(هذه الدراسة كانت قد نشرت في مجلة الكاتب المقدسية التي كان يرأس تحريرها الشاعر والكاتب الفلسطيني أسعد الأسعد، في عدد أيلول الع 1984، والآن أعيد نشرها وفاء لراحلنا العزيز الرفيق محمد نفاع)
محمد نفاع رائد من رواد القصة الفلسطينية الحديثة داخل الحصار، وواحد من أدباء الالتزام بقضايا المسحوقين. دخل محراب الكلمة الملتزمة الحرة الواعية في منتصف الستينات ليكتب القصة القصيرة، متخذًا من الماركسية- اللينينية مرشدًا وهاديًا في كتاباته وفي كفاحاته اليومية المتواصلة من أجل حياة أفضل ومستقبل أجمل له ولشعبه العملاق الصامد وللبشرية جمعاء.
ونشر محمد قصصه المتميزة في صحافة الحزب الشيوعي (الاتحاد، الغد، الجديد)، وصدرت له حتى الآن أربع مجموعات قصصية هي: الأصيلة (عربسك 1976)، ودية (عربسك 1977)، ريح الشمال (1979)، وكوشان (الأسوار 1980).
إن القضية الرئيسية التي تشغل وجدان محمد نفاع، بل قل الفكرة الملحة هي قضية الإنسان الفلسطيني المسحوق الذي تسربت إلى أعماقه معاني القوة والشجاعة والبطولة والتضحية. وهو ينقل في قصصه واقع القرية العربية الفلسطينية بكل ما فيها من تراب وحجارة وأشجار ونبات وصخور ووديان، وتجسد حياة أهلها ومعاناتهم جراء سياسة التمييز والاضطهاد، والتي تنتهجها حكومات إسرائيل المتعاقبة، ويرسم صورة الجرح النازف من أفئدتنا. يقول الكاتب التقدمي فيصل دراج في مقالة له عن محمد نفاع ومجموعته القصصية “كوشان”: ” في السطور والكلمات، في الموضوع والشخصية، وفي الذاكرة والتذكر، يعلن محمد نفاع عن انتمائه إلى القرية الفلسطينية عن ذوبانها فيه، حتى يبدو مجبولًا بكل ما فيها أو حتى يبدو كاتبًا فلاحيًا أو رسامًا بريًا، يرسل في كلماته أجواء قرية بعيدة، ويطلق في رسومه عوالم بعيدة في معالمها، حتى يكاد يقول: ينطلق محمد نفاع من ذاكرة القرية الفلسطينية، فيكتبها ويصونها في كتابته من الضياع والفقدان، وهو في ذبك لا يجد مواد قصصه الا بقدر ما تذود هذه المواد من الشخصية الفلسطينية أو بقدر ما تسمح بتحديد الملامح الفلسطينية في تاريخها الفلاحي، فكأن الكتابة تعيد في سطورها بناء القرى التي “اندرست”.
في قصة “لأننا نحب الأرض” يتناول محمد نفاع قصة مصادرة الأرض وارتباط إنساننا الفلسطيني وتعلقه بها، ويصور لنا بأسلوب مميز نضال جماهيرنا الشعبية وكفاحها الشاق المستمر صد سياسة النهب والمصادرة والتهويد، بالإضافة إلى تصويره حالة أصحاب الأرض حين وصلت إليهم الرسالة المتضمنة أمر المصادرة بحجة أنها تابعة لأملاك الدولة: “وراح أبي بكر يفكر بصمت، ولكن بعض الناس بدأوا يتوافدون إلى بيتنا مهرولين في ملابس النوم فارعين دارعين يحملون الأوراق الساخنة في أيديهم، بعضهم يشتم وبعضهم يقهقه وآخر يطبق كلمات رصينة.
