الوقفة الأولى… مع جبران وكندي.
نقتبس المقولة المنسوبة إلى الرئيس الأميركي الأسبق جون كندي، متجمّلين: “لا تقل ما أعطتني أميركا، قل ما أعطيت أميركا”، ونترك جبران الذي كان سبقه إذ قال، وبتصرّف: “لا تسأل ما الذي يعطيني إيّاه الوطن، اسأل ما أعطيت للوطن.”، وأبدًا ليس مستبعدًا أن يكون كندي لصّ المقولة، ونحن نحبّ الغرباء وخصوصًا إذا كانوا من شُقر الشعر وزُرق العين!
الوقفة الثانيّة… مع تنظيمات الكتّاب.
تنظيم الحركة الثقافيّة في تنظيمات أشغل وما زال يشغل الكتّاب في كلّ الأصقاع، ولم يتخطّانا. أواسط الثمانينيّات وبعد مخاض شبه عسير ولدت الحركة الثقافيّة عندنا تنظيمين؛ اتّحاد الكتّاب العرب في إسرائيل ومظلّته الحزب الشيوعي والجبهة، ورابطة الكتّاب الفلسطينيّين في إسرائيل ومظلّته الحركة التقدميّة. أسقط صراع المظلّات الحزبي الذي كان محتدمًا على “تصارع” التنظيمات عملًا وتنظيمًا على مدى سنوات بعد الانطلاق التنظيميّ. أوائل التسعينيّات جرت محاولات وحدة انتهت إلى شكل من الوحدة “التقنيّة”، وقد رافقتها، على مدى السنوات التي تلت، الهلهلة التي دامت حتّى نهاية العام 2010 حين قام بعض الكتّاب بإطلاق تنظيم (ال-48) لم ينجح أن يشمل أو يستقطب الغالبيّة من الكتّاب، وجرت محاولة للاستقطاب أوائل العام 2014 وبناء اتّحاد واسع، ففشلت المحاولة وتمخّض عن هذا الوضع إطلاق تنظيم آخر (الكرمل). عمل التنظيمان بشكل منفرد وفشلت على مدى سنوات كلّ محاولات الوحدة، ولكنّ نجحت أوائل ال-2019 وانطلقت الحركة الثقافيّة في ال-48 لأوّل مرّة في تاريخها باتّحاد واحد موحَّد وموحِّد تحت اسم: الاتّحاد العام للأدباء الفلسطينيّين – الكرمل48.
الوقفة الثالثة… مع حليمة والطائيّ.
وأصل الحكاية: أنَّ حليمة هي زوجة حاتم الطائي الذي اشتهر بالكرم كما اشتهرت بالبخل، فكانت إذا أرادت أن تضع سمنًا في الطبخ، ارتجفت الملعقة في يدها، فأراد حاتم أن يعلّمها الكرم، فقال لها: إنَّ الأقدمين كانوا يقولون إنَّ المرأة كلّما وضعت ملعقةً من السمن في الطبخ زاد الله بعمرها يومًا، فأخذت حليمة تزيد ملاعق السمن في الطبخ، حتى صار طعامها طيبًا وتعوّدت على الكرم والسخاء، ولكن لمّا مات ابنها الوحيد الذي كانت تحبّه، جزعت حتى تمنّت الموت، وأخذت لذلك تقلّل من وضع السمن في الطبخ حتى ينقص من عمرها وتموت، فقال الناس: “عادت حليمة إلى عادتها القديمة”.
ومن حليمة والطائي إلى الاتّحاد. عقد الاتّحاد الموحّد مؤتمره الوحدويّ الأول في كانون الأوّل 2021، وخاض الكتّاب فيه معركة “ديموقراطيّة” على المواقع والأطروحات، وجلجلت في أروقتها مبادئ الالتزام بالنتائج ومها كانت جريًا على ثقافتنا “الديموقراطيّة”. لكنّ الجلجلة لم تطُل وارتفعت هذه المرّة كذلك “ديموقراطيّا” لتعود حليمة إلى عادتها القديمة.
الوقفة الرابعة… مع الشافعي وفولتير والمْغِيطي.
من الصعب أن نصنّف الحالة أعلاه فيما راح إليه الشافعيّ وفولتير عن حريّة التعبير عن الرأي وبالتالي العمل به. فمرّة أخرى وقبل أن يقول فولتير الفيلسوف الفرنسي مقولته الشهيرة في حريّة التعبير عن الرأي، وأنقلها بتصرّف حسب ما تسعفني الذاكرة: “أكره رأيك حتّى الموت ولكنّي سأدافع عن حقّك في التعبير عنه حتّى الموت”، سبقه الشافعيّ بمئات السنين حين قال، وكذلك بتصرّف: “رأيك صواب يحتمل الخطأ، ورأيي خطأ يحتمل الصواب”. نسينا الشافعي وركضنا وراء فولتير، كما نسينا جبران وركضنا وراء كندي!
أكثر ما أعجبني تعليقًا على ه”الحالة” لا قول الشافعيّ ولا قول فولتير، وإنّما قول الزميل مصطفى عبد الفتّاح على مدوّنته الفيسبوكيّة: “أخشى على شعبي من كثرة الانقسام أن يتحوّل الى دودة ارض “مغيطي” يعيش تحت الأرض، يأكل التراب، ويتكاثر بالانقسام.”.
الوقفة الخامسة… مع وشو عِمْلَت لي الاتّحادات؟!
بغضّ النظر، فمنذ أن انطلقت الحركة الثقافيّة بتنظيم صفوفها في تنظيمات ظلّ نفرٌ خارج التنظيمات وأسباب أفراده كثيرة ومتنوّعة. يمكن أن يتبادر إلى الذهن منها؛ الكِبَر على التنظيم، الخوف من الضياع في التنظيم، الخوف من الالتزام، والقائمة مفتوحة يستطيع كلّ أن يضيف عليها ما يرى. ولكن بين كلّ الأسباب سببٌ يطفو كلّما واجهت التنظيمات أزمة، وهو: “شو عِمْلَت لي التنظيمات”.
تنظيم الفاعليّات المختلفة في كلّ المجتمعات البشريّة هو حاجة هذه المجتمعات الموضوعيّة للحياة الأفضل والرقيّ، وعلى هذا أجمع البشر منذ ما بعد المشاعيّة البدائيّة. وما من شكّ أنّ قبل أن قال جبران ما قال وأعاده بعده كندي تقليدًا أو توارد أفكار، من المنطق القول إنّ كُثرًا قالوا ذلك على مرّ التاريخ، والاهمّ كثُر مارسوا ذلك على مرّ التاريخ، ولولا مثل أولئك لما كانت سنحت الفرصة لقوّيلة “شو انْعَمل لنا أو شو عِمْلِت لنا الاتّحادات” أن يعيشوا ليقولوا مثل هذا الذي قالوا.
كلّ المنظّمات أو التنظيمات المجتمعيّة تقوم كي تعمل على رفعة مجتمعاتها حياتيًا، ومنظّمات الكتّاب منها كيّ تعمل ثقافيّا على رقيّ المشهد الثقافيّ الجمعيّ ومن هذا الباب تعمل للفرد الثقافي وليس العكس، والأَوْلى أن يُسأل السؤال طبقًا لهذا التوجّه، وأوّلًا ثقافيّا: “شو عْمِلْت للمشهد الثقافيّ الجمعيّ وليس شو عِمِلّي”!
سعيد نفّاع
الأمين العام للاتّحاد العام للكتّاب الفلسطينيّين – الكرمل48
أوائل آذار 2022م