحديثة التي يوظّفها الروائيون ومساهمتها في تهشيم الزمن وتفتيته تعمل كلها على تطوير السرد بصورة جذريّة. وبالتالي فإن دراسة اللغة باتت هي الأخرى مغايرة عما كانت عليه من قبل، وأكثر عمقا وأكثر تشعبا، لأنها أحد العوامل الهامة في تحديد هوية الكتابة.

لقد اهتمت الرواية التقليدية بالمضمون أكثر من اهتمامها بالشكل، وكان الروائيون في الغرب، قبل الشرق، يسعون إلى إيصال الرسالة (message) إلى القرّاء من أجل تقويم النفوس. وقد شغل العرب بذلك مع بدايات نشوء الرواية العربية الحديثة، لدرجة جعلت بعضهم يقفون ضد الروايات “غير الأخلاقية” التي طرحت قضايا الحب، والعلاقة بين الرجل والمرأة، على سبيل المثال. شكّل ظهور المدرسة الشكلانية الروسية تحولا لافتا في النظر إلى الرواية وشكلها، وعزّزت البنيوية هذا الدور وطوّرته وجعلت صورة العمل ومبناه الفنيّ النقطة الأهم، ونظرتْ إلى النص من الداخل تستجلي مكامن القوة والضعف. ثم جاءت نظريات ما بعد البنيوية ونحت مناحي جديدة، فدمجت ما بين الخارج والداخل واهتمت بالقارئ ودوره في تحليل الرواية وتأويلها وفكِّ رموزها وإشاراتها ودلالاتها معتبرة أنّ لكل عمل خالقا يعطي نصا، وقارئا متمرّسا يعمل على تأويله.

من هذا المنطلق نلج عالم رواية “نشيد الرجل الطيب” (2020) للروائي قاسم توفيق، التي تحمل أيديولوجيا تعيد إلينا بعض مفاهيم الواقعية التقليدية، وبالذات الواقعية الاشتراكية، لكن دون التقيُّد بكل تلك الأصول المعهودة التي ميزت تلك المدرسة. تصور الرواية أحداثا مستمدة مما يدور من صراعات سياسية وعسكرية في أكثر من قطر عربي، وأبعادها وتأثيراتها على المواطن العربي سواء كان غنيا أو فقيرا.

 

تمهيد

لا غرو في أن أحد أهم مَهمّات الأدب الواقعي، وخاصة الواقعي الاشتراكي، كان يهدف إلى تصوير الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي بهدف تغييره وخلق ما هو أفضل وفق هذه الرؤية، ولقد شهدت “الواقعية”، على اختلاف تشعباتها، تجاوبا لدى بعض الروائيين العرب، ولربما كان الروائي السوري حنا مينة أحد أهم من تبنّى هذه الرؤى في رواياته. من واجب الباحث أن يشير بوضوح إلى أن الواقع يتغيّر وفق عوامل خارجية وداخلية متعددة تؤثّر فيه. فما كان يشغل المواطن العربي في النصف الأول من القرن العشرين كان التحرُّر من نير الاستعمار وإقامة دولة مستقلة، ولمّا تحقّق له ذلك تغيَّر الواقع، نوعا ما، وبات الصراع يدور بالأساس مع السلطة الحاكمة بكل مركباتها. وكان من الطبيعي أن يتجاوب العمل الأدبي مع هذه التحوّلات السياسية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية. لا يفوت دارس الرواية دور هذا الجانر الأدبي الحديث في مواكبة هذه المتغيّرات، ومعاينة حيثياتها وأبعادها، دون فصل ما يحدث في الداخل مع ما يجري في الخارج، ما يؤكّد على الرؤية التي تقول إنّ العالم بات قرية صغيرة، فما يحدث بعيدا ستكون له أبعاد في كلّ بقعة على وجه الأرض.