ووحدت أمي العزاء في مصاب الآخرين، قال أبي: “أنا لا أصدق هذا أبدًا. هل الورقة مكتوبة باسمي الكامل؟ (دقق النظر!!) وعندما أخبرته بصحة الاسم تحول مني حانقًا:
-نترك الأرض بهذه السهولة!
-هه!! حكومة!! قال أحد الحضور
-بل بطيخ أصفر، ولأول مرة التمعت عينا أبي ببريق مخيف.
-ما احلاك يا حكومة وأنت ماخذه خلة “الشعر” وكان هذا اسم قطعة الأرض.
قال احراش!! ومرح ابت عامر كان “احراش” والناس صلحته.
وقصة “كوشان” هي قصة الضياع والتشرد والغربة، ضياع وتشرد وغربة الشعب الفلسطيني (جئت مع مجموعة من الرجال إلى الوطن، مذللين طوق المراقبة الرهيب، بقينا أياما في الجبال، في أماكن مجهولة تحت الشجر الملتف، في بطون الاودية والكهوف تختلط بالضباب والليل والشمس، رأينا الناس ولم يرونا، سمعنا الأصوات في البيوت، بيننا وبين تلك الأمكنة وحدة حال، اللفة، معرفة، قديمة أصيلة، في الحال عشقت كل شيء فيها الحجارة وغناء الاعراس، ورياح الاودية الناعمة الباردة، انقلبت إلى إنسان آخر، أنت لا تستطيع أن تفهم ذلك كما يجب، أريد أن أقف أن ابقى، أن اقضي عمرًا بكامله تحسست دفء الأشياء، اعب من الهواء قدرًا كبيرًا، اتحسس هؤلاء الناس، أعيش حياتهم كل يوم، بلهب وجهي لفح انفاسهم في الأرض، اتلمس الأيدي، تنازل الحجارة في الحقل الشذى، فتفيًا نفسي في العيش في طابور الغوث والتموين).
وفي قصة “الأرض موصودة بأهلها” يصور محمد الأساليب السلطوية في نهب الأراضي العربية وتصدي جماهيرنا العربية الواعية لها (رأيت الناس في بلادنا، يقفون على الصخر في مواجهة الزحف والمصادرة، يطبون على الصخر بأرجلهم، الصخر ثابت ماكن، وطب الأقدام امكن، يسدون أبواب المغاور والكهوف والدحانيس بأجسادهم القوية الصامدة، حيث توحمت أمهاتهم على الصخور والسنديان، من أجل بقاء المغاور لنا كانت وكما يجب ان تكون، يعزلون اجران المياه من الحجارة والوحل، يطوعون المعاصي صاغرة حتى تنبت القمح، فتفعل هاشة باشة معطًا، يتصدون كتفا إلى جانب كتف ومجن من الوحدة لا ينفذ يعود الشيخ شابا عنيفا منتصبا قاهرا، يولد الطفل ورأسه إلى العلاء يكبر رأسا للتحدي، يتطاير الشرر من عيون الأمهات والعذارى بلا تحفظ. اما ان نركب رأس الغول او يركبنا، الكل يدفع عن البلد والأرض والرصد بأسنانهم، بأيديهم، بحجارة الصوان واعواد السنديان، عرفنا جميعا وليعرف الغول دفعة واحدة مرة وإلى الابد أن البلد فيها رصد، الأرض موصودة بأهلها”.
وقصة “الجمال يفقد القوة” تسجل مأساة الفتاة الحسناء التي صدمتها حرب الستة أيام 1967 فقدان حبيبها وشريك حياتها الذي لم يمض على زواجها منه شهران، وقد افقدت هذه الحرب امالها وطموحاتها وامانيها كافة.
