دراسات من الأسر – حسن عبّادي/ حيفا

ضمن مشروعي التواصليّ مع أسرى يكتبون، التقيت أمجد محمد فوزي عواد  صباح الاثنين  10 أيار 2021 في سجن ريمون الصحراوي، شابًا يافعًا، أزاح كمّامته ليعانق عمار الزبن(أسعدني أنني تسبّبت بلقائهما للمرّة الأولى منذ عام 2011 رغم تواجدهما في السجن ذاته)، أمسك السمّاعة مرحّبًا: “أهلين، مين حضرتك؟” وحين أخبرته انفرجت أساريره. التقيته للمرّة الأولى وانطلق يحدّثني عن “أمميّة لم تغادر التل” وانطباعاته وعن زملاء الغرفة، الأصدقاء أحمد سعدات وثائر حنيني.

حدّثني عن الحياة خلف القضبان، قراءة ورياضة وتثقيفًا… ومحاولات كتابة؛ طقوس الكتابة و”الطاولة” التي بناها من كراتين الخضرة وكيس فوقها، وكلّ كتابة معرّضة للمصادرة في كلّ لحظة فيتوجّب تسريبها بأسرع ما يمكن، فتشكّل مخرجًا، والتواصل الدائم مع الورق، قراءةً وكتابة، يحييه.

تناولنا المسكوت عنه في السجن، “الكابو” هناك وجبروت “الدوبير” الذي يشكّل الآمر الناهي في كلّ صغيرة وكبيرة، محاولات صهر الوعي وفقدان الثقة بكلّ شيء، غزو العام للخاص،  ينتظر بفارغ الصبر مولوده الأوّل “دراسات من الأسر”.

حدّثته عن صديقي الدكتور عادل الأسطة المهتم بأدب السجون والذي أخبرني عن محاولات أمجد الكتابيّة، وتناولنا أهميّة الكتابة والنشر والصعوبات التي تواجه الأسير الذي يحلم بإصدار كتاب له.

وجدته يحلم بحريّة قادمة لا محالة ولسان حاله يقول: “عيّشني الأمل بصفقة حريّة!”.

قرأ على مسامعي نصًا له يحفظه غيبًا بعنوان “صرعة في عالم الأثاث”، يصف فيه الزنزانة وأثاثها: أربعة جدران سميكة، بابٌ فولاذيٌ عجوز، شيءٌ يشبه نافذة، فتحةٌ دائرية صغيرة في الأرض تُعرف بأنّها دورة مياه فيتخيّلها جَنةً من الاكتظاظ يؤثّثها كيفما يشاء: بحر، سنابل قمح، مُخيم وعصفوران وقُبّرة، وفي السقف يثبّت شمسًا ينسل منها خيطًا يطرّز بهما حفنة أكواخٍ ورصيفًا وزقاقًا، مسجدًا وكنيسةً وعجوزًا وحفيدتها وعددًا من أضرحة شهداء، يستجلب قمرًا ويزرع شجرة زيتون.. يبني سورًا تعلوه شرفة، ينبتُ عشبًا تأكل منه سبعة خِراف”.

في طريق عودتي إلى حيفا سمعت ما يجري في القدس من أحداث، وجاءني “لديّ حلم“؛  خطاب مارتن لوثر كينغ  الذي ألقاه عند  نصب لنكولن التذكاري في 28 آب 1963 أثناء مسيرة واشنطن للحريّة.

وها هو الحلم يتحقّق ونحتفي بإطلاق واشهار كتابه “دراسات من الأسر” في بلده وبين أهله.

شدّني الإهداء الذي زيّن الكتاب: “إلى من أدركوا أنّه عندما تنفذ حبات الرصاص تكون الشهادة أقصر الطرق إلى الوطن الجريح، إلى من طالتهم أيدي الشاباك ولم تردعهم… جبريل، فادي، يامن، وأبو وطن”.

ليس من المفهوم ضمنًا أن يهدي باكورة إصداراته لشهداء سار على دربهم؛ إلى جبريل عواد، إلى فادي حنيني، إلى يامن فرج(أبو نسرين) وإلى أمجد مليطات(أبو وطن)؛

 

 

عزيزي أمجد؛ عرفت جبريل وفادي ويامن وأمجد من صديقنا كميل أبو حنيش وأحاديثه وكتاباته عنهم،

 

ومن صديقنا منذر مفلح، الشيبون، وكتابه “الخرزة”؛

 

ومن صديقنا ثائر حنيني، وكتابه “تحيا حين تفنى”؛

 

ومن صديقنا نادر صدقة وأحاديثه،

 

ومذّاك تسامرنا وشربنا القهوة مرارًا وتكرارًا معًا.

 

وكلّي ثقة بأنهّم جميعًا فخورون بك وبإصدارك.