ليس من وظيفة هذه المقالة أن تقوم بدراسة تاريخية واجتماعية، لكن من الواجب الإشارة إلى أنّ المنطقة العربية لم تعرف الهدوء والاستقرار منذ بداية القرن العشرين وحتى اليوم، وأن “استقلال” الدول العربية لم يجلب للمواطن العربي الهدوء والرفاهية، بل إنّ المنطقة العربية تشهد في الآونة الأخيرة صراعات واهتزازات ليست أقل عنفا من الحروب السابقة، إن لم تكن الحالية أكثر فتكا، خاصة ونحن نعيش تبعات هذه الصراعات والحروب التي جعلت الأخ عدوا لأخيه، لا مجرد خصم سياسي.

تعمل رواية “نشيد الرجل الطيب” على معاينة مصير المواطن العربي، في ظل الواقع المؤلم، وتأثيره على حياته اليومية على أكثر من صعيد. فما يحدث بعيدا، لم يعد بعيدا، إذ يتعرض المواطن لتبعات هذه الأحداث وارتداداتها، فتنال منه حيثما تواجد. وللحقيقة فإن هذه الرواية قد استمدت أفكارها وشخصياتها من آخر الأحداث التي تعصف بالعالم العربي، ومن تفشي الفساد في الكثير من مناحي الحياة، فقامت بمعاينة ما يحدث من خلخلة في تركيبة المجتمع العربي، وارتادت عالما حقيقيا ليس بعيدا زمنيا أو مكانيا.

لا نعتبر ما قلناه أعلاه اختراقا لعالم روائي لم يلج فيه آخرون من قبل، لكن للدقة نقول بأن الجِدَّة، وهذا هام جدا، هو في متابعة آخر ما يحدث على الصعيد العام وعلاقته بما يحدث على الصعيد الخاص. ففي الرواية تصوير لشرائح عدة من المجتمع العربي: الفقير والغني، الرجل والمرأة، المثقف وغير المثقف، الكبير والصغير في ظل آخر المستجدات على الساحة العربية وانعكاسها على بنية المجتمع وعلى شبكة العلاقات الاجتماعية، وما تمخّض عنها من متاعب وهموم. إنها رواية تدخل في صلب الحياة اليومية للمواطن، على اختلاف انتماءاته الفكرية والطبقية، وتتوقف عند ظاهرة تجار الحروب الذين يبنون “امبراطورياتهم” على حساب دماء الفقراء وعرقهم. هي رواية الواقعية الجديدة التي تنظر إلى ما يحدث الآن في القرن الواحد والعشرين.

 

بين المركزي والهامشي

عنيت الرواية العربية، منذ بداياتها، بطرح مواضيع تهم المجتمع العربي بهدف معالجة الآفات الاجتماعية التي تنكِّد عليه حياته. تختلف هذه المواضيع وفق التغييرات والتبدّلات التي يفرضها المكان والزمان، وما يطرأ من تحولات على الصعيد العالمي والمحلي. فالحروب تأكل الأخضر واليابس وتخلق فئات اجتماعية متناحرة، يستفيد منها من هم أكبر من تجار الحروب المحليين، فيما تلوك آلة الحرب أجساد الفقراء والضعفاء. اختار قاسم توفيق في روايته “نشيد الرجل الطيب” أن يخوض في تجربة الظلم الذي يتعرض له المواطن العربي العادي الباحث عن لقمة العيش، وهو يسير في طريق يعرف أولها ويجهل نهايتها، في ظل ظروف قاسية جعلت منه مجرد ريشة تحركها الرياح الهوجاء أينما شاءت، دون أن يتمكن من الوقوف في وجهها.

تبنى الرواية على أكثر من حدث وعلى أكثر من شخصية، للإحاطة بعوالم الفساد الواسعة، فترسخ الأحداث في ذهن القارئ وتتحول الشخصيات إلى رموز تحمل كل منها مواصفات الطبقة التي تنتمي إليها. إذ حين ينخر الفساد في رب البيت الغني فإنه ينتقل إلى الجيل الذي يليه، وحين يقع رب البيت الفقير تحت طائلة الإجحاف فإنه ينتقل أيضا إلى الجيل الذي يليه.

