التّناصُّ وتَناسُخُ العِبارة في قصيدةِ الدّكتور الشّاعِر الكاتِب مالك حجيرات \ علياء ف رحّال

 

****************

يا أيُّها الشّاعِرُ المُرْتابُ

علِّقْ دَواتَكَ على عُنُقِ كبيرِها

حينَ تُحَطِّمُ أصْنامَ الحُروفِ

وإنْ خَفَقَ قَلْبُكَ

خُذْ كَيْ يَطْمَئِنَّ

أَرْبَعَةً مِنَ المَعانِي فَصُرْهُنَّ إلَيْكَ

واجْعَلْ عَلى كُلِّ قِمَّةٍ جُزْءا

ثُمَّ ادْعُهُنَّ..

تَأْتِكَ القَصيدَةُ سَعْيًا

وَتَكُنِ النّارُ عَلَيْكَ

بَرْدًا وَسَلامًا

قَبْلَ الوُلوجِ إلى القِراءَةِ الضّمْنيَّةِ للقَصيدَةِ الّتي سَيُعالِجُها مَقالي لاحِقًا، وَذلِكَ تَمْثيلًا للتَّناصّ وَتَناسُخِ العِبارةِ، وَكذلكَ تَمْثيلًا للوَمْضَةِ الشّعريَّةِ وَللنّخبويَّةِ الّتي يَنْخَرِطُ بِها الشّاعِرُ أَثْناءَ إفْراطِهِ في اسْتِخدامِ تَقانَةِ التَّناصّ المُكَثَّفِ في الوَمضَةِ الواحِدَةِ، لا بُدَّ إزاءَ هذهِ التَّمْثيلاتِ مِنَ التّعريفِ وَلَو بِقَليلِ الكَلامِ وَعَلى عُجالةٍ بالكاتب الأستاذ مالك حجيرات، ابن قرية بير المكسور البدويّة، كاتبٌ، وشاعرٌ، وأكاديميٌّ، عضوٌ في منتدى الكتابِ الرّقميّ، نائب مدير في الثّانويّة الشّاملة في قريته، عمل محاضرًا في كلّيّات مختلفةٍ، وما زال يُحاضرُ في أُطرٍ مختلفةٍ: في مجال القرآن والقصص الدّينيّة، كما له منشوراتٌ كثيرةٌ

هي:

* رحلةُ الشّتاتِ والسَّيْف.

* إيلافهم.

*كُرَيْشْ.

*كتارزيس.

*اسْتَوى عَلى سوقِهِ.

امْتازَ الشّاعِرُ الأَديبُ بِكِتابَةِ الوَمْضَةِ الشِّعْرِيَّةِ وَالشِّعْرِ النَّثْرِيّ، كَما أَنّهُ يَعْكُفُ حالِيًّا على تَحْضيرِعَمَلٍ أَدَبِّيٍّ جَديدٍ بِعُنْوانِ (مونولوج)، وَقَدْ سَبَقَ لَهُ وَنَشَرَ مَقالاتٍ عِلْمِيَّة في مَجالِ التَّرْبِيَةِ.

بِدايَةً سَأُعَرِّفُ المصطلح أي التَّناصّ الأَدَبيِّ ثُمَّ الوَمْضَةَ الشِّعْرِيَّةَ وَخَفايا هذينِ المُصْطَلَحينِ.

فَالتَّناصُّ الأَدَبِيُّ هُوَ مُصْطَلَحٌ حَديثٌ أَوَّلُ مَنْ أَطْلَقَتْهُ في مَجالِ النَّقْدِ الأَدَبيِّ هِيَ جوليا كريستيفا julia kristeva الّتي تَحْمِلُ الجِنْسِيَّةَ الفَرَنْسِيّةَ رغمَ أَنّها بُلْغارِيَّةُ الأَصْلِ. وَقَدْ وُلِدَتْ سَنَةَ 1941. دَرَسَتِ الفَرَنْسِيَّةَ عَلى يَدِ والِدَتِها ثُمَّ اسْتَقَرّتْ في باريس لِتُواصِلَ دِراستَها العُلْيا في جامِعاتِها فَأصْبَحَتْ كاتِبَةً عالِمةَ اجتِماعِ، ناقِدَة أَدَبيَّة، مُحاضِرَةً في مَجالِ التّحليلِ النَّفْسيِّ، نَسَوِيَّة وَعالِمَةَ لسانِيّاتٍ أَوْ لُغَويّاتٍ.

تَأَثَّرت في نَقْدِها بالنّقّادِ أمْثالِ ميخائيل باختين، ورولان بارت وجاك دريدا. تُعتَبَرُ جوليا كريستيفا مِنَ الشَّخْصيّاتِ المُؤثِّرَةِ بِشَكلٍ بارِزٍ في مَجالِ الفِكْرِ النَّقْديِّ المُعاصِرِ وَقَد طَوَّرَتْ نَظَرِيَّتَها فيهِ بِواسِطَةِ التَّوْليفِ بَينَ مَجالاتٍ مُخْتَلِفَةٍ كَالفَلْسَفَةِ وَعِلْمِ الاجتِماعِ وَالتَّحليلِ النَّفسِيِّ وَعِلْمِ اللُّغَوِيّاتِ/ اللّسانيّاتِ وَنَظَرِيَّةِ الأَدَبِ (Textologia) والسِّيمَائيّاتِ وَهِيَ تَصْبو إلى التَّأْسيسِ لِصُوَرٍ حداثِيَّةٍ لِلخِطابِ النَّقْدِيِّ، وَذلِكَ مِن أَجْلِ التَّفْكيرِ المُختَلِفِ حَوْلَ المَنْطِقِ وَالواقِعِ مِن خِلالِ رُؤيا مُتَعَدِّدَةِ المَجالاتِ (multidisciplinary) أَو (multidomain).

أَمّا التَّناصُّ الأَدَبِيُّ intertextuality، كما ذكرتُ، فَهُوَ مُصْطَلَحٌ أَطلَقَتْهُ النّاقِدَةُ جوليا كريستيفا عَلى تِقَنِيَّةِ تَوْظيفِ عُنْصُرٍ نَصّيٍّ كَعِبارةٍ أَوْ جُمْلَةٍ أَوْ لَفْظَةٍ مِن مَصدَرٍ قَديمٍ قَدْ يَكونُ دينيًّا أَوْ تاريخيًّا أَوْ أَدَبِيًّا داخِلَ نَصٍّ حَديثٍ، وَذلِكَ لِخَلْقِ صورَةٍ جَديدَةٍ مُتعالِقَةٍ بالنَّصِّ القَديمِ لِتَعزيزِ المَعنى المُرادِ وَتَوضيحِهِ. وَعَلى الرّغمِ مِن أَنَّ النُّقّادِ قَد نَسَبوا هذِهِ العَمَليَّةِ المَسَمّاة التَّناصِّ لِجوليا كريستيفا إِلّا أَنَّ العَرَبَ عَرَفوهُ قَديمًا تَحتَ العُنْوانِ (التَّضْمين) أَي جَعل الشَّيء داخِلَ الشّيء الآخَرِ أَو ضِمنَهُ. وَمِن هُنا جاءَتْ التَّسْمِيَةُ أَي التَّضْمينِ مِنَ الجَذْرِ ض.م.ن إلّا أَنَّ التَّضمينَ في الأَدَبِ العَرَبيِّ يَخْتَلِفُ في شَكْلِهِ وَمَعناهُ سَواءً في اللُّغَةِ أَو عِلم العروضِ، وَلَيْسَ المقامُ هُنا يَسْمَحُ بالاسْتِرْسالِ في هذِهِ الفُروقاتِ الّتي تَحْتاجُ إلى دِراساتٍ لِحَصْرِها.

