ملخص البحث
تقوم هذه المقالة بدراسة قصّة “مقصّات وسكاكين من الذاكرة” للكاتب الدكتور محمد حمد (مجموعة غيبة الغنمة، 2018) دراسةً تأويليّة تكشف دلالات النصّ، وتبيّن مدى التفاعل بينه وبين القارئ. وتتقصّى العناصر الشكليّة والأسلوبيّة البارزة في النصّ، فوجدتْ أن القاصّ قد قام بتصميم الفضاء بدقة متناهية، فبدا وكأنه مسرح مؤثث بما يتلاءم مع تحرّكات الشخصيّات فوقه وداخله في انسجام تام، وعاينت شكله الطوبوغرافيّ، وما يحمله من رموز ودلالات. كما توقّفت عند العلاقة الجدليّة بين البداية والنهاية فوجدت أنهما ترتبطان برباط فكري وثيق. ورصدت اللغة في مستوياتها المتعددة الشاعرية والمعيارية والشعبية ودورها الجماليّ للتأثير في المتلقّي.
ترى هذه الدراسة أنّ طرح قضايا تقليديّة، عبر الدخول في تفاصيل الواقع المتخيّل، ما زال قادرا على خلق تفاعُل قويّ بين المتلقّي والنصّ، وتحفيزه على التجاوب، من أجل تبنّي مفاهيم اجتماعيّة تساهم في خلق مجتمع حديث يعيد النظر في معنى الرجولة والذكورة والفحولة والأنوثة، وتثير نقاشا حول شروط بناء حياة سليمة تعيد للفرد حريّة التفكير، وتُعتقه من الضّغوط الاجتماعيّة التي يمارسها المجتمع، من خلال فرض مُسلّمات اتّبعها ككتاب مقدَّس، على مر السنين، دون التّجرّؤ على مواجهتها واختراقها.
ترى هذه الدراسة أنّ العمل الأدبيّ يقوم على أركان ثلاثة لا يمكن الفصل بينها وهي: المؤلِّف، النص والقارئ، فاستفادت من نظريات جماليات التلقّي لأنّها الأكثر ملاءمة لمعاينة مركّبات العمل الأدبي، لما فيها من مكوّنات وآليات ومفاهيم ومحاور إجرائية قادرة على متابعته، تقييمه وتقويمه، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ لكل نصّ ظروفه الاجتماعية والتاريخية، ودوافع إبداعه الخاصة.
قامت الدراسة بتقصّي عمليّة القراءة والمواجهة المباشرة بين النص والقارئ وما يحدث من تفاعل وتأثير وتأثّر متبادل، فكل قراءة جديدة قادرة على كشفٍ جديدٍ، شريطةَ أن يكون النص غنيّا، مفتوحا، غير منغلق على ذاته وقابلا للتأويل، مما يتيح للدارس أن يقرأ النصّ قراءة إبداعيّة لا استهلاكيّة.
تمهيد
أولى الدارسون التقليديّون اهتماما كبيرا بالكاتب/الفنان فدرسوا سيرته الذاتيّة، بيئته، محيطه الاجتماعيّ والسياسيّ، همومه وحالته النفسية. وكانوا يلجون النص من خلاله معتمدين على دراسة سيرته وانعكاسها في النص وكأنه مرآة لذاته، حتى ظهرت نظريّات التلقّي في ستينيات القرن الماضي واعتمدت رؤى جديدة تدعو إلى تحويل الاهتمام من ثنائية المؤلف- النص نحو ثنائية القارئ-النص. وكان للمنظّرَين هانس روبرت ياوس (1921-1997) وفولفجانج إيزر (1926-2007)، ولمدرسة كونستانس الألمانية دور رائد في هذا المجال. ورغم تعدّد المنطلقات والآراء والمناهج “إلا أنّها تكاد تجتمع في الاعتراض على الرأي القائل إنّ المعنى كامن في النصّ الأدبي، وترفض حصر المعنى بالنصّ وتميل إلى الاعتقاد بأنّ القارئ هو الخالق الحقيقي للمعنى”. (صالح، ص28)
أعادت نظريّات جماليّات التلقّي للقارئ مكانته، إذ بعد أن كان تابعا للمؤلِّف، مقتفيا أثره، بات مشاركا في عمليّة الإبداع، موازيا للمؤلِّف وندّا له، وليس مجرّد متلقٍّ حياديّ، إذ “تبدأ متعة القارئ عندما يصبح هو نفسه منتجا”. (إيزر، ص56)
أثارت هذه النظرية نقاشا واسعا منذ بداية إعلان رؤيتها، ولقيت صدّاً من أتباع النظريّات الأخرى، السابقة والمتزامنة. ويرى صلاح فضل أنّ هذا التيار قد “توخّى في الدرجة الأولى تغطية الجوانب التي أهملتها البنيوية باعتمادها على المحايثة النّصّيّة وتجاهلها المعتمد للسياقات التاريخيّة الاجتماعيّة الخارجة عن حدود النّصّ، جاء هذا التيار ليستكمل ما أهملته البنيويّة وليضع العمليّة الأدبيّة في دائرة التّواصل الإنسانيّ بالنّظر إلى طبيعتها، وينقل مركز الثقل من استراتيجية التحليل من جانب المؤلف – النص إلى جانب النص – القارئ”. (فضل، ص80)
إنّ أية دراسة أدبية تهمل أحد المحاور الثلاثة: المبدع، النص والقارئ، ستكون منقوصة. هذه المحاور الثلاثة ذات أهمية كبرى في ارتباطها العضويّ فيما بينها، وبدونها لا تكتمل عملية الإبداع. (إيزر، ص56) فقد رأى بعضهم أنّ النصّ، حين يخرج من يد الكاتب، يصبح ملكا للقارئ، لدرجة جعلت رولان بارت (1915-1980) يعلن رؤيته المعروفة ب”موت المؤلف”، (بارت، 1994، ص 10-25، (Barthes, pp. 142-148 ربما كردّ فعل للرؤية السابقة التي تولي المؤلّف العناية الأكبر، وتستبعد القارئ ودوره الفاعل في عملية التأويل. واعتبر آخرون أنّ النصّ يبقى ميتا (موت النص)، حتى يقوم القارئ بإحيائه، وفكّ شيفراته وتفكيكه وكشف أسراره ومبناه اللغويّ، وأبعاده ودلالاته ورموزه. وهو في كل قراءة يقوم بكشف زاوية معينة من النص. وقد يتأتّى ذلك بشكل أوسع وأشمل من خلال تعدد القراء وفق رؤية وولفجانج إيزَر، أو من خلال قارئ نموذجي، وفق رؤية أمبرتو إيكو، وهو القارئ الذي يتسلّح بذخيرة معرفية هائلة تسعفه على حل ألغاز النصّ وتفكيكه وكشف ما كان غامضا في عين الآخرين. “… ولهذا يتوقع (المؤلف) قارئا نموذجيا يستطيع أن يتعاون من أجل تحقيق النص بالطريقة التي يفكر بها المؤلف نفسه، ويستطيع أن يتحرك تأويليا كما تحرك المؤلف توليديا”. (إيكو، ص35)
يقوم القارئ بكشف دلالات النص عبر ثقافته الواسعة وربطه بأعمال أدبية سابقة، فالقارئ حين يقرأ عملا أدبيّا ما فإنّه يستحضر من ذاكرته أعمالا أخرى يقيم معها مقارنة. كما يميّز بين اللغة الأدبيّة واللغة اليوميّة، وبين الواقعيّ والمُتخيَّل في النصّ. هذا يعني أن القارئ لا يقارب النصّ إلا مسلّحا بذخيرة معرفية سابقة، وإلا كان رأيه أو دراسته عبارة عن قراءة انطباعيّة عاطفيّة. فالنصّ، من خلال مكوّناته ومميّزاته، والقارئ، من خلال رصيده المعرفي، يتفاعلان ويتبادلان التأثير والتأثّر. ( للتوسع انظر: شجراوي، وبالتحديد، ص608)
إنّ الكاتب هو أيضا متلقٍّ، يقرأ ويسمع نوادر وحكايات يحفظها ويتأثّر بها، ويقيني أنّ محمد حمد قد تأثّر من حكايات قريته ونوادرها الشعبيّة. هذه قراءة بكر وولادة بكر، فالنص حديث ولم يتناوله أحد من قبل بالدراسة المُفصّلة، وعليه نؤكد أنّ عملية الفهم والتفسير والتطبيق لا تتأتّى إلا بفعل الغوص في النصّ، ففي كل ولوج جديد، قراءة جديدة واكتشاف جديد. إنّ الفرق بين المتلقّي العادي والمتلقّي المبدع هو عمليّة تواصل الإبداع. فالعادي قد يستسيغ الفكرة وقد يتمتّع بها، أما المبدع فيتابع في عملية الخلق كالنحلة التي تمتصّ الرحيق وتحوّله إلى شهد. فأيّ أثر جماليّ ترك النصّ لدى المتلقّي؟ وهل هناك تأويل نهائيّ للنص القصصي؟ وهل ما زالت المواضيع التقليدية قادرة على تجنيد القراء؟ ستحاول هذه المقالة الإجابة على هذه الأسئلة وعلى غيرها.
