بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى أحرار يكتبون رغم عتمة السجون في شهر حزيران 2019؛ تبيّن لي أنّ الكتابة خلف القضبان متنفّس للأسير، ودوّنت على صفحتي انطباعاتي الأوليّة بعد كلّ زيارة؛
“أنشودة الوداع“
للمرّة الأولى منذ بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى يكتبون قرّرت إبطال لقاءات مقرّرة لتعكّر مزاجيّ، ولكن فيّقتني زوجتي سميرة الساعة الخامسة والنصف صباح الخميس، 24.02.2022 قائلة: “باسم موعود فيك”، فجهّزت نفسي على عجل، وإذ بصديقي مصطفى نفاع بانتظاري ليرافقني في طريقي الطويلة الشاقّة إلى سجن ريمون الصحراوي، حال وصولي التقيت الأسير يحيى محمد نايف حج حمد؛ أمسك السمّاعة ليستفسر عن أفراد عائلتي وعن حيفا، وكأنّنا عِشرة عُمر.
كان طالبًا في كليّة الهندسة في جامعة النجاح وفي القدس المفتوحة قبل اعتقاله ليحكم بالسجن ويُهدم بيته وبيت عائلته (الطابق الثاني والثالث في العمارة، وعملت قوات الاحتلال على إبقاء الطابق الأوّل والرابع ليكونا شاهدين على الجريمة)، وئدوا حلم الطُلبة ذات اليوم، ورغم ذلك لم تحبط عزيمته وحصل على البكالوريوس علوم سياسية وصحافة وإعلام خلف القضبان، وها هو ينهي الماجستير في أساليب تدريس تربية إسلامية واقتصاد إسلامي.
رتّب يوم تصوير مع والديه بعد مماطلة طويلة من إدارة السجن بحجّة عطل الكاميرا، وصباحيّة زيارة التصوير توفيّ الوالد وحضرت الوالدة وحدها لتتصوّر مع فلذة كبدها ولم تشارك جنازة زوجها/ والده، ورغم أنف السجان نجح يحيى بالمشاركة بجنازة الوالد عبر أنشودة رثاء خلال الجنازة والسمّاعة في أذن أبيه الميّت.
تناولنا مشروعه الأدبي، ديوانه “قِبلة الأبطال” ومنه حوالي 20 قصيدة مغنّاة، والرواية التي يعمل على كتابتها، وتحدّثنا عن محاولات كيّ الوعي وصهره، ومحاولات المحتلّ البائسة لقولبتنا على مقاسه، فإذا سيطر على وعي الناس انتصر.
تحدّثنا عن أهميّة القراءة ووعدته بإيصاله عشرات الكتب في الشهر القادم.
“لقاء الأحرار“
حين انتهيت من لقاء يحيى أطلّ الروائي الأسير باسم محمد صالح أديب خندقجي وكانت فرصة ليلتقيا ويتعارفا وكم تمنيّت أن أكون ثالثهم في ذاك الاحتضان.
رتّبت اللقاء للاطمئنان عليه حال سماعي أنّه بدأ إضرابًا عن الطعام؛ أخبرني أنّه علّق إضرابه بناءً على توجّه قادة الحركة الأسيرة. وعقب هذا تمّت حملة تفتيش من وحدات اليماز واليمار/ درور وصودرت بعض النصوص الأدبية والأمور الشخصية وعاثوا بزنزانته خرابًا.
أوصلني سلامات أسامة الأشقر الحارّة وزملاء القسم.
أخبرني أنّه بصدد التحضير لدراسة الدكتوراه مباشرة بعد حصوله على الماجستير الشهر المقبل، ومعنويّاته عالية جدًا. يا جبل ما يهزّك ريح.
ناقشنا محاولات التطبيع المشبوهة وترتيب لقاء له مع أدباء من “اليسار الصهيوني” داخل السجن وهو أمر مرفوض جملة وتفصيلًا.
تناولنا مشروعه الثقافي ومستجدّاته؛ فكرة ترجمة كتابه الجديد “السيرة لكائنات كولونياليّة” إلى العبريّة للردّ على الاستعمار بالكتابة والسرد، وروايته “محنة المهبولين” إلى الفرنسيّة.
طلب إيصال جزيل شكره لكلّ من شارك في حملة التضامن المحلية والدولية معه.
وعلى أمل أن نلتقي في حيفانا؛ امرأة الهويّة والدهشة التي تشتهيها، فهي التي تسكنك، امرأة من وطن ووطن بلا امرأة.
هذا وأصدر الاتحاد العام للكتاب الفلسطينيين الكرمل 48 بيانًا يستنكر اقتحام زنزانته والاعتداء عليه ومصادرة نصوصه الروائية.
“قرّبت لمّة البلكون“
حين قارب لقائي بباسم على نهايته أطلّ الصديق الأسير كميل أبو حنيش، ترافقه ابتسامته السرمديّة وثلّة من الحرّاس (لكونه “س.غ.ب”؛ “أسير مع احتمال كبير للهرب”، حسب أعراف سلطة السجون الاحتلاليّة، ترافقه الكلبشات المدمّجة، كلبشات بالأيدي وأخرى في الأرجل وجنزير يربطهما!) وكانت فرصة ليلتقي باسم وكميل بعناق دافئ طويل، وكم تمنيّت أن يكون هذا اللقاء في براندة الحريّة الحيفاويّة كما تواعدنا مرارًا وتكرارًا.
انقضّ على السمّاعة ليستفسر عن زوجتي سميرة وبناتي وأحفادنا (يذكر الأسماء فردًا فردًا) وحيفا وأخبار الأصدقاء المشتركين، أسامه ومصطفى وفراس ورائد وناصر وغيرهم، ويسألني إذا مصطفى نفاع برفقتي؟
حدّثني عن اعتكافه وعزلته الاختياريّة، التنكيل والتضييقات اليوميّة؛ تغيير الزنزانة كلّ أربعة شهور، تغيير القسم كلّ 16 شهرا، ونقله لسجن آخر كلّ 32 شهرا. وتألّمت حين أخبرني بأوجاع في يُمناه ووعدته أن أفحص ملفّه الطبّي وإمكانيّة ترتيب زيارة طبيب خاص، وتزعجه صعوبة الكتابة.
تحدّثنا عن إطلاق وإشهار “الجهة السابعة” بمعرض الكتاب الدولي بعمان وحفل التوقيع نيابة عنه وأخبرته أنّها في طريقها للبلاد وستوزّعها دار الشامل النابلسية، وعن تقدّم عمله الروائي القادم؛ بيت افتراضي تبنيه الجليلة ومصطفى ببيّارات البرتقال في قرية بيت دجن الأصليّة.
حدّثني عن إنجاز وإتمام دراسته حول صديقنا فرناندو بيسوا.
تؤلمه الأخطاء المطبعيّة في إصداراته، وكأنّه بديوانه “على شاكلة الفجر” مولود مشوّه ومعاق وبحاجة لعلاج مكثّف.
لكم أعزائي: يحيى وباسم وكميل أحلى التحيّات، وعلى أمل بحريّة قريبة، ننتظر اللقاء الموعود بكم في رحاب بلكون الحريّة الحيفاوي قبالة بحر حيفا.
حيفا شباط 2022