يتأثر الروائي قاسم توفيق مثل بعض الأدباء والفنانين في العالم العربي من حال الفساد ومن تفشيه وانتشاره في مناحي الحياة: السياسية والاجتماعية والفنية والفكرية. فعمد إلى كتابة رواية شاملة موجها نقدا لاذعا باتجاه عدة جهات جعلت حياة المواطن العربي “الطيب” مجرد دمية تحركها أيدي الكبار الخفية دون أن يتمكن هذا “الطيب” من الدفاع عن ذاته، بل ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، إذ بيّن كيف يتحول المواطن العادي إلى حجر أو سهم يوجّه نحو أبناء طبقته من الفقراء والمقهورين.

من الواضح أنّ واقع الروائي هو المعين الذي ينهل منه مواضيعه، وقد عاين قاسم توفيق هذا الواقع وهو العالِم أنّ الأمور لا تبقى على حالها، لأن الواقع متغيّر ومتبدّل، فاختار الخوض في موضوع حارق يشغل المواطن العربيّ عامة لا الأردني فقط، فما يحدث هنا يتأثّر به القريب والبعيد. التقط الروائي من واقعه موضوعه المرعب وكتب فيه. ونحن نؤكد اليوم أن الواقع، على ضوء المتغيرات العالمية، لم يعد مقتصرا على البؤرة الضيقة التي يعيش فيها الكاتب، رغم أنّها الأهم، فالتكنولوجيا الحديثة جعلت من العالم الواسع بؤرة صغيرة مترابطة تؤثّر وتتأثّر بشكل سريع فاق الواقع القديم.

أراد الروائي أن يقدم للقارئ العربي وجبة “دسمة” من عالم الفساد المتفشي في المجتمع على اختلاف انتماءاته، وكان التركيز على شخصيتين لكل منهما مواصفاتها ودلالاتها: إحداهما رجل يعمل في التجارة، والأخرى رجل كان ينتمي للحزب الشيوعي، لكنّ الأحداث تتفرّع لتأخذ القارئ باتجاهات بؤر فساد متعدّدة تنخر بالمجتمع مثل حال المؤسسات الثقافية، والخيانة الزوجية، ومكانة المرأة واستغلالها، وغدر الصديق، والممالأة والنفاق. يتوزع القارئ بين كل هذه المحاور، ويحاول ربط الخيوط فإذا بها تأخذه إلى المركز الأهم وهو عالم رجال الأعمال الذين يجنون أرباحا طائلة من خلال تجارة السلاح والمخدرات؛ فالسلاح يؤدي إلى القتل والتدمير على الصعيد العام للمنطقة، والمخدرات تعمل على فساد المجتمع وضياعه. ويكون المواطن هو الضحية في كلتا الحالتين.

إن هذين النوعين من التجارة أكثر إيذاء وفتكا من أي فساد آخر، ولا يقارن بما حدث داخل “الحزب الشيوعي” من تفسّخ وتشرذم، وبالتالي فإن القارئ يخرج من الرواية مشحونا بالغضب تجاه تجار السلاح والمخدرات. لذلك كنت أتمنى على الروائي أن يركز الأحداث في النقطة الأهم القادرة على مخاطبة شرائح أوسع من المجتمع العربي في معظم الأقطار العربية، وأن يفصل كليا بين بؤرتي الحدثين وما يتعلق بهما. فتلك حكاية وهذه أخرى، رغم قيام الروائي بالربط بين الأحداث، لكننا نرى أن حجم تأثير التجارة بالأسلحة والمخدرات وانتشار الفساد لا يتلاءم مع الموضوع الآخر ولا يتماشى معه، خاصة وأنّ الرواية تبُرز ما تعرض له الشيوعيون هم أيضا من ظلم وضيم. ويقيني أنّ القارئ العربي سيتفاعل أكثر مع القضية الكبرى التي تهمّ كل قارئ عربي حيثما تواجد، وقد يتعدى ذلك باتجاه القارئ الأجنبي، الذي تنقصه المعلومات حول تجارة السلاح والمخدرات ومصادر إنتاجها وتوزيعها فيما لو ترجمت الرواية. لم يفت الروائي قاسم توفيق، صاحب التجربة الطويلة في الكتابة، الذي يتحلى برؤية شمولية وبثقافة واسعة في مواضيع عدة أن يربط بين بؤر الفساد المحلية ومحركها الأكبر.