ملخص القصة
تدور أحداث القصّة في قرية عربيّة فلسطينيّة، شخصيّتها المركزيّة راعٍ يدعى محمود الكبش، وهو شابّ أعزب، قويّ الجسم، قادر على اقتلاع شجرة من جذورها، وإمساك عجل شارد من ذيله “كمن يمسك صوصا ابن يومين”. اعتاد أن يسير في طرقات القرية وحواريها يوميّا بشكل مُخطَّط كي يلتقي بوردة.
ووردة هذه وحيدة والديها، صبيّة مليحة، “بنت سبع عشرة سنة، أشهى من البدر في ليلة “15 الشهر” إذا طلعت، أو على الأصح إذا نزلت نزلة راس التين، ووصلت إلى العين لملء جرتها”. تلفت نظر الراعي محمود الكبش ويتعلّق بها قلبه. وتبادله هي أيضا نفس المشاعر، دون أن يدور بينهما أي حديث، “وكانت تكاد تتفجّر من الغيرة عندما كانت تطلب إحداهنّ منه أن يُعينها على رفع الجرة إلى رأسها”، وتتمنى في قرارة نفسها أن تنفرد به ولو مرّة واحدة عند العين أو في أيّ مكان آخر.
يداوم محمود الكبش على مراقبتها وملاحقتها، يوميا، منذ ورودها العين وحتى صدورها عنها، متمتّعا بكل حركة تبدر من ثنايا جسدها، خاصّة حين تتلوّى وهي تصعد التلّة، إلى أن تختفي في كرم التين. وأخيرا يتحقق حلم اللقاء الذي خطّط له محمود بدقّة، عند زاوية من زوايا كرم التين، وفي ممرّ ضيّق يمكنه أن يَرى ولا يُرى. انتظر عودتها من العين “وما إن اقتربت وردة من الممر المحاذي للجذع الكبير للتينة، حتى همس بصوت خافت: وردة!”. ولما مالت لتعرف مصدر الصوت مالت الجرة وسقطت عن رأسها وتبلّلت ثيابها فبدت “أجمل مخلوقة خلقها الله”، واقتربا من بعضهما على مرمى قبلة وأحسا أنهما في الجنة تحجبهما أوراق التين.
يطلب من أمه، كعادة أهل القرية، أن يقوم والده بطلب يدها من والدها، الذي يبارك الطلب ويوافق عليه. يخطب العاشقان ثم يتزوجان. “ووسط غيرة بنات الحارة وحسدهن، تمّ دخول محمود على وردة في تلك الليلة”، يقطف من ثمار جسدها قبلا شهية، وكانا أشبه ببركانين يتفجران شوقا وشبقا، ولكنه قبيل الأوج “يشعر بتراخ في كل عضلاته، فتور وانكماش يفتكان به”.
يعود محمود بذاكرته حين كان في الرابعة أو الخامسة من عمره إلى “المُطهِّر” الذي كان يحضر آنذاك إلى القرية حاملا عدّة بدائية، وقد جاهد الطفل قبل أن يقع فريسة عمليّة التطهير/الختان، بعد أن سمع ممن هم أكبر سنا عن الوجع والألم الذي تعرضوا له نتيجة ذلك، لكنّ سكّين المطهِّر انحرفت قليلا وتولّد جرح أكبر من المعتاد، وأصيب الطفل بعطب تكشّف في هذه الليلة. “وأفاق محمود الكبش على ضربات أمه على الباب وهي تصرخ: (ها يما يا محمود أخذتها؟)”.
الفضاء بين الانفتاح والانغلاق
يعتبر الفضاء المكانيّ من أهم العناصر الروائيّة، بعد أن كان، لفترة زمنية طويلة، من أقلها إثارة للاهتمام. أما من أولاه عناية ما، فكان يتعامل معه بصورة ثانويّة تقلّل من حجم دوره الشامل، وتُختزل أبعاده الطوبوغرافيّة والدلاليّة والرمزيّة، بعيدا عن بنيته ومنطقه الداخليّ والعلائق التي تربطه بمكوّنات التخيّل الروائي. (بحراوي، 2002، ص5) ولكي نعي أهمية الوظيفة الفضائية يطرح ج. ب. جولدنستين ثلاثة أسئلة كبرى وهي: “أين يجري الحدث؟ وكيف يتمّ تشخيص الفضاء؟ ولماذا يتمّ اختياره على نحو من الأنحاء بالذات؟”. (جولدنستين، ص21) سنحاول النظر في فضاء القصّة من خلال الإجابة عن هذه الأسئلة، مع الأخذ بعين الاعتبار ما تَكشّف لنا أثناء فعل القراءة.
يقوم الراوي، في قصّة “مقصّات وسكاكين من الذاكرة” بتوصيف المكان بشكل دقيق، حتى بدا للقارئ، في المواجهة الأولى، وصفا طوبوغرافيا تظهر فيه معالم القرية الخارجية وكأنها تُرسم وفق خطوط الطول والعرض، مع التدقيق في المدة الزمنية التي يُمضيها محمود الكبش في تنقُّله بين نقطة وأخرى، بحيث يستطيع المتلقّي أن يبني في ذهنه صورة للقرية: حاراتها، كرومها، طرقاتها وأزقتها. لكنّ نظرة ثانية متأنّية ودقيقة تكشف أنّ الكاتب قد اختار بعض المقاطع من القرية بما يتلاءم مع الأحداث، ومع تحرّكات الشخصيّة المركزيّة، محمود الكبش، الذي يبدأ مشواره اليوميّ المعهود من “السدرة حيث البيادر ومركز البلد”…، “ثم جامع النبي لوط فيقف هناك لبضع دقائق”…، “وبعد ذلك يخرج من الحارة إلى العين”…، “والمسافة بينها وبين الحارة لا تزيد عن ثلاثين مترا لكنّه كان يقطعها ببطء شديد لا يقلّ عن نصف ساعة”…، “وكان عادة ما يدخل في الزقاق ليعمل طريقا التفافيّة، فيمرّ بجانب المعصرة ودار “أبو جنينة”، ويدور من العين من جهة الشرق، وبهذا تطول الطريق قليلا”.
ولكي يزيد من واقعية المكان، خدمةً لعملية الإيهام بالواقع، يقوم بتأثيثه بنباته وشجره وكرومه، وبتعرّجات الأمكنة وزواياها، وبتحرّكات أهل القرية في بعض مواقعها، بالذات في احتشادهم في منطقة العين، و”طلعة راس التين”، حيث يعاين محمود تحركات وردة. يدرك القارئ، من خلال القراءات المتكررة الفاحصة، أنّ تصوير تفاصيل المكان يكشف ما يدور في ذهن الشخصيّة المركزيّة، محمود الكبش، الذي يألف المكان ويعرف تفاصيله، نظرا لكونه ابن هذه البلدة الصغيرة، ونظرا لتكرار هذه “الرحلة” المقصودة التي تتيح له تحقيق نواياه. فتشخيص المكان يوهم بواقعيّة الأحداث، ويجعلها في عين القارئ محتملة الوقوع، وهو كالديكور في المسرح، إذ لا يمكننا أن نتصوّر وقوع الأحداث إلا من خلال الإطار المكانيّ. (لحمداني، ص65) ويرى فيليب هامون “أنّ البيئة الموصوفة تؤثّر على الشخصية وتحفّزها على القيام بالأحداث وتدفع بها إلى الفعل، حتى إنّه يمكن القول بأنّ وصف البيئة هو وصف مستقبل الشخصيّة”. (بحراوي، بنية الشكل الروائي، ص29-30) أما جوليا كريستيفا فلم تجعله منفصلا عن دلالته الحضارية، بل إنّها تراه مرتبطا بثقافة عصر من العصور الذي تُصوّره الرواية. (لحمداني، ص54)
يلجأ الكاتب إلى الأسلوب التصويريّ المتحرك، مما يثير تساؤلات عدة لدى المتلقّي، في المواجهة الأولى مع النصّ، حول أهميّة هذا التصوير التفصيليّ ودوره، ويفتح فجوة للتخمين، ورغبةً في تقصّي هذه التحركات، فعين الكاميرا تلتقط حدثا هنا وآخر هناك، وعلى المشاهد/ المتلقّي أن يقوم بجمعها، كما فعلنا أعلاه. لقد تبيّن لنا أنّ الكاتب يرسم معالم المكان، وفق ديكور متحرّك، متبدّل وغير ثابت، لتتحرّك فوقه الشخصيّات ضمن حدوده. (انظر: جولدنستين، ص 20)، فهو يرى اعتمادا على ميخائيل باختين أنّ الروائي يقيم الديكور الذي يتحرك أبطاله داخله، لكي يتيح للقارئ رؤيتهم رؤية جيدة) ثم تأتي الخطوة الثانية التفسيريّة لاكتشاف مدى تآلف المواقع مع تحرّك الشخصيّات، وفي خطوة تالية تتكشّف القصديّة من خلال هذا التوصيف المفصّل، حيث يحدث اللقاء بين الشخصيّتين المركزيّتين في زاوية مستورة، تعيد إلى الأذهان ورقة التين وقصّة آدم وحواء. فهناك ورقة التين تستر عورتهما، وهنا يقوم كرم من التين بستر لقائهما، الذي كاد، لولاه، أن يتحوّل إلى فضيحة، تكشف أمرهما وتُفشِل ما يرغبان به.