فَخُلاصَةُ تَعريفِ التَّناصِّ هِيَ عَمَلِيَّةُ تَعالُقٍ بَيْنَ نَصّينِ، يُخْلَقُ أَحَدُهُما مِن نَصِّ قَديمٍ أَساسيِّ وَذلِكَ لِتَعْزيزِهِ وَلِزِيادَةِ تَوْضيحِهِ وَشَرحِهِ كما ذَكَرتُ، إلّا أَنَّ هذا التَّعريف يَتَطَوَّرُ وَيَتَشَعَّبُ باسْتِمْرارٍ، لكِنَّهُ عَمَلِيَّةٌ وُلِدَتْ مَعَ الأَدَبِ. وَيَعْتَبرُ بَعضُ النُّقّادِ أَنَّ التَّناصَّ إِمّا أَن يَكونَ مُباشرًا وَمِنْهُ السَّرَقَةَ وَالاقْتِباسَ وَالأَخْذَ والاسْتِعانَةَ وَالمُعارَضَةَ والحَلَّ والاسْتِشْهادِ والتَّغايُرِ أَو غيرِ مُباشِرٍ وَمِنْهُ المَجاز والتَّلميح والتَّوليد والإيْحاء والتَّلْويح والكِنايَة وَالرَّمْز وَالإِيماء وَإِلَيكَ بَعضُ صُوَرِ التَّضمينِ إذْ يَقولُ الرَّصافيّ:

سَكنّا وَلَمْ يَسْكُنْ حِراكُ التَّبَدُّدِ   مَواطنَ فيها اليَوْمُ أَيْمَنُ مِن غَدِ

عَفا رَسْمُ مَعنى العِزِّ مِنها كَما عَفَتْ  لَخَوْلَةَ أَطلالٌ بِبُرْقَةِ ثَهمَدِ

فَمِنَ الواضِحِ هُنا أَنَّ الرَّصافِيَّ يَتَناصّ مَع مُعَلَّقَةِ طَرفةَ لِخَوْلَة أَطلالٌ بِبرْقَةَ ثّهمدِ. ( د. علاء الدّين رمضان السّيّد، ظاهرة التّناصّ بينَ الإمامِ عَبد القاهر الجرجانيّ وجوليا كريستيفا، 2014، بُحوث المُؤتَمَرِ العِلْميِّ الدُّوَليِّ الأَوَّلِ، كُليَّة اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، جامِعَة أَسيوط، مِصر).

مِنَ المُلاحَظِ أَنَّ جُلَّ نُصوصِ الدُّكتور مالِك حجيرات في مَجالِ الشِّعرِ النّثْرِيِّ تَحْتَكِمُ إلى قَصيدَةِ الوَمْضَةِ، فَما هِيَ الوَمْضَة؟ هِيَ جِنْسٌ حَداثوِيّ تَطَوَّرَ مُنْذُ الثُّلْثِ الأَخيرِ مِنَ القَرْنِ الماضي، كَلَوْنٍ مُوازٍ أَدَبِيًّا لِوَتيرَةِ التَّغيّراتِ الّتي اجتاحَتِ الحَضارةَ الإنْسانيَّةَ الماديَّةَ بِوَتيرَةٍ عالِيَةِ، وَانْعَكَسَت عَلى كافَّةِ جَوانِبِ الحَياةِ الإِنْسانِيَّةِ، لا سِيّما في مَجالِ الأَدَبِ وَالقَصيدَةِ النَّثْرِيَّةِ عَلى وَجهِ الخُصوصِ.

فَالوَمْضَةُ الشِّعرِيَّةُ أَوْ القَصيدَةُ الوَمْضَةُ (flashing poem) مُشْتَقَّةٌ مِنَ الجَذْرِ و.م.ض، نَقولُ وَمَضَ البَرْقُ إذا لَمَعَ خَفيفًا، وَأَوْمَضَ الرَّجُلُ إِذا أَشارَ إشارَةً خَفيفَةً، وَأَوْمَضَتِ المَرأَةُ إِذا سَرَقَتِ النَّظَرَ، وَالْمُشْتَرَكُ في كُلِّ هذِهِ المَعاني هُوَ اللّمَعانُ وَالتَّلَألُؤُ وَالتَّأَلُّقُ وَالتَّوَهُّجُ وَما شابَهَ مِنَ المَعاني البارِقَةِ الخاطِفَةِ. فَفي الوَميضِ الشِّعرِيِّ خَليطٌ مِنَ الشَّفافِيَّةِ وَالغُموضِ الآسِرِ وَعَدَمِ الإِيْضاحِ في آنٍ معًا، كَذلكَ في الوَمضَةِ يَجْتَمِعُ التّكْثيفُ في المَعاني وَاخْتِزالٌ في المُفْرَداتِ وَاقتِصادٌ في اللُّغَةِ؛ وَلمّا كانَتِ البَلاغَةُ عِنْدَ العَرَبِ تَعْني الإيجازِ؛ فَمَن أَوْجَزَ أَنْجَزَ أَي بَلَغَ المَعنى المَقصودِ وَبَلَّغَ الرِّسالَةَ المَقْصودَةَ.

وَهُنا أُريدُ أنْ أَزْعُمَ أَنّهُ أَحيانًا يَصِحُّ القَوْلُ: مَنْ أَوْجَزَ أَعْجَزَ وَالمَقْصودُ هُنا العَجْزُ وَعَدَمُ القُدرَةِ عَلى الفَهِمِ، وَلَسْتُ أَعني الإِعجازَ، فالإِعجازُ في القُرْآنِ الكَريمِ، جَلَّ مَن أَنْزَلَهُ عَلى الرَّسولِ الكَريمِ، بِحَيْثُ أَنَّ الشَّاعِرَ عَليْهِ ألّا يُغْرِقَ في الغُموضِ.

سُمِّيَتِ الوَمْضَةُ الشِّعرِيَّة لَدى بَعضِ النُّقّادِ بِالقَصيدَةِ البَرقيّةِ أَوْ قَصيدَةِ الوَمْضَةِ وَهِيَ كَما أَشَرتُ، قَصيدَةٌ قَصيرَةٌ مُكَثَّفَةٌ مُخْتَزَلَةٌ عَرَّفها النُّقّادُ تَعريفاتٍ مُتَقارِبَةٍ فَمِنْهُم مَنْ وَصَفَها بِأَنّها لَحْظَةٌ أَوْ مَشْهَدٌ أَوْ مَوْقِفٌ أَوْ إحساسٌ شِعرِيٌّ خاطِفٌ يَعصِفُ بِالمُخَيِّلَةِ فيصوغه الشّاعِرُ بِأَلْفاظِ قَليلَةٍ موْجَزَةٍ وَراجَ هذا اللَّونُ لِيَتَّخِذَ شَكْلًا أَوْ جِنْسًا شِعْرِيًّا مُسْتَقِلًّا بِهِ، لِيَتَماشى والتَّغييرات الفِكرِيَّة وَالْفَنِّيَة وَمُتَطَلَّباتِ وَتيرَةِ الزَّمَنِ السَّريعَةِ كَما ذَكَرتُ آنِفًا.