وفي قصة “يوم شارك الحراثون في اعمال الصورة” يرسم محمد صورة للنضال المنظم والمتواصل والواعي ضد الاستعمار البريطاني، ويصور بل ويبرز جميع ألوان واشكال الظلم والقهر والعسف والاضطهاد الواقع على جماهير الشعب الفلسطيني: “فالشيوخ قصت لحاهم وفي المركز العسكري اجبر عدد من الأهالي يلمس مؤخرات بعضهم بتهمة التهريب من لبنان، وأزيلت خصية ثالث كليا، وعندما
كان أحد الرجال يركب جابته عائدا من الحقل وفي يديه قضيب يضرب به الدابة التي تتلكأ في المشي صادفه عسكري انجليزي فأوقفه وضريه بنفس القضيب ضربا مبرجا على رقبته ووجهه صارخا: “الرفق بالحيوان”.
وقصة “جهاز العروس” تعكس حياة عائلة بروليتارية فقيرة، وترصد معاناتها واوضاعها المعيشية بسبب الظروف الاقتصادية السيئة: “وإذا طبخت امي اكلة المجدرة وهي الطبخة التقليدية كانت تكيل ثلاث ملاعق زيت بمعلقة خشب صغيرة وتفتش عن اردأ وأصغر رأس بصل مدعية بأننا لا نرغب الزيت والبصل على الطبيخ فنأكل ما تطبخ ويتكرر ذلك يوميا”. وفي موضع آخر يقول: “قال التلفزيون حرام لبس القصير والتنقل هم بسلامتهم ما رفعوا صوتهم يوم مصادرة الأرض، قديش كان أحلى لو طالبوا بفتح مشاغل في البلاد.. شغل بجنب البيت مريح ومستور، قديش كانوا يكسبوا أجر لو يطالبوا بتعفية الشباب من الجيش الاجباري، مات الشباب من البلد بترتمي ثلاث سنين في الجيش شيء برجع وشي ما بيرجع”، وتنتهي القصة لتقول لنا على لسان احدى شخصياتها: “كسوتي قليلة على قد الحال، وكسوتي الحقيقية هي محبة الناس والأدب والضمير والوعي، والتعاون أجمل كسوة لبلدنا”.
وقصة “واحد من كثيرين” تبرز شخصية الإنسان الشيوعي الملتزم بحزبه وبرنامجه السياسي وبالقضية العادلة التي يدافع عنها، قضية الكادحين المسحوقين.
وفي قصة “المشردون” يصور محمد نفاع مأساة الشعب الفلسطيني في العام 1948 وما رافق ذلك من القتل والاقتلاع والترحيل الجماعي.. فيقول: “وعكر المزاج وحرقت البيوت والأشجار، وارتعد الأولاد وصرع رجال ونساء وأولاد وبهائم، واقتلعت الحرب الناس، هذه الحجارة والحيطان والتراب والأشجار هي بقايا قرية حطين”.
أما قصة “جاء وقت الخطر” فتتحدث عن هزيمة حزيران العام 1967 التي استهدفت الإنسان الفلسطيني جسدًا وقضية وعن الإرهاب والعسف والعذاب الذي تلاقيه الجماهير الفلسطينية تحت نيران الاحتلال الصهيوني.
وقضية الحب في مجتمعنا العربي القروي عالجها محمد نفاع بأسلوب ساخر في قصة “أشياء غريبة”، وقد ابداع في تصوير هذه القضية حين قال: “في حارتنا أكثر من عشرين صبية، كلّهن بالغات فقعت بزازهن فقعة العدسة وفقعة الفولة من زمان، أحلى واحدة فيهن “صالحة” وأنا ذاهب لملاقاتها اليوم في الوعر، لان البلد كلها عيون والسن واذان وايدي وارجل وشحاشيط وعصي وحجارة وشبريات. الحب مكروه في البلد، ولا يوجد أصعب منه الا العزارة والفضيحة وكيف؟ يخطّي واحد ويطب على دابته!! فيحمل اسمها وعارها وتصبح الفضيحة كنية له يحملها ذنبا على الجنب وحسابا على الرب، عملها في ساعة شيطانية، طغته نفسه الامارة بالسوء، عنّ على باله ذلك الشيء في البرية حيث يكثر الجهل والانطلاق، تتفتح النفس للقيام بأعمال من نوع آخر فلم يجد في متناول يده الا الدابة تسرح وترعى، وهي السائبة تقف تهدا مبهمة فيها وترك حاشا من الطارئ”.