ما الدافع وراء اختيار هذا المكان؟ وكيف سيتجاوب قارئ اليوم مع فضاء القرية العربية التقليدية؟ عن أي قارئ يبحث الكاتب محمد حمد؟ هذه بعض من تساؤلات راودت فكري أثناء عمليّة القراءة وبعدها. يبدو أنّ الكاتب محمد حمد ما زال يقع تحت تأثير حكايات أبناء قريته حين كان طفلا، أو ربما ما زال يحنّ إلى قريته حين كان أهلها أكثر بساطة وبراءة. لقد شعرتُ منذ الصفحة الأولى للقصّة وكأنّ الأحداث تدور في قريتي حين كانت صغيرة وأليفة، وعادت إلى ذاكرتي قصص القرية والعين وحارسها والتعفير، فوجدت نفسي مقودا لاكتشاف المكان بكل تفاصيله، وما سيدور فيه من أحداث. أحسست أنّ باشلار كان صادقا جدا حين تحدث عن البيت وعن حميميّته، والبيت ليس بالذات بيتا في معناه المباشر، بل هو المكان الأليف، بكل مكوناته، إذ يرى أن “كل الأمكنة المأهولة حقا تحمل جوهر فكرة البيت”. (باشلار، ص36)
تُعيد أجواء القصّة وملامحها الداخلية والخارجية إلى ذهن المتلقي فضاءَ قصص كتّاب فلسطينيّين أكبر سنا، وظّفوا هذا الفضاء في قصصهم ورواياتهم، مثل محمد نفاع، محمد علي طه، حنا أبو حنا وتوفيق فيّاض. وكأنّ هذا الفضاء ما زال يلحّ على بعض كُتّابنا الأصغر سنّا، الذين يرونه، على ما يبدو، ما زال مناسبا لكي يتمّ الانطلاق منه إلى ما هو أوسع، عبر طرح قضايا اجتماعيّة شموليّة تصلح في كل مكان وزمان، مما يؤكّد أنّ فضاء القرية الفلسطينيّة التقليديّة لم يتمّ استهلاكه نهائيا بعد، بل ما زال فضاء حيّا، ونابضا وجزءا من هُويّة.
تثبت النهاية الدراميّة للقصّة أنّ القرية الفلسطينيّة، كفضاء وكمجتمع، ما زالت تعاني من انغلاق على الذات. لم تشهد الأحداثُ أيَّ انفتاح على الخارج إلا من خلال “المُطهِّر” الذي يمثّل الانغلاق الفكريّ الذي كان المسبّب المباشر والرئيسيّ في القضاء على مستقبل شابين، يمثّلان جيلا كاملا من الشباب. هذا الانغلاق الخارجيّ هو شكل من أشكال الانغلاق الفكريّ. فهل قصد الكاتب محمد حمد من خلال توظيفه للقرية العربيّة التقليديّة، في قصته الحديثة زمنيّا، أنّ المجتمع العربيّ ما زال يعيش في فضاء مغلق يحدّ من الانفتاح على العالم؟
لا نعلم إن كان الكاتب قد قصد ذلك، فالأهم لدينا هو ما تحقّقنا منه من خلال فعل القراءة، وبالذات أثناء عمليّة التحليل والتطبيق. فقد أتاحت لنا هذه القراءات الدخول في تفاصيل النص وجزيئيّاته، والتحقّق، بشكل لا يدعو للشك، من أنّ فضاء هذه القصّة القرويّ هو فضاء مغلق. وتبيّن أنه ليس المكان المغلق مقصورا على سجن، أو غرفة، أو جزيرة نائية، لأنّ هذه الأماكن المغلقة وغيرها قد يخترقها الإنسان إذا تمكّن الفكرُ من أنْ يُحلّق خارجها.
لقد بدا واضحا أنْ لا أحدَ يعمل على اختراق هذه البيئة، وهذا المحيط جغرافيا واجتماعيا. أمّا الصرخة الوحيدة التي سمعناها عبر كل أحداث القصة فهي: “ها يما محمود أخذتها؟”، إضافة إلى صرخة مكبوتة لزوجين شابين لم نسمع لهما حتى هسيسا.
بداية ونهاية
يجد القارئ نفسه مقودا، بعد كل قراءة، إلى التفكير بالنهاية التي اختارها الكاتب لقصّته أو لروايته. ويستمرّ الانشغال الفكريّ بقدر حجم التأثّر المتبادَل بين القارئ والنصّ، وترانا نطرح، أحيانا، اقتراحات بديلة، نجدها أكثر توفيقا، ويطرح غيرنا بدائل أخرى مغايرة. وبالرغم من أهمية هذا الموضوع الفكريّ والفنيّ والتقنيّ إلا أنّ المنظِّرين لم يولوا خواتم القصص والروايات واستهلالاتها الأهمية التي تستحقها، (انظر حول “الخاتمة”: معجم مصطلحات نقد الرواية ص85-86) وكنّا نتمنى لو أولوها نفس العناية التي أوليت لدراسة “العتبات”، التي خصّصوا لها أبحاثا ذات قيمة كبيرة ودراسات متعددة. من المفارقات اللطيفة أن أكتشف أنّ أحد الذين درسوا دلالات البداية الباحث محمد حمد. (انظر: حمد، شعريّة البداية في النصّ القصصيّ “يوسف إدريس نموذجا”)
أعتقد أنّ التفكير بالخاتمة يأخذ حيّزا زمنيّا أكبر من ذاك الذي قد يخصّصه المبدع أو القارئ، على حد سواء، للتفكير في العتبة. ويقيني أنّ كلّ مبدع لا بدّ أن يبحث، خلال عمليّة الكتابة، عن نهاية تليق بالبداية وتتفاعل معها. وقد تكون الخاتمة مفاجئة ومناقضة لما جاء في البداية، كما هو الحال في قصة “مقصات وسكاكين من الذاكر. وأرى أنّ عدم إنهاء القصّة أو الرواية بطريقة فنيّة ناجحة، يجعل القارئ ينفر من العمل كلّه أكثر من نفوره منه في حال عدم رضاه عن اختيار العنوان، “وكثيرا ما تشكّل الخاتمة سببا للتوتّر بين الكاتب والقراء لأنّ الخاتمة تحمل عادة موقف الكاتب”. (معجم مصطلحات نقد الرواية، ص85)
ولو أخذنا الجملة التي ينهي بها الكاتب قصّته، “ها يما محمود أخذتها”، من قصة “مقصات وسكاكين في الذاكرة”، لوجدنا أنّ قوة الشّحن العاطفيّة التي تعتري القارئ تجاه العروسين في ليلتهما الأولى تعادل أضعافا مضاعفة ما يثيره هذا العنوان. تحمل، هذه الجملة، في دلالاتها، مواصفات مجتمع كامل يرى الرجولة في نجاح العريس في فضّ بكارة العروس في الليلة الأولى، ضامنا استمرار الحياة الزوجية من خلال تثبيت العذريّة، كشهادة شرف تحملها الأنثى، تعلن من خلالها براءتها ونقاء أخلاقها، بعيدا عن الحديث عن الحب والتفاهم بين الزوجين. ( للمزيد من التوسع حول مكانة المرأة في المجتمع المتخلف، وحول مفهوم الرجولة والذكورة والأنوثة انظر: حجازي، مصطفى. التخلف الاجتماعي – مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور)
إنّ طرح هذه الجملة في خاتمة القصة، وبعد اطلاع القارئ على ما حدث في تلك الليلة، تفتح بابا للمناقشة، وبابا لمراجعة الذات والآخرين، وتطرح أسئلة غاضبة، هازئة وساخرة، تدعو لوضع حدّ لهذه المهزلة المؤلمة. إنها جملة تعيد القارئ مباشرة إلى ما جاء في البداية، فيكتشف أن المظهر قد يخدع، وأنّ أمرا صغيرا قد يطرأ يمكن أن يبدّل مسار الحياة كله.
يطّلع القارئ/ المتلقّي على الأحداث، ويعلم ما دار في تلك الليلة قبل الأم، التي لم تسمع، ولن تسمعَ جوابا يتيح لها إصدار زغرودة تفرّج قلبها. ويُترك الأمر للقارئ لملء الفراغ. وسيبني كل متلقٍ سيناريو ردود فعل الأم، والزوجة، وأهلها، وردود فعل أهل القرية، والصبايا اللواتي غبطن وردة على هذا الزواج، بعد معرفة نتيجة الليلة الأولى. سيتخيّل كل قارئ الطريقة التي تَسرّب فيها الخبر إلى الخارج، وموقف محمود الكبش بعد انكشاف الأمر، وصورته في عين الناس، ليشاركوا المؤلِّفَ عمليةَ الإبداع، ويقوم كل منهم بسدِّ الثغرات.
إذن كيف ستحتمل الوالدة “هول الصدمة” حين ستكتشف أنّ ابنها لم ينجح في ليلته الأولى؟ وكيف ستكون أحوالها حين تدرك أنّه لن “ينجح” في أي ليلة أخرى؟ كيف ستواجه أهلَ القرية؟ وكيف ستواجه العروسَ التي بنت أحلامها الورديّة منتظرة تحقيقها في هذه الليلة بالذات؟ كل هذه التساؤلات وما يتلوها من تخمينات، سوف تكون حديث البيت والقرية، لكنّ أحدا لن يسأل عن مُسبِّب هذا “الفشل” وهذا “العار”؟ وسيُترك الأمر لخيالاتهم تسبح في فضاء لا حدود له.