وَمَعَ اتِّساعِ مَلامِحِ المُؤَثِّراتِ العالَمِيَّةِ الأَدَبِيَّةِ عَلى الوَمْضَةِ الشِّعرِيَّةِ تَوَهَّمَ بَعضُ النُّقّادِ أَنَّها شَكْلٌ مُنْبَثِقٌ عَنِ الهايكو اليابانيِّ وَغَيرِهِ؛ إلّا أَنَّ لِلْوَمْضَة الشِّعرِيَّة جُذورًا ضارِبَة في القَصْيدَةِ العَرَبِيّةِ القَديمَةِ، وَقَدْ عَبَّرَ الشُّعَراءُ القَدامى عَن أَحوالِهِم الطّارِئَةِ المُسْتَجِدَّةِ في حياتِهِم وَحُروبِهِم ومُناسَباتِهِم بِشَيءٍ مِنَ الارْتِجالِيَّةِ بِما يَخْدُمُ المَوْقِفَ المُسْتَجِدَّ في حينِ أَنَّ بَعضَ الشُّعَراءِ تَرَيَّثوا في تَأْليفِ أَشعارِهِم الّتي تَطاوَلَت حَتّى سُمِّيَت بِالحَوليّاتِ لِأَنّ أَصحابَها قَدْ تَرَيَّثوا في ابْتِداعِها وَتَنْقيحِها حَوْلًا أَوْ ما يُقارِبُهُ، وَذلِكَ تَحضيرًا  وَاسْتِعدادًا لِلْمُساجَلاتِ الشِّعرِيَّةِ في سوقِ عُكاظٍ السَّنَوِيِّ وَغَيْرِهِ كَسوقِ المربد، وَكَما قَدْ سَمّى القُدَماءُ طِوالَ قَصائِدِهِم بِالمُطوّلاتِ فَقَد سَمّوا قِصارها بِالمَقْطوعاتِ الشِّعرِيَّةِ أَوْ المَقْطعات (جَمْعُ مَقْطَعٍ أَوْ مَقْطَعَةٍ وَهِيَ مَجْموعَةُ أَبْياتٍ تَتَمَيَّزُ بِوِحْدَةٍ في الوَزْنِ وَالقافِيَةِ). (مُعْجَمُ المَعاني الجامِعُ).

قالَ الفَرّاءُ مُصَنِّفًا: العَرَبُ تُسَمي البَيْتَ الواحِدَ يَتيمًا، وَكَذلِكَ يُقالُ الدُّرَّةُ اليَتيمَةُ لانْفِرادِها، فَإِذا بَلَغَ البَيْتَينِ أَو الثَّلاثَةَ فَهِيَ (نَتْقَةٌ) وَإلى العَشْرَة تُسَمّى قِطْعَةً وَإِذا بَلَغَ العِشْرينَ اسْتَحَقَّ أَن يُسَمّى قَصيدًا، وَالقَصيدُ مَأْخوذٌ مِنْ مَعْناهُ اللّغويّ أَيْ هُوَ مُخُّ العَظْمِ وَهُوَ المُتَراكِمُ بَعضُهُ عَلى بَعضٍ. (البَاقْلانيّ، إعْجازُ القُرآنِ الكَريمِ، تَحقيق أَبو بَكر عَبد الرّازق، مَكْتَبَة مِصر، 1994، ص 183). أَمّا ابنُ منظور فَيُحَدِّدُ القِطْعَةَ الشِّعرِيَّةَ بَينَ ثَلاثَةِ أَبْياتٍ حَتّى خَمْسَةَ عَشَرَ بَيْتًا وَما زادَ عَلى ذلِك تَسَمّيهِ العَرَبُ قَصيدَةٌ. (ابن منظور، لسان العرب، دار المعارف، مادّة قطع).

هُنا تَحضُرُني مَقْطوعَةُ امرِئ القَيْسِ حينَما وَصَلَ بِلادَ الرّومِ فَوَجَدَ قَبْرَ امرَأَةٍ روميَّةٍ مِن بَناتِ مُلوكِ الرّومِ قُربَ جَبَلٍ يُدعى جَبَل عَسيبٍ، وَقَد راعَهُ أَن يَموتَ وَحيدًا غَريبًا عَن دِيارِهِ فاسْتَأْنَسَ بِقَبْرِها قائِلًا:

أَجارَتَنا إِنَّ الخُطوبَ تَنوبُ           وَإنّي مُقيمٌ ما أَقامَ عَسيبُ

أَجارَتَنا إِنّا غَريبانِ ههُنا            وَكُلُّ غَريبٍ لِلغَريبِ نَسيبُ

فَإِنْ تَصِلينا فَالقَرابَةُ بَيْننا        وَإن تَصْرِمينا فَالغَريبُ غَريبُ

أَجارَتَنا ما فاتَ لَيْسَ يَؤوبُ      وَما هُوَ آتٍ في الزَّمانِ قَريبُ

وَلَيْسَ غَريبًا مَنْ تَناءَت دِيارُهُ  وَلكنَّ مَن وارى التُّرابُ غَريبُ

وَكَثيرَةٌ هِيَ قِصارُ القَصائِدِ العَرَبيَّةِ الّتي قيلَتْ في ظُروفٍ اسْتِثْنائِيَّةٍ عاجِلَةٍ مُرْتَجَلَةٍ لا سيَّما ساعَةَ حُضورِ المَوْتِ الَّذي لا يُمْهِلُ كَمَقْطوعَةِ أَبي فِراسٍ الحَمَدانِيّ الّذي خاطَبَ ابْنَتَهُ وَهُوَ يَلْفُظُ أَنْفاسَهُ الأَخيرَة، مَع الإِشارَةِ إلى أَنَّهُ لَيْسَت كُلُّ مَقْطوعَةٍ شِعرِيَّةٍ هِيَ وَمْضَة، وَلكنَّ كُلَّ وَمضَةٍ هِيَ مَقْطوعَةٌ شِعرِيَّةٌ، قالَ أَبو فِراس الحمدانيّ:

أَبُنَيّتي لا تَحزَني كُلُّ           الأَنامِ إلى ذَهابِ

أَبُنَيَّتي صَبْرًا جَميلًا        لِلجَليلِ مِنَ المُصابِ

نوحي عَلَيّ بِحَسْرَةٍ مِن خَلْفِ سِتْرِكِ وَالحِجابِ

قولي إذا نادَيتِني       وعَييتُ عن ردِّ الجوابِ

زَيْنُ الشّبابِ أَبو فِراسٍ        لَمْ يُمَتَّعُ بِالشَّبابِ

وَأَكْثَرُ ما ظَهَرَتِ المَقْطوَعَةُ الوَمْضَةُ في بَعضِ أَشْعارِ الموثّباتِ الّتي كانَتِ النِّساءُ العَرَبِيّات تَرْتَجِلنَها ارْتِجالًا لِحَثِّ الرِّجال على الاسْتِبْسالِ في القِتالِ فَهذِهِ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ توثّبُ ضِدَّ المُسْلِمينَ في أُحُدْ:

نَحنُ بَناتُ طارِقَ       نَمْشي عَلى النَّمارقْ

وَالْمِسكُ في المفارِقِ     وَالدُّرُّ في المَخانِقْ

إٍنْ تُقبلوا نُعانِقْ             وَنَفْرُشُ النَّمارِقْ

أَوْ تُدْبِروا نُفارِقْ           فراقَ غيرِ وامِقْ

يُعْتَبَرُ الشّاعِرُ الرّاحِلُ عِزّ الدّين المَناصرة (1946_2021) وَهُوَ شاعِرٌ وَناقِدٌ وَمَفَكِّرٌ وَأَكاديمِّيٌ فِلَسْطينيّ مِنْ أَوائِلِ المُبْدِعينِ في كِتابَةِ الوَمْضَةِ الشِّعرِيَّةِ وَقَدْ نَحا نَحوَهُ الشّاعِرانِ العِراقِيّانِ أَحمَد مَطَر ومظفّر النَّوّاب، وَقَد عَرَّفَ المَناصرة الوَمْضَةَ الشِّعرِيَّةَ وَأَسْهَبَ في وَصفِها بِأَنَّها “قَصيدَةٌ قَصيرَةٌ جِدًّا، تَتَناسَبُ مَع الاقْتِصادِ في اللُّغَةِ وَالسَّرْعَةِ، وَتَتَمَيَّزُ بِالإيْجازِ وَالتَّركيزِ وَكَثافَةِ التَّوَتُّرِ، عَصَبُها المُفارَقَةُ السّاخِرَةُ وَالانْزِياح وَالتَّرميز، وَلَها خِتامٌ مَفْتوحٌ قاطِعٌ أَوْ حاسِمٌ، مُدهِشٌ، أَي أَنَّ لَها (قَفْلَةٌ) تُشْبِهُ النَّقْفَةَ المُتْقَنَةَ، مُلائِمَةٌ لِلحالَةِ، تَحكُمُها الوِحدَةُ العُضْوِيَّةُ، فَهِيَ مُتَمَرْكِزَةٌ حَوْلَ ذاتِها (مُسْتَقِلَّةٌ) أَو مُجتَزَأَةٌ يُمْكِنُ اقْتِطاعُها مِن بِناءِ القَصيدَةِ الطَّويلَةِ، وَهِيَ في شَفافِيَّتِها وَسُرعَتِها تُشْبِهُ وَمْضَةَ البَرقِ لكنّها لَيْسَت مائِعَةَ الحُدودِ كالوَمْضَةِ”. (عود النّدّ، oudnad، الهَوّاري، عدليّ، توقيعات عزّ الدين مناصرة، العدد 88، 2013، ص 84_95).

يُسَمّي البَعْضُ الوَمْضَةَ الشِّعْرِيَّةَ بِالتَّوْقيعَةِ، لِأَنَّها تُشْبِهُ التَّوْقيعاتِ وَيَكادُ يُجْمِعُ النُّقّادُ على أَنَّ أَوَّلَ مَن وَضَعَ مُصطَلَحَ التَّوقيعَةَ كانَ الرّاحِلُ عِزَّ الدّينِ المناصِرة، على الرُغْمِ من أَنَّ بَعضَهُم يَعزو هذِهِ التَّسْمِيَةَ لِطَه حسين الّذي نَقَلَ هذا الجِنْسَ نَثْرًا في مُقَدِّمَةِ كِتابِهِ (جَنَّةُ الشَّوْكِ) وَقَد دَعا طَه حسين إلى الاهتِمامِ بِالتَّوْقيعَةِ وَكَأَنَّهُ في دَعوَتِهِ يَسْتَشْرِفُ تَطَوُّرَ القَصيدَةِ نَحوَ الإيْجازِ والاقْتِصادِ في المُفْرَداتِ مُجاراةً لِلْعَصْرِ. (الدّيّوب، سمر، قصيدة التّوقييعة في صحيفة القبس الكويتيّة بتاريخ8\5\2016).

وَكَما أَنَّ التَّكْثيفَ البَلاغِيَّ وَالإبهارَ وَالمُفارَقَةَ هِيَ روحُ التَّوْقيعَة إلّا أَنَّ المَناصِرَةَ يُؤكِّدُ أَنَّ كُلَّ تَوْقيعَةٍ هِيَ قَصيدَةٌ قَصيرَةٌ جِدَّا، لكن لَيْسَت كُلُّ قَصيدَةٍ قَصيرَةٍ هِيَ تَوقيعَةٌ. وَكانَ قَد صَدَرَ لِلْمَناصِرَة كِتابٌ يَحمِلُ العُنوانَ (تَوقيعاتُ عِزِّ الدّينِ المناصرة، وَهُوَ عِبارَةٌ عَن ابيغرامات شِعرِيَّةٍ مُختارَةٍ بَيْنَ 1962_2009) (عود النّدّ، مصدر سابق، وَهُوَ مَجَلَّةٌ ثَقافِيَّةٌ فَصْلِيَّةٌ لِلنّاشِرِ عَدلي الهوّاري).

مِن تَوْقيعات عِزِّ الدّينِ المناصرة:

” رَجعْتُ مِنَ المَنفى، في كَفّي خُفُّ حُنَيْن

حينَ وَصَلْتُ إلى المَنْفى الثّاني سَرَقوا مِنِّيَ الخُفّين”.

وَفي تَوْقيعَةٍ أُخْرى يَقولُ المَناصرة:

“في قَلْبي آلافُ الأَشْياءِ

لا أَحْكيها إِلّا لِلْحيطانِ الصَّمّاءِ

أَحكيها لِحَمامِ الأسْرارِ عَلى الهَضبَة

أَرفُضُ أَنْ أَحكيها لِلسَّيْفِ المَسْلولِ عَلى الرَّقَبَة

أَرْفُضُ أَنْ أَحكيها لِلْغولِ

ذَلِكَ أَنّي يا أَحِبابي

لِساني مَشْلولٌ”

يُقابِلُ الوَمْضَة الشّعرِيَّة مِن حَيْثُ هِيَ تَوْقيعَةٌ أَوْ يُرادِفُها الاسْمُ إبيجراما epigram وَهِيَ كَلِمَةٌ مُرَكَّبَةٌ مزْجِيًّا مِنْ لَفْظَتينِ: الأُولى epos بمعنى شيء والثّانِيَةُ graphein وَتَعني الكِتابَةَ أَوِ النَّقْشَ على شَيءٍ أَوِ النَّقْشَ عَلى شاهِدَةِ القَبرِ لِتَخْليدِ ذِكرى المَوْتى، ثُمَّ لاحِقًا أَصبَحَت تَعني القَوْلَ أَوِ القَصيدَةَ الّتي تَعَبِّرُ عَن فِكرَةٍ بِطَريقَةٍ ذَكِيَّةٍ وَساخِرَةٍ تَهدِفُ إِلى النَّقدِ وَالسُّخرِيَةِ وَأَمّا أَشْهَرُ الإبيجرامات فَهِيَ ما أَوْصى بِهِ الشّاعِرُ الهيلينستيّ meleagrus صاحِبُ النَّصِّ الجنائِزيِّ الّذي نَقَشَهُ النَّحّاتُ/ النَّقّاشُ Arabius ابنُ مَدينَةِ جَدارا (أُمُّ قَيْس) الواقِعَةُ في الأُرْدُنِ حَيْث قالَ:

” أَيُّها المارُّ مِن هُنا

إليكَ أَقولُ

كَما أَنْتَ الآنً كُنْتُ أَنا

وَكَما أَنا الآنَ سَتَكونُ أَنْتَ”.