 

افتتاحية الرواية ودورها

تثير الصفحات الأولى من الرواية التساؤل حول دور الافتتاحية وأهميتها في مبنى العمل، فقد بذل الروائي قاسم توفيق جهدا كبيرا في جعلها جذابة ومثيرة ومستفزّة للقارئ لمتابعة القراءة وملء الثغرات، عبر عرض يتحرك ما بين الداخل والخارج، وتوظيف ضميري المتكلم والغائب، حيث يتيح الأول الدخول في هواجس الشخصية، ويساعد الثاني في التصوير الخارجي. يكتشف المتلقي بعد الانتهاء من قراءة الرواية والعودة إلى الافتتاحية من جديد ما تحمله من تكثيف يكاد يوحي بأهم أحداث الرواية. فما أثارته من تساؤلات في اللقاء الأول يكشفه اللقاء الثاني، لتكتمل الصورة في ذهن المتلقي، وذلك بفضل توظيف لغة شاعرية غنية عمدتها التوصيف والتكثيف والإشارات والتلميحات إلى ما كان أو ما سيكون.

تساهم هذه الافتتاحية، كجزء هام من العتبة، في الدمج ما بين الواقع والخيال وبين الوهم والحقيقة، وترسم صورة دقيقة وعميقة للشخصية التي تقبع ما بين الغيبوبة والوعي، والإدراك والضياع، فبدا وكأنّ الرجل يهيم في زمان ومكان ضبابيين، وقد ساهم تداخل الأصوات في خلق هذه الضبابية عبر توظيف ضمير المخاطَب المغلَّف بضمير الغائب/ صوت الراوي الرئيسي منذ السطر الأول من الرواية: “أواه، أين توارى عنادك أيها البغل؟”.

قام الروائي، أيضا، بتوظيف تقنيّات سينمائية تساهم في نقل أصغر حركة قد يقوم بها الجسد، وتتيح المجال لسماع أي صوت مهما كان خافتا. واللافت في الأمر أنّ “مسعود الصانع” الشخصية التي تتمحور حولها الافتتاحية كان يعمل مصورا، فجاء العرض من وحي مهنته التي يحسن اتقانها حيث يعمل على كشف دواخل زبائنه أثناء التقاطه صورَهم، دون الاكتفاء بالملامح الخارجية. فقد كان من عادته أن يطلب من الواقف أمام كاميرته أن يمتثل لطلباته حتى يتمكن من التقاط الصورة كاملة، فكانت هذه العملية تتيح له اكتشاف مكنون النفس.

بات مسعود الصائغ يتصرف، بعد هذه التجربة الطويلة في العمل، كمصور محترف حيثما تواجد، لكن هذا السائق، الذي داهمه بغتة، وهو يقف على الرصيف يتحيّن الفرصة المواتية لعبور الشارع إلى الجهة الأخرى، قطع عليه كل أحلامه. عاده طيف هذا السائق الشاب الأرعن، وهو بين يدي الطبيب الذي يقوم بمعاينة وضعه في “غرفة الإنعاش” حتى يقرر الخطوة العلاجية القادمة: “لاح له طيف خفيف قبيح، ظِلّ ذاك الشاب الأرعن وهو يقود سيارته بسرعة هائلة، جاءه من اللامكان، شكله يشي بأنه مفزوع ومرتبك، “يا إلهي، كم هو ممتلئ بالفراغ هذا الصغير”، لم يعطه الوقت لأن يصوّره ويستل الفراغ الذي يسطو على حياته؛ بل اتجه صوبه مندفعا بسيارته وكأنه يفتّش عنه، تعجُّله وعبثُه لم يوصلاه إلى خلاصه، بل دفعاه لأن يلقي بالفراغ الثقيل الذي فيه على كائن لا يعرفه”. (الرواية، 18)