تجيب هذه الجملة عن كل ما يجول في خاطر المتلقّي أثناء عملية القراءة وبعدها. وقد لفت نظرَنا الباحثُ الروائيّ الياس خوري حين قال: “لغة القصة ليست شيئا خارجها، ليست أداة الإيصال، إنها أداة الإنتاج”. (خوري، “ملاحظات حول الكتابة القصصية”، ص55) لقد تمكّن الكاتب محمد حمد من خلال هذه الجملة، التي جاء بها من محيطها الاجتماعيّ، أن يرسم معالم مجتمع قرويّ فلسطينيّ ما زال يعاني من مفاهيم خاطئة، يلتزم بالثانويّ ويهمل الأساس والجوهر. جملة ترسم مستوى فكرياً لمجتمع يرى الرجولة والأنوثة من خلال “نجاح” ليلة الدخلة، وينفي نفيا قاطعا وجود طرف آخر معادل للزوج هو الزوجة، وينفي كونها شريكا في عملية قران مقدّس من أجل استمرار الحياة.
لم يخلق الكاتب هذه الجملة من خياله بل هي واحدة من كثير من الجمل، التي تتكرّر في العديد من المناسبات الاجتماعية. فإن كان فرديناند دي سوسير قد تحدث عن “اللغة” وعن “الكلام”، فإن هذه الجملة هي “كلام” هذه الشريحة الاجتماعية، وبعض من هويتها الفكريّة. وهي جملة ستولّد انفجاراً يُسمع دويه عند القريب والبعيد، وما على القارئ إلا أن يملأ هذا الفراغ.
لن تكون هناك أيّ جملة فصيحة بقادرة على تمثيل هذه الحالة أكثر من هذه الجملة المحكيّة، التي لم يتسنّ لنا التفكير بمركباتها الصوتية من قبل: “ها يما أخذتها”. لسنا بحاجة إلى دراسة مساهمات رومان ياكوبسون في هذا المجال، ولا في غيره، لنتمكّن من رؤية أبعاد هذه الجملة من خلال خصوصية مبناها الصوتي والوظيفي. (انظر: الاتجاهات الأساسية في علم اللغة، وأساسيات اللغة) هي جملة استفهامية قصيرة تعبّر عن تحفّز وتوتّر في تكرار لفظ الألف الممدودة صوتيا، في الملفوظات الثلاثة، مقترنةً بتكرار الهاء مرتين، في تناغم تام بين الهاء والألف. وما يحمله الحرفان، معا، من تأوّه وتحفّز وترقّب، تعكسان تساؤل الأم القلِق لسماع كلمة واحدة تجعلها تعتزّ وتفتخر وترتاح، بعد أن يزول التوتّر. هذا من ناحية، أما من ناحية أخرى فيمكننا النظر إلى الفعل “أخذتها”، لوحده، في جانبه الاجتماعيّ، لنكتشف المركّب الفكريّ لهذه الشريحة، وموقفها من المرأة ومن الأنثى بشكل عام. هذا الفعل في مفهومه المباشر التملكيّ ينفي دور المشاركة والتفاعل بين الزوجين، إنّه فعل ذو اتجاه واحد.
ترد هذه الجملة على لسان الأم، لا على لسان الأب، لتصبح شريكا فاعلا في عملية الغبن اللاحق بالزوجين الجديدين الشابّين، فلا يقتصر الأمر على ظلم الرجل للمرأة، أو الذكر للأنثى، كما هو مألوف. لقد اتّسعت الدائرة وأصبحت قضيّة مجتمع بأكمله، تشارك فيه الأنثى في ظلم الأنثى لا أقلّ مما يقوم به الذكر العربيّ.
قد يتساءل أحدهم، وبحق، هل رمى الكاتب إلى كل هذه المقاصد والغايات حين عمد إلى توظيف هذه الجملة؟ وهل كان يعي مرامي هذا التعبير؟ إنّ هذا هو دور المتلقّي، سواء قصد المبدع ذلك أم لم يقصد. ففي حال الكاتب محمد حمد، سواء نظرنا إليه كابن قرية، أو نظرنا إلى “الأنا الثانية” له، كما يسميها وين بوث، (انظر: وين بوث، ص83-84.) ففي كلتا الحالتين هناك بيئة وهناك زمان يساهمان في خلق عالم تخييليّ منتزع من الواقع أو قريب منه، ف”الأنا الثانية” ليست منفصلة كليا عن الكاتب الحقيقي، و”من الواضح أنّ الصورة التي يحصل عليها القارئ عن حضور الشخصية الثانية للمؤلف هي واحدة من أهم المؤثّرات التي يسوقها المؤلَّف. فمهما حاول أن يكون لا ذاتيا فإنّ قارئه لا بدّ أن يُشكّل صورة عن المؤلف الرسمي [أو المؤلف الثاني أو الضمني] الذي يكتب بمثل هذه الطريقة – وبالطبع فإنّ هذا المؤلف الرسمي سوف لا يكون حياديا في جميع القيم”. (انظر: ن. م.، ص84)
لم ترد هذه الجملة في هذا السياق بمعزل عما جاء في مجمل النصّ، فالقصة مرسومة منذ السطر الأول منها كي تصل إلى هذه النتيجة، فالتحمت اللغة بأهلها وناطقيها. فإن كان الأديب الياس خوري يراها لغة إنتاج فإنّ ذلك، برأينا، لا ينفي أنّها لغة إيصال، لكنّ النظر من زاوية الإيصال فقط يجعلها لغة إخباريّة، لا لغة إبداعيّة. وفي هذه الحالة فإنّ لغة الإنتاج هي لغة إبداع، والإبداع هو في اختيار جمل ومفردات، دون غيرها، تخض القارئ وتهزّه، حتى لو كان قارئا عاديّا لا يملك أدوات التحليل الأدبيّ، لمعالجة “أخذتها” في بعدها السوسيولوجي.
إنّ رؤية أدبنا من منظور سوسيولوجيا الأدب لقادر على معاينة اللغة، في أبعادها الفكريّة والاجتماعيّة والثقافيّة. وهو ما يعيدنا إلى جملتين وردتا في القصة: يقول الأخ الأكبر سنّاً، الذي حضر مع من حضر عملية “طهور” محمود الذي كان يصيح مستنجدا مستغيثا: “ولك بهمش، سمعت إمي بتقول هيك أحسن للعروس”، ولم يقل أبي. أما الجملة الثانية فقد جاءت على لسان المطهِّر يردّ على تخوُّف والد محمود الذي شاهد الجرح والدم النازف، فأجاب: “ولا تهتم، بكرة بتطيب لحالها من بوله”.
جاءت هذه النهاية لتناقض كل ما جاء في مستهلّ القصة، عن “محمود الكبش”، وقوته الجسدية. فالكبش، هو فحل الضأن، القادر على معاشرة كل إناث القطيع، كما هو في المفهوم الفلاحيّ، يفشل عند التجربة الأولى. وأما صورة محمود التي تحمل كلّ مواصفات الرجولة الفلاحيّة القرويّة، شكلا وفعلا فقد تكسّرت وتهشّمت. فكانت النهاية مناقضة لكل التوقعات، وتحوّلت دلالة كلمة “كبش” من معناها “الفحوليّ” إلى “كبش فداء” يُقدَّم ضحيّةً على مائدة المجتمع يتناوشون “فعلته” بالألسن، ويُعاقب على ذنب اقترفه غيره. وما “غيره” في هذه الحالة سوى أبيه وأمه ومجتمعه، الذي يقبع تحت كارثة الجهل.
تنسجم هذه الخاتمة انسجاما تاما، مع كل عناصر القصّة ومركبّاتها: اللغة بسردها ووصفها، والمكان بكل عناصره، والشخصيات بكل مواصفاتها، التي قد تمّ تأثيثها وتجهيزها لهذه الخاتمة بالذات. يبدو لنا جليا أنّ الكاتب محمد حمد متأثّر جدا من تجربته في النقد والبحث، إذ إنّ هذه التجربة تعني أنّ المنهجيّة تفرض ذاتها على الكتابة الصارمة في شكلها ومبناها. فما جاء في الأسطر الأولى من القصّة يرتبط ارتباطا فكريّا وبنائيّا وسيميائيّا مع خاتمة القصة، يكمل أحدهما الآخر في انكشاف صورة البطل بشكل مغاير عما جاء في المقدمة، وانتهى كل شيء على “فاشوش”.
جاءت هذه القصة لتخلخل بعض المفاهيم الاجتماعية، ومن ضمنها مفهوم الرجولة في علاقتها بالأنوثة، فلو قمنا بدراسة الملفوظات “الجنسيّة” و”الشعوريّة” المتداولة لدى شعوب عدة لتمكنّا من كشف أنماط التفكير في مفاهيم الحياة والجنس والتكاثر والإنجاب ودوافعها. علمتنا السميولوجيا ألّا ننظر إلى حدث ما، أو صورة ما، أو قصّة ما نظرة مباشرة، بل النظر باتجاه الدلالات ووظائفها وأبعادها.
ورغم نفوري من عنوان القصّة إلا أنه مرعب ومخيف ومستفز، ويصبح مقلقا ومحفّزا على فعل التغيير وإعادة النظر في مفهوم الرجولة والفحولة ليكون البديل بناء علاقة قائمة على الحب المتبادل وممارسة علاقة زوجيّة فيها طرفان متعادلان في مقابل “ها يما أخذتها”. إن عطبا صغيرا في جسد هذا الرجل القويّ البنية سبّب له عقما ومنعه من متعة البنين التي ألمح إليها الراوي في الصفحة الثانية من القصة، وحوّل حياته إلى جحيم على الصعيدين النفسيّ والاجتماعيّ، خاصة وأنه كان ضحية مثل غيره من الضحايا.