بِالاختِصارِ فَالقَصيدَةُ الوَمْضَةُ يُمْكِنُ أَن نُسَمّيها قَصيدَةَ المَوْقِفِ وَهِيَ تَضْطَرُّ المُتَلَقِّي القارِئ إلى عَصْفِ دِماغِهِ وَإعمالِ جُلِّ تَفكيرِهِ وَاسْتِنْفارِ جَميعِ مَهاراتِهِ الذِّهْنِيَّةِ وَالثَّقافِيَّةِ وَاللُّغَويَّةِ وَذَلِكَ لِتَفْكيكِ رُموزِ الوَمْضَةِ الشِّعرِيَّةِ الّتي يَعتَبِرُها البَعضُ قَصيدَةَ المُثَقَّفينَ لِأَنّها تَسْتَعجِمُ عَلى القارِئِ العادِيِّ أَحيانًا وَمَهما يَكُن مِن أَمرٍ فَالتَّوقيعَةُ في شَكْلِها تُشْبِهُ التَّوْقيعَ وَالإِهداءَ وَإن كانَت تَفْتَقِدُ إِلى السَّردِ المُسْتَفيضِ فَهِيَ تَخْتَصُّ بِالإِيْجازِ وَكَثافَةِ المَعنى وَقصرِ العِبارَةِ.

وَبَعدَ هذِهِ الجَوْلَةِ في المَصْطَلَحاتِ وَالتيرمينولوجيا الّتي تَخْدمَ فَهْمَ الوَمْضَةِ الشِّعرِيَّةِ، يَمْكِنُ القَوْلَ إنّ الوَمْضَةَ الشِّعرِيَّةَ أَصبَحَت سِمَةً فارِقَةً لِنُصوصِ الأُستاذِ مالك حجيرات، وَقَد آثَرتُ أَنْ أَسوقَ الوَمْضَةَ التّالِيَةَ نَموذَجًا يُمَثِّلُ ما سَبَقَ مِنِ اسْتِعراضٍ اصطِلاحِيٍّ، تَقولُ الوَمْضَةُ:

” أيُّها الشّاعِرُ المُرتابُ

عَلَّقَ دَواتَكَ عَلى عُنُقِ كَبيرِها

حينَ تَحَطِّمُ أَصنامَ الحُروفِ

وَإنْ خَفَقَ قَلْبُكَ

خُذْ كَي يَطمَئِنَ

أَرْبَعَةً مِنَ المَعاني فَصُرْهُنَّ إِليكَ

وَاجعَل عَلى كُلِّ قِمَّةٍ جُزءًا

ثُمَّ ادْعُهُنَّ

تَأْتِكَ القَصيدَةُ سَعيًا

وَتَكُنِ النّارُ عَلَيكَ

بَردًا وَسَلامًا

في هَذِهِ الوَمْضَةَ الشِّعرِيَّةَ يَبْدو جَلِيًّا كَيفَ يُوَظِّفُ الشّاعِرُ عُنْصُرًا دينيًّا قُرآنِيًّا في عَمَلِيَّةِ بِناءِ نَصِّهِ الجَديدِ.

وَقَد فَسَّرَتِ النّاقِدَةُ جوليا كريستيفا Julia kristeva في كِتابِها (عِلْمُ النَّصِّ) عَمَليَّةَ التّعالُقِ النَّصّيِ مِن خِلالِ استِعارَةِ جُزْءٍ أَوْ صورَةٍ عَيْنِيَّةٍ مِن نَصٍّ قَديمٍ كَنَوعٍ مِنَ الجَدَلِيَّةِ أَو الحِوارِيَّةِ وَبِهذا كانَت جوليا كريستيفا قَد تَأَثَّرَت مِن النَّظَرِيَّةِ الجَدَلِيَّةِ الّتي نَسَخَها ميخائيل باختين مِنَ الجَدَلِيَّةِ الماركسيَّةِ وَأَلْبَسَها مَلْبوسًا خِطابِيًّا حِوارِيًّا وَذَلِكَ يَتَلَخَّصُ بِفِكْرَةِ اللُّغَةِ سواءً المَكْتوبَة أَوِ المَنْطوقَة، فَهِيَ حالَةٌ اجتِماعِيَّةٌ حِوارِيَّةٌ بَيْنَ الأَنا والآخَرِ وَالكاتبُ حينَما يُكْتَبُ نَصَّهُ يَكونُ مُتَأَثِّرًا بِنُصوصٍ أَوْ قِراءاتٍ أُخْرى، فَلا يُمْكِنُ حَسبَ حواريَّةِ اللّغةِ أَن يَأْتي النَّصُّ مِن فَراغٍ إِنَّما كُلُّ ما يَكْتُبُهُ الكاتِبُ يَكونُ مُتَعالِقًا بِنَصٍّ سابِقٍ عَنْ طَريقِ وُجودِ رُموزٍ وَإِشاراتٍ تُشيرُ إلى هَذا التّعالُقِ  وَبِناءً عَلَيهِ فَالتَّوْظيفُ وَالحَداثَةُ هُما شَرطانِ مُتَعالِقانِ أَحَدُهُما بِالآخَرِ.

وَمِن هُنا، فَالقارِئُ لِلنَّصِ المُعطى أَعلاهُ، لا يُمكِنُهُ فَهْمُهُ دونَ معرفة الوَمْضَةِ الشِّعرِيَّةِ المُكَثَّفَةِ المُقْتَضَبَةِ المُثيرَةِ لِلفِكْرِ وَالحَواسِ وَالدَّهْشَةِ وَالرَّغْبَةِ في تَقَصّي الفِكرَةَ المَقْصودَة المُسْتَعارَة مِن قِصَّةِ سَيِّدنا إبْراهيمَ، عليهِ السّلامَ، الّذي حارَبَ الوَثَنِيَّة بِتَحْطيمِ الأَصْنامِ وَلِذلكَ حاوَلَ قَوْمُهُ إحْراقَهُ بِالنّارِ وَقَدْ أَشارَ القُرآنُ الكَريمُ إلى هَذِهِ القِصَّةَ في غَيْرِ مَوْضِعٍ: “قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَانصُرُواْ آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ، قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَمَا عَلَىَ إِبْرَاهِيمَ، وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأخْسَرِينَ (سورة الأنبياء:68-70).