وكما تلتقط كاميرا المصور أبسط ملامح الزبائن تمكنت عينا مسعود الصائغ من التقاط ملامح هذا الشاب وما يدور في داخله من فراع، فقد بات يتصرف كمصوّر في كل مكان يتواجد فيه: في غرفة التصوير، في الشارع وفي المستشفى. تكشف هذه الافتتاحية عن رؤية الروائي من خلال تركيز الضوء على شخصية من شخصيات الرواية، التي تحمل سمات إيجابيةً قريبة من القراء الذين سيتضامنون معها نتيجة ما تعرضتْ له من غبن وظلم من جهات عدة. يتكشف كل ذلك في الصفحات التالية، عبر الفلاش باك، فيما يقبع هذا الرجل الضحية، حاليا في المستشفى ما بين الحياة الموت إثر قيام شاب متهور بدهسه، كما ذكر أعلاه.

عمدة هذه الافتتاحية الترميز البعيد عن المباشرة، وتوظيف الإشارات التي تثير المتلقي عبر التركيز على الداخل أكثر من إبراز الصورة الخارجية، رغم أهميتها، وبالتالي تحدث عملية المواجهة بين النص والقارئ، ويكون التأثير والتأثّر بينهما خطوة هامة لمتابعة القراءة ومحاولة إدراك ما يرمي إليه الروائي، تتبعه عملية التحليل والتأويل. يرى المتلقي إثر هذا التفاعل بينه وبين النص أنّ مسعود الصائغ الذي لا يعرف دوافع هذا التصرف الأرعن، ولا يدرك ما سيؤول إليه حاله، وهو ممدد بين يدي الطبيب في غرفة الإنعاش أنّ هناك أناسا مجهولين يقرّرون مصائر بعض الناس فيما تحركهم، هم أيضا، أصابع خفية، وبالتالي فإن المواطن يقع تحت رحمة من هم أقوى منه، يتجبّرون ويتحكمون به وبمصائر الضعفاء والبسطاء والفقراء. تتوالى الأحداث لتكشف الظلم الذي يخيّم على شرائح عديدة من المجتمع لا لسبب سوى أنها مُستضعَفة، لا تسعف بعضَها الدراسةُ الجامعية في الدفاع عن نفسها أمام الغني المتجبّر الجاهل.

تعتمد هذه الافتتاحية على التكثيف عبر التلميح والإشارة، ما يجعل النص جاذبا للقارئ المتلقي الذي يتابع في كشف خفايا النص وتفكيك أسراره ورموزه وما أثاره من تشويق عبر اللغة الشاعرية المكثّفة. تثبت هذه الافتتاحية ما صرّح به كثير من الروائيين حول مدى صعوبة اختيار الفقرة الأولى ومدى أهميتها من الرواية، التي تحمل أهم جينات النص، وتؤكد على ما قاله بعض الباحثين حول دورها ومساهمتها في نجاح بعض الروايات العالمية الشهيرة. إننا نرى أنّ هذه الافتتاحية هي أكثر مركبات الرواية نجاحا بفضل اللغة الشاعرية، من ناحية، وبفضل الفصل التام بين الروائي والراوي، من جهة أخرى، عبر تداخل ضميري الغائب والمتكلم، والفصل بين قول المؤلِّف وقول المتكلِّم، فبدت الشخصية التي خلقها الروائي مقنعة ومستقلة عن خالقها، رغم إحاطتها بصوت الراوي، وقد كنت أتمنى أن يكون هذا الاستقلال تامّا لا شبه استقلال فيما يلي من أحداث الرواية.

 

تقنيات السرد ودورها

يستهل الراوي الأحداث بسرد قصص متنوعة من عالم الناس العاديين، فتتكشّف أمام القارئ مباشرةً حالةُ المواطن العربي المغلوب على أمره، ثم تتفتّح الأحداث بشكل تدريجي لتميط اللثام عما هو أكبر من مجرد استغلال الغني للفقير والقوي للضعيف، ويبدو كأن تغيّر مسار الأحداث مفاجئ للشخصيات الروائية مثلما هو مفاجئ للقارئ، وأنّ هناك خيوطا تحاك في أماكن مجهولة تجعل حياة الناس ومستقبلهم غامضين ومجهولين. يوظّف الروائي لوحة الجيوكندا، التي رسمها بمهارة عالية ليوناردو دي فينشي (الموناليزا)، توظيفا رائعا للإشارة إلى حالة الغموض وعدم إدراك حقيقة ما يجري، وهي اللوحة التي أشغلت الفنانين والدارسين والسيكولوجيين، وما تزال، حول ما أسموه ابتسامة الموناليزة، ومدى حقيقة هذه الابتسامة.