اللغة بين الإخباريّة والإبداعيّة
من أهم أسس نظرية الاستقبال أنّ النصّ لا يكشف ذاته إلا من خلال التفاعل بين المتلقّي وبنية لغة النص. (هذا القارئ هو القارئ النموذجي، حسب تعبير ألبرتو إيكو. “القارئ النموذجي”) وبما أنّ للغة دورا هاما جدا في خلق هذا التواصل وهذا التفاعل، فعلى الكاتب تقع مَهمّة توظيف لغة غنيّة قادرة على التشخيص والإثارة والتأثير. فاللغة في العمل الأدبيّ، تؤدي وظيفة جمالية، لا إخباريّة تقريريّة، كما في حقول أخرى، ولها دور تأثيريّ في القارئ، لا مجرّد دور توصيليّ. (Wellek, Warren, pp. 22-23 للمزيد من التوسع انظر: ص20-37) لن ندخل في فلسفة الكاتب الحقيقيّ والكاتب الضمنيّ ولا القارئ الحقيقيّ والقارئ الضمنيّ، رغم أهمية هذه الجوانب، لكنّا نؤمن أن الكاتب الضمنيّ متواجد بشكل فعّال داخل النص تماما كما هو القارئ الضمنيّ، وينوب عنه في الخلق والإبداع وتنظيم الخطاب. (يقول شين دان إن أول من استعمل هذا الاصطلاح، “الكاتب الضمني”، هو الكاتب البريطاني وين بوث في كتابه The Rhetoric Fiction (1961) انظر: Shen, Dan., vol.45, no. 1 Spring (2011), p. 80) فهل تمكنت اللغة من تجنيد القارئ وخلق حالة من التفاعل؟
إن دراسة اللغة الروائيّة تختلف عن دراستها في القصة القصيرة، رغم التشابه الكبير بينهما، حيث إنّ اتّساع حيّز الرواية يتيح للمؤلِّف أن يوظّف مستويات لغوية متعدّدة، كما أنّ تعدّد الشّخصيّات يفسح المجال لتعدّد الأصوات واللغات. (باختين. الخطاب الروائي، ص73-98) وبالتالي فإن الدارس يتحرك في حقل واسع يتيح له التمييز بين مستويات لغويّة متعدّدة تتفاعل مع تعدّد الشخصيّات. نشير في هذا السياق إلى ندرة الدراسات التي تناولت لغة القصة العربية القصيرة وإلى قلة الأبحاث حول القصة العربية القصيرة مقارنة بالدراسات حول الرواية العربية. من أهم الدراسات التي تناولت مشروع القصة العربية نجدها في “وقائع ندوة مكناس” وهي مجموعة من المداخلات الهامة لعدد من الدارسين وأصحاب التجارب، (انصح بقراءة مداخلة الباحثة يمنى العيد، ومداخلة الباحث الروائي الياس خوري. انظر: دراسات في القصة القصيرة، ص21-66)
يوظّف الكاتب اللغة في مستوياتها المتعددة، يستهل الكتابة بلغة شعريّة، يُتبعها بلغة معياريّة، ثم بلغة شعبيّة؛ سواء كانت عاميّة، فصيحة، أو مزيجا منهما، أو مفصّحة. ثم يبعثر هذه المستويات اللغويّة دون التزام بترتيب معين، عدا الالتزام بالموقف الأدبيّ الذي يراعي الأبعاد الاجتماعيّة والفكريّة للشخصيّات وعلاقتها بالمكان والزمان.
- اللغة الشعرية
يستهل الراوي القصّ بالتعريف مباشرة بالشخصية المركزية دون أية مقدمات بلغة شعرية: “محمود الكبش في نخوته وقوّته، شاب أمضى من السيف إذا امتشق من غمده…” ثم يُتبع هذه الفقرة، مباشرة، بفقرة ثانية عمدتها الرئيسيّة اللغة الشعريّة في بعديها الاستعاريّ والتصويريّ: “الشيء المُميَّز عدا ذلك في شخصيته، هو سمرته المائلة إلى الخمرة، بحيث كنتَ ترى فيها ملامح شفق يتداخل في لحظات المغيب مع طلائع خيول الغسق. وفوق جبينه تطارد نسيمات المساء ذؤابتين شاردتين من شعره الجعد، من دون جدوى، وكأنّهما نقوش لضفائر على رأس فرعونيّ”.
نميّز في النص أعلاه لغة القاصّ نفسه ينوب عنه بديله الراوي فجاءت، في مستواها اللفظيّ والتركيبيّ والوظيفيّ، لغةً شاعريّة مكثّفة. إنّه وصف برّانيّ لصورة البطل في المواجهة الأولى بين القارئ والنصّ، لكنّ القارئ سرعان ما يدرك البعد الوظيفيّ لهذا التوصيف البرانيّ الذي يؤدّي دورا جوّانيا واضحا. وكأنّي بالكاتب يعمد إلى الدمج، بشكل مقصود، بين التشبيهات الكلاسيكيّة المألوفة، كصورة السيف الذي يُمتشق من غمده، والصورة الرومانسيّة في “ترى فيها ملامح شفق…”، والصورة الفرعونيّة في “نقوش لضفائر على رأس فرعونيّ”. إن هذا المزج بين الصور، من عوالم متعددة، في اجتماعها معا، تثير القارئ وتحثّه على معرفة هذا المخلوق “الأسطوريّ”، ومتابعة ما سيحدث له فيما بعد. وتكون المفاجأة في خاتمة القصّة، وفي مواجهة هذه اللغة الشعريّة المكثّفة مع الجملة التي ترد على لسان الأم “ها يما محمود أخذتها”. فيحدث التصادم بين نقيضين لغويّين وموقفَين متنافرَين تلعب اللغة فيهما دورا مركزيّا، ويُبرز موقفين متنافرين لصوتين متناقضين هما صوت الراوي وصوت الأم وما يمثله كل من الصوتين.
تتكرّر هذه اللغة الشاعريّة في أكثر من موقع حين يكون السرد مباشرا على لسان الراوي المشرف الكلّيّ المعلّق، دون أن ترد على لسان شخصيات القصّة، سيّما وأنّها كلّها شخصيات شعبية قرويّة تقليديّة. ونراها حين يطلّ الراوي برأسه ليتلصّص على أفكار بعض الشخصيّات، وبالذات شخصيتي محمود ووردة. وبالرغم من أنّ هذه لغة الراوي إلا أنّه حرص على إبقائها تتحرك ضمن بيئتها: “كانت الليالي مسرحا لقوافل من الأفكار المسافرة في صحارى قلبه، تستوقفها واحات النظر إليها وهي تحمل الجرة، فتسقيه ارتواء إلى حد السراب من نيل همسة فجر على شفتيها، وكانت أحاديثه لنفسه أشبه بسهاد نجمة تنتظر القمر في ليلة محاق”. إن هذه هي لغة الرومانسية الشرقية، وهي ليست ذاتها لغة الرومانسية الغربية، فكل لغة تنهل من معين بيئتها، فهنا صحراء شرقية، وقمر فلاحيّ، وصبيّة قرويّة تحمل جرّتها.
- اللغة المعيارية
يتحوّل الكاتب من اللغة الشاعريّة إلى اللغة المعياريّة حين ينتقل إلى محيط القرية وأبنائها، فتصبح لغة سرديّة مباشرة: “ثم يصل محمود إلى الحارة حيث جامع النبي لوط، فيقف هناك لبضع دقائق، وربّما خطر في باله هذا النبيّ، وقومه الشاذّين، وكيف أنّه تركهم وأتى، على مفخرة لأهل عيلوط، إلى هذا المكان، فشرب من العين التي سُمّيت على اسمه عين لوط…”.
هذه اللغة المعياريّة لا تتوخّى التكثيف في الاستعارات، تصلح للسرد دون المبالغة في الانزياح، قادرة على التشخيص دون زركشة ولا تجعل المجاز عمدتها. (انظر: كامل، ص15) وهي تتغيّا نقل صورة للقارئ بكلمات قليلة، بهدف إضافة معلومة هنا، وأخرى هناك، تجعل صورة الشخصيّة المركزيّة أكثر وضوحا. فنعلم أنّ محمود الكبش ابن قرية عربيّة فلسطينيّة تعود زمنيا حوالي خمسة عقود إلى الخلف، لها معالمها الشكليّة وأسلوب حياتها الخاص. هذه اللغة بالذات هي ذات بعد ديناميكيّ تعمل على تحريك الأحداث والشخصيات في المكان والزمان. وقد تبيّن لنا، منذ الأسطر الأولى، أنّنا بإزاء راعٍ شابّ قويّ البنية ابن قرية عربيّة فلسطينيّة ما زال فيها “عجل شارد من القطيع”، و”صوصأ ابن يومين”، و”السدرة حيث البيادر ومركز البلد”.