فَفي هاتَيْنِ الآيَتينِ تَتَجَلّى اللُّغَةُ كَنَشاطٍ اجتِماعيٍّ يَصِفُ حِوارِيَّةً أَوْ جَدَليَّةً بَينَ خِطابَيْنِ: هما خِطابُ فِكرَةِ التَّوحيدِ الّتي يَطرَحُها سَيّدنا إبراهيم وَبين خِطابِ الوَثَنِيَّةِ الّذي يُدافِعُ عَنْهُ قَوْمُ إبراهيمَ.

بِالعَوْدَةِ إلى الوَمْضَةِ المِثالِ فَيَبدَأُ الشّاعِرُ بِجُملَةِ نِداءٍ يَتَوَجَّهُ بِها إلى آخَرِهِ الشّاعِر بِاعتِبارِ أَنَّ النَّصَّ حواريَّة بَينَ الأَنا وَالأَنا الشّاعِرَة، فَيَسْتَخدِمَ (أَيُّها) وَهِيَ مُنادى مَبنِيٌّ عَلى الضَّمِّ في مَحَل نَصبٍ بِياءِ النِّداءِ المَحذوفَةِ، وَأمّا الشّاعِرُ هُنا باعتِبارِها كَلِمَةٌ مُشْتَقَّةٌ فَتُعْرَبُ نَعتًا وَجاءَت لَفْظَةُ ( المُرْتابِ) نَعتًا ثانِيًا وَهِيَ اسْمُ فاعِلٍ مِن فِعلٍ مَزيدٍ خُماسِيٍّ (ارْتابَ) المُشْتَقّ مِنَ الجَذْرِ(ر.ي.ب) وَالرَّيْبُ في اللُّغَةِ هُوَ الشَّكُّ وَالتَّوَهُّمُ بِالشَّيْءِ أَمْرًا فَيَنْكَشِفُ الأَمْرُ عَمّا تَتَوَهَّمُهُ النَّفْسُ، وَفي هذا النِّداء/ التَّوَجُّه تَناصٌّ واضِحٌ مَعَ الآيَتينِ:

“لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الّذي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ”. (التَّوبة: 110).

“يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ”. (الحَجّ: 5).

فَالرَّيْبُ شَكٌّ مَع قَلَقٍ، وَالقَلَقُ إِدْهاشٌ وَالإِدْهاشُ هُوِ وَسيلَةُ الوَمْضَةِ وَأَحَدُ أَدَواتِها.

في الجُمْلَةِ الثّانِيَةِ مِن وَمْضَتِهِ يَقولُ الأُسْتاذُ مالك حجيرات:

“عَلِّقْ دواتَكَ عَلى عُنُقِ كَبيرِها”. فَهذِهِ جُمْلَةٌ طَلَبِيَّةٌ جاءَتْ بَعدَ جُمْلَةِ نِداءٍ وَتَنْبيهٍ يَتَوَجَّهُ بِها الشّاعِرُ إلى (الأَنا الشّاعِرَة) أَيْ إلى الآخَرِ مُطالِبًا إِيّاهُ بِتَحطيمِ أَصنامِ الحُروفِ، هَذِهِ العَمَلِيَّة عَمَلِيَّة تَحطيمِ أَصنام الحُروفِ وَتَعليقِ دَواةِ الحِبْرِ في عُنُقِ كَبيرِ الأَصْنامِ إنَّما هِيَ تُحيلُ القارِئَ إلى تَنَاصٍّ تاريخِيٍّ دينِيٍّ يُذَكِّرُ بِعَمَلِيَّةِ تَحطيمِ الأَصنامِ الّتي تَمَّتْ عَلى مَرحَلَتينِ: الأولى عَلى يَدِ سَيِّدِنا إِبْراهيمَ الخَليلِ والثَّانِيَة حينَ أَرْسَلَ رَسولُ اللهِ أَبا سَفْيانَ وَالمُغيرَةَ بِن شعبةَ لِتَحْطيمِ الأصْنام بِالْمعوَلِ وَعِنْدَها خَرَجَتْ نِساءُ ثَقيفٍ حُسَّرًا سافراتٍ يَبْكينَ وَيُوَثِّبْنَ وَيَتَحَسَّرْنَ عَلى صَنَمِ اللّاتِ الّذي كانَ عِبارَةً عَن صَخرَةٍ مُرَبَّعَةٍ في الطّائِفِ، وَكانَت قُرَيشُ (وَجَميعُ العَرَبِ) يُعَظّمونَها لِظَنِّهِم أَنَّها تُدافِعُ عَنْهُم، فَقالَت النِّساءُ:

لِتَبْكينّ دُفّاعْ * أَيْ المُدافِعَةَ

أَسْلَمَها الرّضّاعْ * أَي اللّئام

لَمْ يُحْسِنوا المِصاعْ * المَصْعُ هُوَ الغُلامُ المُقاتِلُ بِالسَّيْفِ وَنَحوِهِ.

ثُمَّ لا يَلْبَثُ الشّاعِرُ أَن يَنْتَقِلَ في نَصِّهِ إلى جُمْلَتينِ هُما في الحَقيقَةِ جُمْلَةٌ واحِدَةٌ تَحْوي جُمْلَةَ فِعلِ الشَّرْطِ وَجُمْلَةَ جَوابِهِ:

وَإِنْ خَفَقَ قَلْبُكَ

خُذْ كَيْ يَطمَئِنَّ

أَربَعَةً مِنَ المَعاني

فَفِعْلُ الشَّرْطِ هُنا خَفَقَ وَالأداةُ (إنْ)

أَمّا جَوابُ الشَّرطِ فَهُوَ (خُذْ كَيْ يَطمَئِنَّ)

وَفي هاتَيْنِ الجُمْلَتَيْنِ وتَحديدًا في جُمْلَةِ جوابِ الشَّرطِ (خُذْ كَيْ يَطمَئِنَّ) تَناصٌّ مَعَ الآيَةِ القُرآنِيَّةِ:

“الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (الرّعد: 28)”.

فَبَعدَ الشَّكِّ وَالقَلَقِ وَخَفْقِ القُلوبِ يَكونُ الاطْمِئنانُ بِالعِبادَةِ لِأَنَّ فيها تَزْكِيَةٌ لِلْنَفْسِ وَتَطهيرٌ لا يَتَأَتَّيانِ إِلّا بِالعِبادَةِ وَالفَضيلَةِ وَنَشْرِ الخَيْرِ وَكَذلِكَ فَبَعدَ قَلَقِ الشَّاعِرِ المُؤلِّفِ وَعَمَلِيَّةِ تَحطيمِ الوَهمِ الَّذي يَسْكُنُهُ وَتَحطيمِ الأَفْكارِ المُسْبَقَةِ يَأْتي الانْفِراجُ بِتَبْليغِ رِسالَتِهِ الإِنْسانِيَّةِ الّتي يُوْدِعُها في نَصِّهِ.