يعرض الروائي في روايته أكثر من حكاية، في أكثر من موقع، فيقوم بنسج الأحداث موظّفا أكثر من تقنيّة يتداخل فيها القديم والحديث من أساليب القصّ، ينتقل من السرد المباشر نحو الوصف ببعديه الخارجي والداخلي، وتتبدّل الضمائر وتتداخل وتتقاطع وتفترق، ليخلق الروائي عوالم متنوعة تخدم هدفا واحدا: تعرية ما يراه فسادا في بنية المجتمع والمؤسسات، على اختلاف انتماءاتها الفكرية، سواء كانت هذه الفئات تنتمي لما يسمى الطبقات العليا أو الدنيا. لذلك فإن أيديولوجيا الروائي كانت تقوده نحو كشف المسكوت عنه، حيث يتمدّد الفساد ويطال شرائح متعددة كفعل المرض الخبيث الذي ينتشر دون أن يكون له علاج.

يصاب القارئ بالحيرة وهو ينتقل من قصة لأخرى، أو من حكاية لأخرى، ما بين سرد تخييلي وآخر يبدو كأنه سرد لسيرة ذاتية أو غيرية يفتقر للتخييل. وبالذات حين تعرض بعض الأحداث بصورة مباشرة يحركها الروائي، بشكل علنيّ، من خلال الراوي غير المتخفي الذي يبدو للقارئ أنه ينطق بلسان الروائي.

تقوم الرواية عادة على المراوغة في السرد في اعتمادها على تقنيّات فنية تجعل السرد يوهم القارئ بواقعيّة الأحداث فيُقبل على متابعة القراءة مشدودا إلى قبولها والتجاوب معها. يشعر القارئ وهو منغمس في عملية قراءة رواية “نشيد الرجل الطيب” أنه يراوح بين المباشرة والخيال. لذلك كنت أتمنى على الروائي أن يحافظ على نفس التكتيك الذي وظّفه في الصفحات الأولى للرواية، خاصة وأن التقنيّات هناك تتناسب كليا مع الموضوع الرئيسي للرواية، الذي يطرح فكرة ضياع المواطن العربي، وعدم قدرته على تحديد مساره ومسيرته لأنّ هناك قوى فاعلة أقوى جعلت منه مجرد أداة ينفّذ مشيئتها وكأنه إنسان آلي مُسيّر تحركه أصابع خفية.

إن توظيف الروائي تقنيّات تيار الوعي هي الأكثر ملاءمة والأكثر تجاوبا مع موضوع الرواية، إذ جعلت القارئ يتابع تطور الأحداث، من خلال الاطلاع على ما يدور في فكر الشخصية عبر السرد النفسي، المونولوج والمونولوج المروي (Narrated Monologue). ساهمت هذه التقنيات في تحييد الراوي الرئيسي، وانفصاله كليا عن الروائي. إن الوظيفة الرئيسية لتيار الوعي هي إتاحة المجال لمعرفة الداخل من ناحية، والعودة إلى الماضي من ناحية أخرى، وتخمين ما يمكن أن يحدث مستقبلا، مما يساهم في تشويق القارئ ولملمة الخيوط. وقد أجاد الروائي في ذلك في الكثير من المواقع الهامة من الرواية، مما يتيح المجال لسماع أصوات متعددة ومتناحرة. فهل تمكن الروائي من خلق رواية ديالوجية متعددة الأصوات، ومتحررة من سلطة الروائي والراوي الرئيسي؟