نعود لنؤكد مرة أخرى أن اللغة المعيارية تُطلّ برأسها هنا وهناك لنقْل الأحداث إلى نقطة جديدة، وموقف آخر ومكان آخر. إن هذا التنويع في المستوى اللغوي يبعد النص عن الرتابة التي تجعل القارئ ينفر فيما لو بقي النص يسير على وتيرة لغوية واحدة. ولذلك يلاحظ القارئ كيف ينتقل الراوي من السرد المباشر إلى الحوار بأنواعه المختلفة: المباشر، المونولوج، والمونولوج المروي، عبر مستويات لغوية متعدّدة.
- اللغة الشعبية
هناك عدة دراسات حول مستويات اللغة في الإبداع العربي، ولم تُذكر هناك “اللغة الشعبية” إلا بارتباطها بالفن الشعبي والفولكلور والتراث واللغة المحكية. هذا الربط باهت وغير واضح. لذلك قمت باستعمال هذا التعبير، هنا، لأني أراه ملائما جدا لجزء هام من الإبداع العربي الفلسطيني في مجالي القصة والرواية. أعلم جيدا أن هذه اللغة بحاجة إلى دراسات لسانية وصوتية جدّيّة، وما استعمالي لها إلا من باب القناعة بوجود لغة شعبية، كما توجد لغة برجوازية ورأسمالية، ولغة فئات اجتماعية عدة.
وهي لغة تصوّر حدثا يدور في أجواء شعبيّة، تعكس بيئة عامة الناس، وتتناسب مع أحوالهم الشخصية، وتجربتهم الحياتية اليومية، بعيداً عن الاستعارات والكنايات الفصيحة المعهودة، وإن تواجدت المحسنات المعنوية فهي منبثقة من البيئة الشعبيّة ومتأثرة بها. هي لغة تصور الحدث عاريا كما هو في بعده الشعبيّ، وقد تتخلّلها تعابير ومفردات عامية، أو لغة عامية محضة، وقد تكون ترجمة مباشرة عن العامية (المفصّحة). وبما أن أحداث الرواية تدور في فضاء قرويّ تقليديّ، فمن الطبيعي أن تعكس اللغة هذا المحيط بكل مركباته، نسوق منها الأمثلة التالية:
- ولحقه مجموعة من شباب القرية الذين تمّ ختانهم بالتأكيد في جولات سابقة […] واقتادوه أسيرا مكبّلا بعد معركة حامية من العضّ والقرص والخرمشة، ومحاولات الإفلات، والشتائم والمسبات (اللي من قاع الدست، واللي من الزنار وتحت)”.
- “قلتلِّك مية مرة هاي الحفّاي بتمزلط، بدكيش تشتري لي حفاي؟ تفضّلي هيّاني اتزحلقت وانكسرت الجرة، وألله ستر ما حداش شاف، وِاللا كان بنات الحارة عملوني جريدة”.
- في الحقيقة لم يكن محمود الكبش يريد من كل طلعاته ونزلاته التي يقوم بها يوميا أكثر من أن ينظر إلى وردة وهي تعطيه ظهرها…”.
إنّ دراسة اللغة قد تعدّت، منذ زمن بعيد قضيّة المحكيّة والفصحى وبات التركيز ينصبّ أكثر حول دلالة اللغة في أبعادها الاجتماعيّة والثقافيّة وارتباطها بالشخصيّات وبيئتها، ودورها الوظيفيّ في المبنى العام للنصّ. وقد كان للمُنظِّر الروسي ميخائيل باختين الدور الأكبر في دراسة مستويات اللغة داخل الرواية. (لحمداني، ص73) واللغة أهم ما تنهض عليها الرواية، فالشخصيّة تستعمل اللغة، أو توصف بها، أو تصف هي بها، ولا وجود للعناصر الروائيّة بدونها. (مرتاض، ص125) ويرى إدوارد سابير “أن الكلام فعالية إنسانية تختلف بلا حدود من طائفة اجتماعية إلى طائفة اجتماعية أخرى، لأنه الموروث التاريخي للطائفة ونتاج الاستعمال الاجتماعي الطويل المدى”. (سابير، ص8)
فلو نظرنا إلى مجمل الأمثلة أعلاه نظرة سوسيولغوية لوجدنا مدى التصاقها بالشخصيات وفضائها الزمكاني. ففي المثال الأول هناك مزيج من اللغة المعياريّة والعامية. يمثّل هذا المزيج، في بُعده القرويّ العام، صوتَ الناس لا صوت الراوي. وفي المثال الثاني حيث اللغة المحكيّة فهو كشف واضح لصوت وردة بما فيه من تحايل على الوالدة، يحمل نبرة “دلع” بنت وحيدة لوالديها تتظاهر بالبراءة، ويشير إلى انتشار النميمة بين أبناء القرية (واللا كان عملوني جريدة). وأما اللغة في المثال الثالث فتبدو للمتلقي في المواجهة الأولى لغة معيارية توصيلية، لكننا لو أعدنا النظر لوجدناها تكاد تكون ترجمة عن اللغة المحكية، وبالذات في “طلعاته” و”نزلاته”، و”تعطيه ظهرها”، وإمكانية قراءتها فصيحة وعامية. لكنّ القارئ المتأنّي يلاحظ اقترابها من العامية أكثر من قربها من الفصيحة خاصة وأن كلمتي “طلعاته” ونزلاته” تكررتا عدة مرات في سياق السرد الشعبي.
يستطيع القارئ أن يميز في القصة بين لغتين رئيسيتين تمثّلان صوتين مختلفين هما: صوت الراوي ودوره الإرشادي، وصوت بقية أبناء القرية، الذين بدوا في القصة شريحة واحدة غير منفصلة، تحمل نفس الفكر ونفس الرؤية. أما ما أسميناها باللغة الشعبية فما هي إلا تأكيد على هويّة أبناء القرية في اجتماعهم حول نفس الآراء. أما صوت محمود فبقي مكبوتا لم تصل صرخته أبعد من حنجرته.
أنا والنص والمؤلف
أولت نظريّات التلقّي الأهميّة الرئيسيّة للقارئ في تأويل النصّ، كما أسلفنا أعلاه، وكُتبت الكثير من الدراسات حول التلقّي، والاستقبال والاستجابة. نترك الحديث المسهب عنها والتعرف عليها للقراء، بالعودة إلى كتابات ياوس وإيزر ومدرسة كونستانس وأمبرتو إيكو وآخرين. يقف القارئ في مركز هذه الرؤية من خلال دوره في التواصل مع النص وما يحدث من تفاعل وتأثير وتأثّر متبادل. وميّز المنظرون بين القارئ الحقيقي والضمني والقارئ النموذجي أو السوبر الذي يمتاز عن غيره بتجاربه وسعة معلوماته.
يعتبر إيزر من أهم دارسي آلية إنتاج معنى العمل الأدبي، وهو بدوره يوجه نقدا لاذعا للنظريات التقليدية التي لم تول القارئ الدور الأهم في عملية التأويل، فالنص، وفق رؤيته، موجه إليه فهو “مخاطَب النص… وأنّ النص ليس في وسعه أن يمتلك المعنى إلا إذا قرئ”. (إيزر، ص11) إذاً، حسب رأيه، “هناك شيء واحد واضح هو أنّ القراءة هي شرط مسبق ضروري لجميع عمليات التأويل الأدبي… وأنّ من المفيد أن نفكّر في ماذا يحدث عندما نفعل ذلك”. (ن. م) ويضيف “إنّ الشيء الأساسي في قراءة كل عمل أدبي هو التفاعل بين بنيته ومتلقيه…وأنّ دراسة العمل الأدبي يجب أن تهتم، ليس فقط بالنص الفعليّ بل كذلك وبنفس الدرجة بالأفعال المرتبطة بالتجاوب مع ذلك النص”. (ن. م.، ص12) للعمل الأدبي، برأيه، قطبان: “القطب الفنيّ والقطب الجماليّ، الأول هو نصّ المؤلِّف، والثاني هو التحقّق الذي ينجزه القارئ… يجب حتما أن يكون العمل الأدبي فاعلا في طبيعته ما دام لا يمكن اختزاله لا إلى واقع النصّ ولا إلى ذاتية القارئ. وهو يستمد حيويته من هذه الفعالية”. (ن. م)
يرى أرباب هذه النظريات أنّ النصّ لا يفصح عن ذاته من القراءة الأولى، إذ يقوم المتلقّي بقراءة النصّ قراءة أولى، دون تحليل أو تأويل، فتحدث عملية التعارف، كما يحدث ذلك بين غريبين يلتقيان لأول مرة. يعتبر هذا اللقاء، في نظرهم، لقاء إيجابيا أوّليا يسفر عن تفاعل بين القارئ والنص. تتبع ذلك عدة قراءات، تكشف كل قراءة طبقة معينة من النصّ. لكن ليس كل قارئ بقادر على القيام بهذه العملية، فالنص بحاجة إلى قارئ حاذق، أسموه السوبر أو النموذجي. كيف يتم اللقاء بين القارئ والنص؟ فهل سيكون اللقاء مجرد لقاء عابر؟ أم سيكون لقاء غنيا يحمل المفاجآت؟ وهل القراءات المتكررة تكشف النص وتضيء خفاياه؟ سأحاول الإجابة على هذه الأسئلة بناء على تجربتي الخاصة مع هذه القصة.