وَعَلى ما يَبْدو فَهذِهِ الوَمْضَةُ مُفْعَمَةٌ زاخِرَةٌ ناضِحةٌ بِالتَّناصّاتِ القُرْآنِيَّةِ فَيَقولُ الشَّاعِرُ:

“خُذْ أَرْبَعَةً مِنَ المَعاني، فَصُرْهُنَّ إِليْكَ

وَاجْعَلْ عَلى كلّ قِمَّةٍ جُزْءًا

ثُمَّ ادْعُهُنَّ

تَأْتِكَ القَصيدَةُ سَعيًا

وَتَكُنِ النّارُ عَليكَ

بَرْدًا وَسَلامًا”.

في هَذِهِ الجُزْئِيَّةِ يَتَناسَخُ النَّصُّ الجَديدُ مَعَ النَّصِّ القُرآنيِّ بِتَبْديلِ المَعاني، فَإذا اسْتَعانَ القارِئُ بِقَدرَتِهِ عَلى تَفْكيكِ الرُّموزِ اللُّغَوِيَّةِ فَسَوفَ تَتَجَلّى أَمامَهُ مَشْهَدِيَّة، هِيَ تَناصٌّ واضِحٌ مَعَ الآيَةِ الكَريمَةِ في سورَةِ البَقَرَةِ: “إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ “(البقرة: 260).

أَمّا في التَّفسيرِ فَجُمْلَةُ (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) فَتَعني بِالحَرفِ:

الفاءُ لِلعَطفِ، صُرْ فِعلُ أَمرٍ مِن الجَذرِ ص.و.ر، وَالفِعلُ صارَ وَمُضارِعُهُ يَصوِرُ.

أَمّا الضَّميرُ المُتَّصِلُ هُنَّ في (صُرْهُنَّ) فَمَفْعولٌ بِهِ.

وَالمَعنى الكامِلُ لِلجُمْلَةِ الطَّلَبِيَّةِ (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) تَعني كَما جاءَ في التَّفسيرِ هُوَ قطِّعهُنَّ بِإِمالَتهِنَّ إِلَيْكَ.

أَمّا الجَذْرُ ص.و.ر فَيُضْفي إلى كَلِمَةِ ( صورَةٍ) معنى هَيْئَةٍ أَوْ شَكْلٍ. وَالصّورَةُ عِبارَةٌ عَن صورَتيْنِ: الأوْلى صورةٌ مَحسوسَةٌ بِاسْتِطاعَة المَخْلوق إنسانًا كانَ أَم حَيَوانًا، إِدْراكها بِالمُعايَنَةِ وَالبَصَرِ.

وَأَمّا الصّورَةُ الثّانِيَةُ فَهِيَ صورَةٌ غَيْرُ مَحسوسَةِ، ذِهْنِيَّةٌ يُدرِكُها الإِنْسانُ خِلافًا عَنِ الحَيَوانِ، بِالبَصيرَةِ وَالعَقْلِ مِن خِلالِ رُؤيَتِهِ المُعايِنَةِ وَهذِهِ خاصِّيَّةٌ إِنْسانِيَّةٌ مَحْضَةٌ، وَقَد وَرَدَت في القُرآنِ الكَريمِ بَعضُ مُشْتَقّاتِ الجَذْرِ (ص.و.ر) في حالاتٍ كَثيرَةٍ:

* في أَيِّ صورةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (آل عِمْران: 6)

* وَيُصَوِّرُكُمْ في الأَرْحامِ (آل عِمْران: 6)

*وَصَوَّرَكُم وَأَحْسَنَ صُوَرَكُم (غافِر: 64)

*وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (الأعراف: 11).

وَثَبَتَ عَنِ الرَّسولِ في الصّحيحَيْنِ أَنَّهُ، قالَ عَلَيْهِ الصَّلَواتُ والسَّلامُ، “إِنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ عَلى صورَتِهِ”.  وفي لَفْظٍ آخَرٍ “عَلى صورَةِ الرَّحمنِ”.

أَمّا في سفر التَّكْوينِ فَقَد قالَ اللهُ: ” نَعمَلُ الإِنْسانَ عَلى صورَتِنا كَشَبيهِنا “. وَهذِهِ تَرجَمَةُ القَولِ: “ויאמר אלוהים נעשה אדם בצלמנו כדמותינו “. (בראשית : א כו)، وَكَذلِكَ فَقَد وَرَدَ في القُرآنِ الكَريمِ “لَقَد خَلَقْنا الإِنْسانَ في أَحْسَنِ تَقْويم”. (التّين: 4).

وَكَما أَنَّ الإِنسانَ هُوَ أَحسَنُ خَلقِ اللهِ باطِنُا وَظاهِرًا، فَالشِّعرُ بَعدَ كَلامِ اللهِ هُوَ أَصفى الكَلام وَأَجْوَدِهُ وَأَبْلَغِهِ، فَقَد قالَ عَبْدُ القاهِرِ الجَرَجانيّ: الشِّعرُ عِلْمٌ مِن عُلومِ العَرَبِ يَشْتَرِكُ فيهِ الطَّبْعُ وَالرِّوايَةُ وَالذّكاءُ “.

بِالعَودَةِ إلى الوَمْضَةِ المَطروحَةِ لِلبَحثِ وَالتَّحليلِ، وَبَعدَ أَن حاوَلْتُ وَبِتَجَرُّدِ وَحِيادِيَّةٍ تِبْيانَ وُجوهِ التَّناصِّ القُرْآنيِّ الكَثيرَةِ المُكَثَّفَةِ في نَصِّ الأُسْتاذِ مالِك حجيرات، أَقولُ قَوْلي للأَمانَةِ الأَدَبِيَّةِ أَنَّ هذا النَّصَّ هُوَ قِمّةٌ في الإِبْداعِ وَالإِيجازِ وَالإلْماحِ  وَالانْزِياحِ  وَالإِدهاشِ؛ إِلّا أَنّهُ نَصٌّ نُخْبَوِيٌّ بِامْتِيازٍ، إِذا جازَ الوَصفُ، لِماذا؟ ِإَنَّهُ إِنَّما يَحتاجُ جُهْدًا لِيَبْذُلَهُ القارِئُ لا سِيَّما ذَلِكَ القارِئُ العادِيُّ أَوِ القارِئُ الّذي لَم/ يَقْرَأ القُرْآنَ وَلَم يَعْرِفْ قِصَصَ الأَنْبِياءِ، كَقِصّةِ سَيّدنا إبْراهيمَ الَّذي كانَت عَلَيهِ النّارُ بَرْدًا وَسَلامًا وَهذا تَناصٌّ قَدْ أَبْدَعَ فيهِ الأُسْتاذُ مالك حجيرات أيَّما أبداع.