يعتبر ميخائيل باختين من أهم المنظرين الذين تحدثوا عن أهمية تعدد الأصوات وبالتالي تعدد اللغات، وجاء من بعده منظرون آخرون تناولوا هذا الموضوع وعملوا على تطوير الفكرة. نحن نرى أن الرواية أية رواية يجب أن تخلق عالما، وعمدة هذا العالم هو التضاد والتناقض والاختلاف، لأن الرواية مهما اختلف موضوعها، تصور ظاهرة معينة، أو شريحة معينة من المجتمع، مهما اختلفت نسبة التخييل فيها. فالحياة مزيج من أصوات ومن آراء متعددة، وبالتالي لكل شخصية أو مجموعة من الشخصيات صوتها ورؤيتها وفكرها، ولها موقعها الاجتماعي الذي تعبر عنه باللغة. واللغة، كما بات معروفا للجميع، ليست مجرد فصيحة وعامية، بل هي لغات تحمل أيديولوجيات متعددة ووجهات نظر متعددة. لقد عمل الروائي فعلا على التنويع اللغوي فظهر الفارق جليا بين لهجة القوي المتجبر ولهجة الضعيف المسيَّر، وبين لهجة التاجر الكبير ولهجة التاجر الأصغر والصغير، وبدا جليا لهجة الفاسدين ومن يعملون على نشر الفساد، لكن كثرة تعليقات الروائي وتدخله كانت تلغي تعدد الأصوات وتشله، فيبدو للقارئ وكأن الراوي يلخص وجهة نظره التي يصر الروائي على ترسيخها في ذهن القارئ ووجدانه.

يبدو للقارئ، وكأن الروائي قد أخذ على عاتقه أن يعرّي كل مناحي الفساد المنتشرة، في أكثر من مكان، وفي أكثر من مؤسسة أو تنظيم سياسي أو اجتماعي أو تجاري. يتنقل الراوي من فضاء إلى آخر ومن حدث لآخر، وقد تتغير الضمائر، من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم والمخاطَب، دون أن تتغيّر “وجهة النظر” (Point of View). لكن ما يعلق في ذهن المتلقي أنّ الروائي لا يختفي عن الساحة إلا ليعود سريعا حاملا الرؤية الرئيسية التي تنتقد بؤر الفساد المتفشية في الطبقة الغنية، ومعاناة ضحاياها من الفقراء وعامة الناس. تختلف الأسماء ولا تختلف الأسباب والنتائج. وبالتالي تحمل الرواية صوتا واحدا هو صوت الراوي العليم المهيمن الذي يحمل أيديولوجيا الروائي، حتى وإن تبدلت الأماكن وتغيرت الأسماء.

لا تساهم كثرة الأحداث، ولا كثرة الشخصيات، وتعدد الحكايات المرويّة في خلق رواية ديالوجية، بل تهيمن المونولوجية على مسار الرواية وعلى الرؤية الفكرية التي تبثّها الرواية من أكثر من زاوية، لكنّ القارئ يخرج من الرواية وقد حمل وجبة تحريضية ضد الظلم والظالمين، وضد الفساد والفاسدين، وضد القتلة على أنواعهم؛ قتلة الروح وقتلة الجسد.

ما يشفع للرواية وما يجعلها قادرة على مخاطبة القارئ وتحريضه هو الوصف الدقيق واللغة الشاعرية، وقدرة الروائي على لملمة خيوط الرواية، وهو الكاتب المجرب الذي طرح مواضيع حساسة جدا ومؤلمة وقادرة على تثوير أكثر من شريحة، دون الاكتفاء بدغدغة المشاعر لأنها مواضيع حارقة تنغّص حياة الإنسان العربي الذي يواجه اليوم أعتى أنواع العنف على اختلافه.