وجدت نفسي، بعد القراءة الأولى، أمام قصة حزينة ومؤلمة لشاب قرويّ يعمل راعيا تحطّمت أحلامه، كما تحطّمت معه أحلام الصبيّة التي بادلته الحبّ، وذلك نتيجة خطأ ارتكبه المطهّر، حين كان طفلا، ونتيجة جهل والديه ومجتمعه. كانت النهاية مفاجئة جدا، خاصة وأنّ الراوي قد مدّ القارئ بمعلومات تبرز القوة الجسديّة مقرونةً بشبق سوف يتحقّق مفعوله، بالذات، في الليلة الأولى. فتولّد غضب وحزن وأسى، وكأنّ القصّة قد حدثت فعلا في القرية في يوم ما قبل فترة زمنية بعيدة.
أما في القراءة الثانية فقد تكشّف الجانب الخياليّ في القصة، من خلال تحديد معالم المكان، وصورته الخارجية، بكامل تفاصيله، وكأنّ الكاتب يستحضر بعضا من وضعية آدم وحواء في الجنّة، بعد أن اكتشفا عورتيهما. وتبيّن أنّ هناك جوانب جنسيّة يحاول الكاتب أن يتعامل معها بحذر شديد من خلال وصف صورة البطلين، وبالذات في التركيز على إبراز ملامح الصبيّة المغرية، في تحركات جسدها من الخلف، والدخول في بعض المشاعر الداخليّة التي تشي بانجذاب الواحد منهما تجاه الآخر. وثارت لدي بعض التساؤلات حول العلاقة بين المكان وبين تحرّكات الشخصيّة المركزيّة، وحول الصور الحميمة بين العاشقين في انجذابهما الجسديّ، دون إحساس بالجانب الروحيّ.
أما في القراءات التالية فقد اتّسعت رقعة القصّة، وتجلّت معالم الشخصيّة بشكل أوضح، وتكشّفت العلاقات بين مركبّات القصّة، وكثرت التساؤلات التي تفرض على القارئ أن يجد لها إجابات شافية. وهي تساؤلات عديدة تخصّ أسباب كتابة القصّة، ودوافع هذا المبنى، وعلاقة المبنى بالشخصيات، وبالمكان والزمان. وتبيّن أنّ إبراز الملامح الجسدية لكلا البطلين جاء خدمة لما سيتلو من أحداث: تهشُّم المشهد الذكوري الفحوليّ كليا عند لقاء الجسدين الأول، وتحطُّم صورة الرّجولة في مفهومها التقليديّ. نتيجة ذلك يزداد التماهي مع محمود الكبش، خاصّة وأنّ الكبش قد تحوّل إلى مجرّد خروف ضعيف، ووردة تحوّلت من وردة متفتّحة إلى وردة ذابلة لم تقطف في تلك الليلة، كما تقطف الوردة الناضجة. وانجلت بعض أبعاد القصة، وتصارعت في الذهن أفكار عدّة حول النهاية وعلاقتها بالبداية، وحول الجنس في مفهومه العربيّ القرويّ التقليديّ. ووجدت نفسي أبحث عمّا هو أبعد من الحدث نفسه، وعما هو أبعد من قصة حب تجمع بين شابين، وسارت الأفكار باتجاه معتقدات مجتمع كامل آيل للضياع نتيجة تمسّكه بالقديم دون الجديد.
أما اللغة فلم تنجل مستوياتها المتعدّدة إلا أثناء عملية التحليل والتأويل، وكأنّ القصّة عبارة عن شكل كرويّ ملفوف بأغلفة عديدة، وكل غلاف تتمّ إزالته يكشف سطحا جديدا للغة، ودورا دلاليا لا يمكن إدراكه في القراءات السابقة. رافقني شعور بالتعب ممزوجا بلذة الاكتشاف وأنا أغور في النص، فتتكشّف دلالاته وأبعاد اللغة في مستوياتها المتعددة، وسرّ بعض الألفاظ وربطها مع محيطها وبيئتها. ووجدت نفسي أبحث عن الفرق المعنويّ بينها وبين ملفوظات أخرى في لغات أخرى، لا أعتقد أن الكاتب قد قصدها أو لمّح إليها مجرد تلميح، وبالذات في الفرق بين مفهوم العلاقة الزوجيّة بين شعوب مختلفة وحضارات متعددة، وكانت جملة “ها يما محمود أخذتها” تلحّ أكثر للقيام بمقارنتها مع مفهوم العلاقة الجنسيّة مع الغرب.
ما نؤكّد عليه هو أهمية/دور القراءة الأولى التي تشعل الفتيل الأول في عملية التواصل بين القارئ والنصّ، وهي عملية تفاعل ذات أهمية كبرى، بالذات في المواجهة بين القارئ والنص، هذه المواجهة هي الدافع الأول نحو مواصلة القراءة، أو التوقّف عنها. وبما أننا إزاء قصة قصيرة، لا رواية فإنّ مستهَلّ القصة يجب أن يكون مكثّفا وغنيّا ومشوّقا ومغريا.
أما القراءات الأخرى فتساعد في استجلاء ما لم يُستجل في القراءة الأولى، خاصة وأنّ القارئ سيكتشف أهمية المونولوج المرويّ الذي يتيح للقارئ أن يدخل في عمق الشخصيّة ووعيها، وكشفها أمام المتلقي، ولنا على ذلك عدة أمثلة منها: “كان من عادته أن يخرج في طرقات القرية، وفي مقطع محدّد، حسب تخطيط مسبق كان يدور في رأسه… وكان محمود يتخيّل أحوال الشّبق التي كانت تصيبهنّ عند النوم، وإنْ من باب الوهم، وهن يستدرجنَ أزواجهنّ لمواقعة تأتي بالمعجزات”.
هذا الاقتباس أعلاه قد ورد في الصفحة الثانية من القصة يتيح المجال لامتزاج صوتين؛ هما صوت الراوي، “الأنا الثانية”، وصوت البطل، ما يتيح للقارئ أن يدخل في عمق أفكار البطل، وربط ما كان من أحلام مع ما صار من “أوهام”، وربط الأمل بالألم. ما كان ذلك ليتحقّق إلا من خلال تعّدد القراءات، ومتابعة القارئ في التوغّل في ثنايا النصّ وتعرّجاته وأسراره، وهو يحاور أسراره وتقنيّاته التي تساهم في كشف نفسية البطل وما يعتريه من الداخل مثل الاسترجاع والمونولوج والذكريات، ولولا ذلك لما تحقّقت “لذّة النص”. (بارت، لذة النص)
يقيني أني لو تابعت القراءة والبحث والتنقيب كنت سأتوصّل إلى دلالات أخرى، لأن النصّ متحرّك وغير ثابت، وليس هذا الأمر مقصورا على هذه القصة، بل هو ميزة كل نصّ غنيّ غير منغلق على ذاته. وأراني أؤكّد مرة أخرى أنّ ثقافة الكاتب جد مهمة، شريطة أن يترك لها العنان لتنطلق وتتحرك بعفوية، وهي فعلا كذلك، وإلا كيف نفسّر التناص مع حكاية آدم وحواء وكرم التين؟ فالتناص لا يعني الاقتباس أو المحاكاة “بل إن التناص يتكون من خلال المخالفة أو المعارضة أو التنافس مع نصوص أخرى، وهذا يعني أن التناصّ يتجسّد من خلال صراع النصّ مع نصوص أخرى”. (الماضي، ص185) فهل قصد الكاتب أن ينافس كتابا آخرين تناولوا مثل هذا الموضوع؟ أم أراد أن يأتينا بأسلوب جديد مغاير؟ وهل أراد أن يقول إن نصّي أكثر حداثة؟
إنّ أيّ مبدع لا يضع ذاته في موقع التحدّي ليس بقادر على أن يبدع، وليس بقادر على أن يأتي بما هو جديد. لقد شغل الفضاء القرويّ معظم الروائيين والقاصّين الفلسطينييّن، وهو حقل واسع يتّسع لكثير من الغرس. إنّ المقارنة بين المبدعين لهو أحد الجوانب الهامّة، وهناك العديد من الدراسات التي تناولت هذا الجانب. أما هذه الدراسة فلم تطمح إلى إصدار أحكام نهائيّة لأن هذا الأمر ليس من غاياتها. لكن ما أردنا التأكيد عليه أنّ كلّ كاتب يمكنه أن يدخل عوالم مطروقة شريطة أن يخلق نصّا جديدا قادرا على تثوير نصوص لم تكتب بعد. فكلّ نصّ ناجح هو إبداع مختلف، وكل قارئ هو مخلوق آخر ورؤية أخرى، وكل قراءة هي اكتشاف جديد.
خلاصة
يعالج الكاتب في هذه القصة موضوعا اجتماعيّا، من خلال العودة إلى القرية العربيّة الفلسطينيّة التقليديّة المعروفة لنا، على صعيد الواقع، وعلى صعيد العالم الأدبيّ، وفق الصورة التي رسمها الأدباء الفلسطينيون لقراهم منتصف القرن العشرين وما قبله، أو بعده بقليل. ومع ذلك فقد تمكّنت هذه القصّة من تثوير القارئ من خلال طرح موضوع حارق مؤلم، يعرض لحياة شابين كان ينتظرهما مستقبل واعد تهشّمت أحلامهما نتيجة خطأ ارتكبه الوالدان، في اعتمادهما على وسائل علاجيّة بدائيّة.