وَفي نِهايَةِ المَطافِ، لَسْتُ هُنا كَيْ أُقارِنَ شاعِرًا بِشاعِرٍ، وَلا نَصًّا بِنَصٍّ، وَلا تَناصًّا بِتَناصٍّ، لَكِنَّ هَذِهِ الوَمْضَةَ الشِّعرِيَّةَ المَطْروحَةَ نَموذَجا توقِفُ النَّصّينِ: النَّصّ القُرآنِيّ وَالنَّصّ الشِّعرِيّ قِبالَةَ بَعضِهِما لَيْسَ مِن قَبيلِ المُقارَنَةِ إنَّما لا بُدَّ هُنا مِنَ الإِشارَةِ إِلى ما ادَّعاهُ جيرار جينيت   Gerald Genette (1930_2018) وَهُوَ “ناقِدٌ وَمُنظِّرٌ أَدَبِيٌّ فَرَنْسيّ، صاحِبُ مُنْجَزِ ضَخْمٍ وَفَريدٍ مِن نَوْعِهِ في النَّقْدِ وَالخِطابِ السّردِيِّ وَأنْساقِهِ وَجَمَالِيَّاتِ الحِكايَةِ وَالمُتَخَيِّلِ وَشِعرِيَّةِ النُّصوصِ وَاللُّغَةِ الأَدَبِيَّةِ “. (bilarabia.net)، فَقَد ادَّعى جيرار جينيت أَنَّ: “النَّقْدَ هُوَ الّذي سَيَبْقى المُقارَبَةَ الأَساسَ لِلأَدَبِ وَالأَجناسِ الأَدَبِيَّةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ نَتَنَبَّأَ بِمُسْتَقْبَلِ الدِّراساتِ الأَدَبِيّةِ الّتي سَتَتَمَحوَرُ حَولَ التَّداخُلِ وَكَذا التَّضافُرِ بَيْنَ النَّقْدِ والشِّعرِيَّةِ “. (العَربيّ الجديد alaraby.co.uk، رَحيلُ النّاقِدِ الخَلّاقِ جيرار جينيت 12.05.2018).

وَبِناءً عَلَيهِ فَقَد جَعَلَ جيرار لِكُلِّ عَمَلِيَّةِ تَناصٍّ طَرَفينِ أَيْ نَصّيْنِ مُتَعالِقَيْنِ وَمُتَأَثّرَينِ أَحَدهما بالآخَرِ؛ فالنَّصُّ المُؤثِّرُ هُوَ النَّصُّ الأَصلِيُّ المُسَمّى hypotext)) وَهُوَ النَّصُّ المُتَناصُّ مَعَهُ أَمّا النَّصُّ الثّاني فَهُوَ النَّصُّ المُتَأَثِرُ أَي المُتَناصُّ مَعْ غَيْرِهِ وَيُسَمّى hypertext)).

ما أَرَدْتُ أَن أَقولَهُ هُنا هُوَ أَنَّ التَّناصَّ إذا اعتَلاهُ الشّاعِرُ فهُوَ مَرْكِبٌ وَعِرٌ وَعَلى الشَّاعِرِ أَنْ يَحذَرَ مِنَ الإِمْعانِ في الإِيْحاءِ وَالتَّرْميزِ رَأفَةً وَرِفْقًا بِالقارِئِ لا سِيَّما الشَّعبَوِيَّ، فالقارِئُ الدّارِسُ يَتَدَبَّرُ أَمرَهُ وَيُمْكِنُهُ تَفْكيكُ الرُّموزِ وَالإيْحاءاتِ بِالبَحثِ وَالدِّراسَةِ وَنَحنُ إِنَّما نُريدُ أَن يَكونَ الأَدَبُ في مُتَناوَلِ الجَميعِ وَلَيْسَ مَخْزونًا في بُطونِ الكُتُبِ أَوْ عَلى رُفوفِ خَزائِنِ كُتُبِ الأَكاديميا.

وهُنا أراني قَدِ اتَّفَقْتُ مَع قَوْلِ نِزار قَبّاني: “أَنا مُقْتَنِعٌ أَنَّ الشِّعرَ رَغيفٌ يُخْبَزُ لِلْجُمْهورِ وَأَنا مُقْتَنِعٌ مُنْذُ بَدَأْتُ، بِأَنَّ الأَحْرُفَ أَسْماكٌ، وَبِأَنَّ الماءَ هُوَ الجُمْهور”.

ورغْمَ كُلِّ ما قُلْتُهُ، فَبِوَجْهٍ عامٍّ الإِغْراقُ في الرّمزِيَّةِ وَالتّناصّاتِ رغمَ جَمالِيَّتِها، قَدْ تُؤطَّرُ الشّاعِرَ في خانَةِ النُّخْبَوِيَّةِ، كَما أَشَرْتُ، وَهَذا لا يَعْني أَن يَكونَ الشِّعرُ شَعبَويًّا خالِصًا إنَّما الأَفْضَلُ أَن يَكونَ مُتاحًا لِفَهْمِ النُّخْبَةِ وَالقارِئِ العادِيِّ لِيَهْنَأَ الجَميعُ وَيَتَمَتَّعوا بِجَمالِيَّةِ الشِّعرِ مِنْ بابِ أَنّ الأَدَبَ يَنْبَغي أَنْ يَكونَ مُتاحًا  لِلجَميعِ.

وَخُلاصَةُ الكَلامِ فالقَصيدَةُ المَشْروحَةُ أَعْلاهُ تَمْتَلِكُ مُقَوِّماتِ الوَمْضَةِ الشِّعرِيَّةِ كَجِنْسٍ حَداثَوِيٍّ يَنْدَرِجُ تَحتَ عُنوانِ الشِّعرِ النَّثْرِيِّ، وَعَلى الرُّغْمِ مِنْ صُعوبَةِ هَذِهِ القَصيدَةِ عَلى مَنْ لَم يَطَّلِع عَلى النَّصِ القُرْآنِيِّ الأَصلِ المُتَناصِّ مَعَهُ، فَها هُوَ الشَّاعِرُ مالِك حجيرات يَقولُ في مَكانٍ آخَرٍ غَيْرِ ذَلِكَ حَوْلَ فِكْرَةِ إتاحَةِ النَّصِّ الشِّعرِيِّ لِلْجَميعِ:

“تُصبِحُ شاعِرًا حينَ تقولُ كَلامًا

يَقرَؤُهُ الجميعُ

ويَظُنُّ كلُّ واحدٍ أنَّكَ تُخاطِبُهُ” (إيلافهم: ص 11)

ويقولُ في موقعٍ آخَرَ:

“هَلْ تَعرِفونَ الصّورَةَ الَّتي يَراها البَعضُ

عَجوزًا شَمْطاءَ،

ويُقْسِمُ الآخَرونَ أَنّها فَتاةٌ حَسْناءُ ؟؟

هكذا هِيَ القَصيدَةُ حينَ

تَمَسُّ شُغافَ القْلبِ بِلا اسْتِئذانٍ

وَتَمْلَأُ فَراغاتِ أَرواحِنا شَوْقًا

ما بَيْنَ الأَرْضِ والسَّماء. (إِيلافِهِمْ: ص 13)

في مِثْلِ هَذِهِ الحالاتِ يُمْكِنُ القَوْلُ أَنَّ “الشِّعرَ هُوَ أَنْ تَأتيَ بِغَيرِ المُتَوَقّعِ” كَما زَعَمَ نِزار قَبّاني.

 

علياء ف رحّال

كانون الثاني 2022

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*