وينقلنا محمد نفاع في قصصه الى الريف لننعم بأجوائه ونسعد بلقاء أهله الكرام، نتنقل معهم في رحابهم الجميلة، نسهر معهم في سهراتهم الريفية على ضوء القمر الوهاج ونستمع إلى الأهازيج الشعبية، ونصغي إلى قصص الزير سالم وتغريبة بني هلال وعنترة وحكايات ألف ليلة وليلة.
تتميز قصص محمد نفاع ببساطتها وشعبيتها ورؤياها الجلية الواضحة، وما يميزها عن قصص غيره من الكتاب المحليين الذي تناولوا واقع القرية العربية أمثال مصطفى مرار ومحمد علي طه وغيرهما، انها تبرز أسماء النباتات والأشجار والازهار العابق أريجها من سفوح جبالنا الشماء.
وأبطاله من الطبقات الشعبية الفقيرة، وهم ريفيون بسيطون يعشقون الأرض والزيتون والصبار، يقاومون الظلام ويتحدون القهر والموت، فيهم العامل الكادح والفلاح المتجذر في أرضه، وفيهم المدرس النبيل والمثقف الواعي لقضايا الفكر الإنساني التقدمي الذي يشارك في خلق الإنسان الجديد وبناء مجتمع العدل والحرية الخالي من الاضطهاد والتمييز والظلم والاستغلال، استغلال الإنسان لأخيه الإنسان.
ويدخل محمد في قصصه الأناشيد الكفاحية والأهازيج الشعبية، كنشيد:
لبناء عالم جديد ولقبر مشعل الحروب
في هدى أكتوبر المجيد سائر موكب الشعوب
تهتف الجموع في المواكب بشعار حزبنا الأمين
شعبنا الأبي لن يحارب وطنًا شاده لينين
وكأغنية:
من بين البيوت
شوقي مرق خيال
من بين البيوت
ما قلتله فوت
الله عمى قلبي
ما قلتله فوت
واسلوبه في الكتابة هو أسلوب جرمقي على حد تعبير القص محمد علي طه، يتراوح بين الأسلوب التسجيلي الحرفي الساخر وبين الأسلوب التأملي أي كأسلوب الشعراء حين العرض، كما لاحظنا ذلك في قصص زكي العيلة في مجموعتيه “العطش” و”الجبل لا يأتي”، يقول محمد في احدى قصصه: “وها انا اعي كل شيء اسمي عدوان، ولي زوجة لطيفة، أبيه وطفلة حلوة طيبة تكاد تنطقـ لها شعر أشقر ناعم كالزغب على فراخ الطير تلبس ثيابا جميلة زاهية، وتدغدغ بأصابعها الطرية الحية عنقي ووجهي وتحاول إدخالها في عيني وفمي وأذني”.
ولغته تتراوح بين العامية والفصحى، وهو يكثر من استعمال الكلمات العامية الدارجة لكي يقرب القارئ إلى الريف ويثير فيه إحساسا وشعورًا عميقا وللمحافظة على التعابير والالفاظ التي يتبادلها أبناء الريف في أحاديثهم كقوله: “وكانت الأرض المحروثة المسهمدة.. واحتج هو وبلعط بيديه محاولا الإفلات، وروح ضب أخواتك، مشلبطات ودايرات مثل البساس في شباط”.
وما أخذه على محمد نفاع هو تكراره لكثير من العبارات والمترادفات، وهذا بالطبع لا يخدم البناء القصصي بل يضعفه ويقلل من قيمته”.
وأخيرًا، محمد نفاع أتحفنا بالقصص الحقيقية الصادقة التي تصور الحياة الريفية الشعبية وتسجل الواقع في تطوره الثوري.