نجحت القصّة في التحرّك من الخاص إلى العام لتعبّر عن قضية كبيرة، وتَحوَّل الحدث من بؤرته الصغيرة الضيّقة إلى فكرة ذات أبعاد تتعدّى الحدث العينيّ، وأصبحت فعلا دالّا على كل خطأ قاتل مؤلم قد يحدث في كل مكان وزمان، إذا استمرّ المجتمع في السير في طريق الجهل. لم تعالج القصة قضية “الطهور”، كما يظهر للمتلقّي في المواجهة الأولى، بل تعدّت ذلك إلى محاربة الجهل. فما حدث من فشل، قبل عقود، قد يتكرّر الآن في القرى والمدن العربية الفلسطينية.
اعتمد الكاتب في هذه القصة الأسلوب التقليديّ في بنائها، وفي موضوعها. يبدأها كعادة الكتاب الكلاسيكيين بالتعريف بالشخصيّة المركزيّة ومواصفاتها، وبتحديد معالم المكان، وعرض الأحداث من خلال راوٍ مشرف كليّ معلق. قام الراوي بعرض مسهب للشخصيّتين المركزيّتين، من ملامح خارجيّة، ثم مهّد البيئة لتتلاءم معهما ومع ما يمور في الداخل، عبر توظيف المونولوج والفلاش باك والذكريات والحوار على أنواعه. رسم بيئة قرويّة فلاحيّة فيها كروم تين جاهزة لستر الحبيبين حين يلتقيان، كما التقى آدم وحواء في الجنّة. وحين تصل الأحداث إلى نقطة الذروة، التي ينتظرها العاشقان والقراء، تتحطّم الأحلام وتتكشّف عورات مجتمع كامل ما زال يتعالج ويتداوى بوسائل بدائيّة.
يتوقع القارئ من كاتب نشر أبحاثا حول الحداثة في الأدب، أن يعالج قضايا تهمّ جيل اليوم، وإذا به يطرح موضوعا تقليديّا، وبأسلوب فيه الكثير من التقليديّة المعهودة في المبنى. ومع ذلك فقد تمكن من تحريك المشاعر من خلال قصة مؤلمة أقرب إلى الواقع منها إلى الخيال. مما يدل على أمرين: أولا، أن المجتمع ما زال يعاني من نتائج الجهل والتخلّف والتداوي بوسائل بدائيّة، وثانيا، أنّ طريقة الطرح الكلاسيكيّ لم تخلق نصّا كلاسيكيّا جافّا، بل خلقت نصّا غنيّا مؤثّثا في المكان والزمان، بحيث انسجما انسجاما تامّا مع الشخصيّات واللغة التشخيصيّة، في أبعادها، وفي مستوياتها الشعبيّة والشعريّة والمعياريّة. مما جعلها قريبة من أذواق شرائح اجتماعيّة واسعة.
قصة “مقصات وسكاكين من الذاكرة” هي قصة فلسطينية، لا بسبب موضوعها المباشر(الطهور)، فذلك ليس مقصورا على فئة دون غيرها، بل بسبب شخصيّاتها وبيئتها وفضاء القرية الفلاحيّ الفلسطينيّ، وبفضل اللغة التي وظفت في مستوياتها المتعددة. وبالتالي يمكن أن يقرأها العربي المصري والجزائري والسوري، فيرى كل منهم أنها تشبه حكاية وقَع مثيلٌ لها في محيطهم. مع أنها تبقى في عيونهم فلسطينيّة، وهذا هو مصدر قوتها ونجاحها. ولذلك كنت أتمنى على الكاتب لو لم يختر هذا العنوان؛ “مقصّات وسكاكين من الذاكرة” لأنه يحصرها ويسجنها في الجانب النفسيّ للبطل مرهونا بالماضي. لكن ما يشفع للكاتب هو الانطباع النهائي الذي يرافق القارئ بعد الانتهاء من القراءة/ القراءات.
حاولتْ هذه الدراسة أن تثبت أنّ العمل الأدبيّ ليس انعكاسا لواقع اجتماعيّ فحسب، بل إنّ القارئ قادر على أن يكتشف واقعا آخر، من خلال قراءة النصّ قراءة عميقة متأنيّة، وأنّ كلّ قراءة قادرة على كشفٍ جديدٍ، إذا كان النص غنيّا غير منغلق على ذاته. فالغوص في النصّ يخلق عالما أوسع من ذلك الذي يراه القارئ في قراءته الأولى، وبالتالي تتحول من قراءة استهلاكية إلى قراءة إبداعية.
المراجع
إيزر، وولفجانج. فعل القراءة. ترجمة حميد لحمداني، والجيلاني لكدية. فاس: منشورات مكتبة الناهل، 1994.
إيكو، أمبرتو. “القارئ النموذجي”. من كتاب نظرية الأدب: القراءة، الفهم، التأويل- نصوص مترجمة. ترجمة أحمد بو حسن. الرباط: دار الأمان، 2004. ص29-49.
باختين، ميخائيل. الخطاب الروائي. ترجمة محمد برادة. القاهرة، باريس: دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، 1987.
بارت، رولان. لذة النص. ترجمة منذر عياشي. حلب: مركز الإنماء الحضاري، 1992.
بارت، رولان. نقد وحقيقة. ترجمة منذر عياشي. بيروت، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1994.
باشلار، غاستون. جماليات المكان. ترجمة غالب هلسا. ط2، بيروت: المؤسسة الجامعة للدراسات، 1984.
بحراوي، حسن. “مقدمة” من كتاب الفضاء الروائي. تأليف مجموعة من الباحثين. ترجمة عبد الرحيم حزل. الدار البيضاء، بيروت: افريقيا الشرق، 2002.
بحراوي، حسن. بنية الشكل الروائي. بيروت، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1990.
بوث، وين. بلاغة الفن القصصي. ترجمة أحمد خليل عردات، وعليّ بن أحمد الغامدي. الرياض: جامعة الملك سعودي، 1994.
جاكوبسون، رومان، وهالة، موريس. أساسيات اللغة. ترجمة سعيد الغانمي. كلمة والمركز الثقافي العربي: بيروت، الدار البيضاء، 2008.
جاكوبسون، رومان. كتاب الاتجاهات الأساسية في علم اللغة. ترجمة علي حاكم صالح، وحسن ناظم. بيروت، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2002.
جولدنستين، ج، ب. “الفضاء الروائي”، في كتاب الفضاء الروائي. تأليف مجموعة من الباحثين. ترجمة عبد الرحيم حزل. الدار البيضاء، بيروت: افريقيا الشرق، 2002.
حجازي، مصطفى. التخلف الاجتماعي– مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور. ط9. الدار البيضاء، بيروت: المركز الثقافي العربي، 2005.
حمد، محمد. شعريّة البداية في النصّ القصصيّ، “يوسف إدريس نموذجا”. باقة الغربية: مجمع القاسمي، 2018.
حمد، محمد. غيبة الغنمة. حيفا: مؤسسة الأفق للثقافة والفنون، 2018.
خوري، الياس. “ملاحظات حول الكتابة القصصية، اللغة- الراوي- الكاتب”. من كتاب دراسات في القصة العربية: وقائع ندوة مكناس. بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1986.
زيتوني، لطيف. معجم مصطلحات نقد الرواية. بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، 2002.
سابير، إدوارد. “مدخل للتعريف باللغة”. من كتاب اللغة والخطاب الأدبي. ترجمة سعيد الغانمي. بيروت، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1993.
سروجي، كلارا. نظرية الاستقبال في الرواية العربية الحديثة. باقة الغربية: مجمع القاسمي للغة العربية، 2011.
صالح، بشرى موسى. نظرية التلقي – أصول وتطبيقات. بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، 1999.
العيد، يمنى، “القصة القصيرة والأسئلة الأولى/اللغة/ الأدب/ الأيديولوجيا”. من كتاب دراسات في القصة العربية: وقائع ندوة مكناس. بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1986.
فضل، صلاح. في النقد الأدبي. دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 2007.
كامل، رياض. “مستويات اللغة الروائية في رواية عين خفشة لرجاء بكرية. من كتاب المسايرة والمغايرة – دراسات محكّمة في أدب المرأة الفلسطينية. تحرير وإعداد، محمد حمد، وياسين كتانة. باقة الغربية: مجمع القاسمي، 2019.
لحمداني، حميد. بنية النص السردي. بيروت: المركز الثقافي العربي،1991.
الماضي، شكري عزيز، مقاييس الأدب. دبي: دار العالم العربي، 2011.
مرتاض، عبد الملك. في نظرية الرواية، بحث في تقنيات السرد. الكويت: سلسلة عالم المعرفة، 1988.
هولب، روبرت. نظرية التلقي. ترجمة عز الدين إسماعيل. القاهرة: المكتبة الأكاديمية، 2000.
ياكوبسون، رومان، هالة موريس. أساسيات اللغة. ترجمة سعيد الغانمي. الدار البيضاء، بيروت: المركز الثقافي العربي، 2008.
ياكوبسون، رومان. الاتجاهات الأساسية في علم اللغة. ترجمة علي حاكم صالح، وحسن ناظم. الدار البيضاء، بيروت: المركز الثقافي العربي، 2002.
Barthes, Roland. 1977. “The Death of the Author”. In Image- Music-Text, Stephen Heath (ed.), New York: Hilland Wang. Pp. 142-148.
Shen, Dan. “What is Implied Author”. Style, vol.45, no. 1 Spring (2011), pp. 80-98.
Wellek Rene, Warren, Austin. Theory of Literature, Harmondsworth: Penguin Books Ltd, 1966.