 

خلاصة

قدّم لنا الروائي قاسم توفيق رواية تمتح أحداثها من عالم الحاضر، حيث ينتشر الظلم والفساد والقتل والتشرّد وتجارة الأسلحة والمخدرات، وانعكاس ما يحدث في قطر عربي معين على بقية الأقطار. فما يدور بعيدا هناك له انعكاس هنا، إذ سرعان ما يدخل كل بيت وكل زاوية. من هنا لا ينظر القارئ إلى الرواية وفضائها المرسوم بمعزل عن فضاءات عربية أخرى، ففضاء الرواية يبدو مقتصرا على دولة دون سواها، وعلى مجتمع دون سواه. لكن فضاء التخييل النقدي أجاز لنا رؤية أن ما يحدث في هذا القطر العربي ينسحب على ذاك. وما هؤلاء التجار، على اختلاف انتماءاتهم سوى صنارة يصطاد بها الكبارُ الصيادين الأصغر منهم حجما وتأثيرا. وهم جميعا، في نهاية المطاف، ليسوا سوى أداة يتحكّم بها من هم أقوى وأقدر على الصعيد الدولي، لذلك ليس عفوا أن رأينا عالمهم ينهار مثل بيت العنكبوت.

تقوم الرواية بالتركيز على انتشار الفساد: عوامله الداخلية والخارجية، وتجبّر الغني بالفقير والقوي بالضعيف، وتسييره في طرق يجهل أولها كما يجهل آخرها، لذلك فهي رواية الواقعية الجديدة التي تعاين حياة المواطن العربي، كضحية لهذا الواقع. إن رواية “نشيد الرجل الطيب” ليست نسخة طبق الأصل عن الواقعية الاشتراكية، في مفهومها الكلاسيكي، خاصة وأنها تكتسب من الروايات الحديثة أهم تقنيّاتها، وإن كنت أتمنى أن يخفت صوت الروائي وصوت الراوي الرئيسي أقلّ لتبرز أكثرَ أصواتٌ أخرى أراد لها الروائي أن تكون في طليعة هذه الأصوات التي تحمل فكر الفقراء والمستغَلّين والمغلوبين وضحايا القهر والاستبداد.

قام الروائي بتوظيف عدة تقنيّات فنية لتساهم في الكشف عما يدور في النفس البشرية وما يكابده المواطن العربي، على اختلاف انتماءاته الفكرية والطبقية، من ألم ووجع. ونحن نرى أنّ اعتماد الروائي على تقنيات رواية تيار الوعي؛ المونولوج، المونولوج المروي، المناجاة، الذكريات، الفلاش باك والأحلام هي الأكثر قوة في مبنى الرواية وهي التي كشفت ما يدور في فكر الضحية من مشاعر الإحباط والألم النفسي في افتتاحية الرواية التي نراها الأكثر قوة ونجاحا في مبنى الرواية عامة. هذه الافتتاحية التي نجحت في خلق عالم سردي مُتخيَّل وجذاب.

يلتصق الروائي بالواقع، أحيانا، على حساب التخييل إلى درجة الكتابة التوثيقية (انظر ص100، على سبيل المثال) مما جعل الرواية تحمل صوتا واحدا محددا هو صوت الروائي على حساب أصوات شخصيات أخرى مثل صوت المرأة المقهورة التي كان ممكنا العمل على تكثيف قوته وتوسيع حيز التخييل والإيهام بالواقع في أكثر من موقع، لكن إصرار الروائي على كشف وحشية الفساد المتفشي في أكثر من ناحية من نواحي الحياة وتصويره بشكل مباشر قريب من التوثيقية حال دون خلق رواية ديالوجية. وكان الانتقال من حكاية لأخرى أشبه بسرد مجموعة من القصص “الحقيقية” التي تحاكي الواقع.

تكمن نقاط قوة الرواية في جماليات الوصف ودقته في تصوير مشاهد تفتح أفق القارئ وتحثه على سبر غور النص، أفقيا وعموديا، دون الاكتفاء بالمشهدية بقدر الاهتمام برؤية ما بعد النص، وما تضمره اللغة المكثّفة من تلميح وإشارات (انظر ص89-90، على سبيل المثال) تجعل مجموعة أحداث تتكثّف في بضع جمل قصيرات تنبثق منها عوالم نابضة بالحياة. هنا بالذات يخفت صوت المباشرة وتتجلى اللغة الشاعرية في أجمل صورها وأكثرها عمقا، وتكون الغلبة للمتخيَّل السردي على حساب السرد لمباشر مما يفسح المجال لأكثر من صوت، ولأكثر من رؤية، حيث ينفتح النص على أكثر من تأويل متخيَّل.

رياض كامل

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*