في ديوان “خلف حدود القصيدة”
بدأ الشاعر منذ الصغر رحلة معقدة في البحث خلف المعاني الإنسانية والحدود الطبيعية والهويات الشخصية، فهو الفلسطيني الأصل والسوري المولد والفرنسي المغترب، جعلته يتقن فن صناعة الذات الذي نقله من طفل فلسطيني في مخيم للاجئين بسوريا إلى طبيب فرنسي يمارس مهنة جراحة الاسنان في باريس .
محطات من الخوف والتردد، من الحزن والفرح، من الهزيمة والنصر مرت بها رحلة الشاعر جلال درويش، وألقت بتأثيرها على فكره وممارسته الأدبية التي انطلقت – منذ الصغر- بإصدار باكورة أعماله الشعرية ” حبك بين الماضي والحاضر” في العام 2000 حتى صدور ديوانه الأخير اليوم.
ديوان ” خلف حدود القصيدة” يبدو كمحاولة لاستدعاء التجارب المتواترة التي اكتسبها الشاعر في محطات رحلة البحث ما خلف الأحاسيس والكلمات، تعمد فيها أن يرسم صوراً شعرية مازجت ما بين “الأنا” و”الآخر”، مع المحافظة على جمال المعنى وتوازن الكلمات والوحدة العضوية للقصيدة.
يقع الديوان في 117 صفحة من الحجم المتوسط و يضم 39 قصيدة، تراوحت بين الطول والقصر، وصدر في طبعة أنيقة من منشورات دار الفرات في مصر. وقد حل الديوان ضيفاً في معرض القاهرة الدولي للكتاب مؤخراً، ويتوقع أن يُعرض لاحقاً في عدة معارض عربية .
ضم الديوان قصائد متنوعة من الشعر العربي ذات البعد العاطفي، وبرز شعر التفعيلة في معظم قصائده، بالإضافة إلى بعض قصائد الشعر العامودي الرومانسي، والشعر الحر. ارتكزت فيها قصائده على البحث والمسائلة الذاتية لكل ما تخفيه الحياة من معاني باستخدام صور غير مألوفة، الأمر الذي جعل أبياتها تعج بالمضامين العميقة والخيال الجامح عبرت عن جمالية الصورة الشعرية المركبة.
كان واضحاً بأن الشاعر قد تحرر من المفاهيم التقليدية للشعر العربي دون أن يتمرد عليها، فقصائد ديوانه الأخير قدمت عدة مفاهيم للحرية وعلاقتها بالحب، ساهمت في تقديم مفهوم فريد للعواطف وترددها في قصائده، ودفعه لتقديم تصور عاطفي مبني على النظرة الوجودية للكون.
إنّ ما يميز كتابة الشاعر جلال درويش في هذا الديوان هو مقدرته الواضحة على المزج ما بين واقعية المعاني من ناحية ورمزية اللغة الشعرية المتخيلة، وما جاء من استخدام الكلمات الرمزية إلا تعبيراً عن مستوى النشاط الكتابي والمخزون الثقافي الذي تماهى في ذهنه وتفاعل في فكره ومخيلته عبر السنين.
ولعل تأثر الشاعر بالبيئة الثقافية الفرنسية جعلته يقترب فكرياً من المدرسة البرناسية ، حيث نأى بقصائده عن القضايا الفكرية والفلسفية وحرصه الشديد على جمال الأسلوب الشعري ، في الوقت ذاته تجنب الاسفاف واستدعاء الالفاظ المنتقاة مع البعد عن الأفراط في وصف المشاعر والاحاسيس.
لاشك أن هذا الديوان شكل اعلاناً عن بيان شعري يعكس المنهج الإبداعي لمشروع جلال درويش ، فاهتمامه بجمالية الشعر في قصائده قدمها كصور فتوغرافية ناقلة بصدق لمشاهد طبيعية كاملة الابعاد ، بعيداً عن اللغة الانفعالية والتأجيج العاطفي التي قد تشوش الرؤية وتضعف المعنى.
لقد استطاع الشاعر بفضل مقدرته اللغوية وأسلوبه المتميز وثقافته الواسعة أن يطور ادواته الشعرية الفنية، ويسمو بها نحو الابداع واثراء المشهد الأدبي العربي. حيث أن ديوانه ” خلف حدود القصيدة ” ما هو إلا بطاقة تعريفية لشاعر استطاع عبر خياله الشعري أن يحول تعقيدات العواطف إلى موسيقى ينبعث منها الأمل والبقاء. ، وأن ما اعتبرنا أنه “رحلة بحث” ما هو إلا “جولة ” في طريق طويل ، نأمل أن تُستكشف فيه جوانب أخرى أغفلناها .
باسل أبوسعيد
باحث وكاتب فلسطيني – باريس