يصادف هذا الأسبوع ذكرى استشهاد جبريل وفادي (استشهدا يوم 18.12.2003) وأدعو الحضور للوقوف دقيقة حداد على أرواح جبريل وفادي وكافّة شهداء فلسطين؛

 

من على تلك الطاولة التي صنعها أمجد من “كراتين الخضرة وكيس فوقها”، ورغم شحّ المصادر، وعتمة الزنازين، وغياب العم غوغل الذي صار ملازمًا لكلّ دارس وباحث، وحتى حفيدي ماهر ابن الثامنة بات يستغني عن الاستعانة  بنا ويلجأ للغوغلة إذا استعصى عليه أمر ما، نجح أمجد بأن ينجز رسالة الماجستير ويكتب تلك الدراسات التي شكّلت مادة الكتاب؛ تناولت “الإسرائيلي” والفلسطيني والإسلام والمرأة، والسجّان يقف له بالمرصاد معرقلًا مسيرته البحثيّة مهدّدا كلّ مخطوطة بالمصادرة (وعلى فكرة؛ هذا ما يُقلق كلّ أسير يكتب، فينسخ ما يكتبه عدّة نسخ يخبّئها في غرف وأقسام متفرّقة).

 

اقتحم أمجد في كتابه تابوهات وبقرات مقدّسة؛

 

بحبشَ وبحث وكتب دراسة علميّة جريئة وغير مسبوقة حول الاغتيالات: الشاباك والموساد  ودورهما في اغتيال قيادات ونشطاء المقاومة ونظريّة الاحباط المركّز… سؤال النجاح والفشل ويصل إلى نتيجة مفادها أنّ الردع المُراد من نظرية الإحباط المركّز لم يتحقّق حتى لو انخفضت وتيرة الأعمال المقاومة الصادرة عن الفصائل الفلسطينية في مرحلة معيّنة.

 

تناول أمجد بجرأة يُحسد عليها سؤال المحرقة ليصل إلى نتيجة أن الصهيونية تدفع بالغرب، بحِرفيّة مُمَأسسة، لتبنّي المحرقة ونجحت في ذلك، جعلتها رمزًا لكلّ من عانى من الوحش النازي ونجحت في احتكار الضحية في اليهود وتأميم المحرقة دوليًا.  نعم؛  المحرقة هي حدث بشع بامتياز، لكنّه مرَّ بعمليّة تفصيل على المقاس اليهودي الذي خدمَ الفكر الصهيوني باستجداء تأييد العالم لإسرائيل، واستخلصت دراسته أنّ الحركة الصهيونية احسنت استغلال  مل عُرِف بعقدة الضمير الأوروبي باستجلاب التأييد المالي والسياسي لكيانهم، والاستخلاص الأهم يكمن في نجاح الحركة الصهيونية في جعل المحرقة تابو مقدّسًا يُقام له يوم إحيائي دولي في العالم.

 

 

 

 

 

وجدت أمجد صادقًا نقيًا في اقتباساته بشكل علميّ مُمنهج، فجاءت الهوامش، وإن كانت مملّة ومثقلة وغير مريحة أحيانًا حين أرفقها بالنص في أسفل الصفحة تهميشًا وتذييلًا، ولكنها زادت بحثه وإصداره أمانةً ومصداقيّةً.

 

ملاحظة لا بدّ منها؛

 

أتابع في السنوات الأخيرة غالبيّة ما يكتبه أسرانا وما يُنشَر،

 

أعي تمامًا أنّ أسرانا لا يجلسون خلف طاولات مكتبيّة وحاسوب وغرف مكيّفة،

 

أعي صعوبة الكتابة عبر القضبان،

 

أعي صعوبة إخراج ما يكتبون عبر أسوار السجن،

 

والأصعب من هذا وذاك أن يجد ناشرًا يتبنّى الإصدار،

 

والأنكى من ذلك حسرته بسبب عدم تمكّنه من مراجعة المسودّة والمخطوطة  قبل النشر،

 

ورغم ذلك آلمتني الأخطاء المطبعيّة في الكتاب وعدم تدقيق الأسماء (العربيّة والأجنبيّة) والمصطلحات التي وردت في الكتاب، وعلى سبيل المثال لا الحصر:

 

درور وليس دارور، يمار وليس يماز، فادي نحاس وليس النحاس، يوفال ديسكين وليس ديكن، الهاغاناه وليس الهافاناه، شعار الموساد “באין תחבולות יפול עם! ותשועה ברוב יועץ) (وليس كما جاء في الكتاب، (ص. 27) وهو كان بغنى عن الكتابة بالعبريّة)، حسين عبيات وليس حسن، وائل زعيتر وليس عادل، تسادوق أوفير جُرح ولم يُقتل في بروكسل، سلمان ناطور وليس ناطق، أوشفيتس وليس أوجرتس أو أوشغيت أو اويغيبتس أو أوجبييكس أو أوشكيت، ياد فاشيم وليس ياياد، لوحمي هغيتاؤوت وليس حجيت اوت، هنيدة غنايم وليس هنية، رائف زريق وليس رائد، 2.75 مليار دولار ثمن الصفقة وليس الطائرة الواحدة(ص.92) وغيرها.

 

ومن على هذه المنصّة أناشد أهل القلم والناشرين الاهتمام بكتابات أحرارنا، مراجعةً وتنقيحًا وتحريرًا ونشرًا!

 

ولا بد من كلمة لوم وعتاب  للعزيز أمجد؛ لم يرُق لي استعمالك لمصطلح “يوم الاستقلال” بدل يوم النكبة (ص. 95) واستعمالك لمصطلح “الدولة” بدل الكيان!

 

 

باتت الكتابة عند أسرانا متنفّسًا يخترق جدران الزنازين، تجعلهم يحلمون ويتنفّسون حريّة، تعبر قضبان السجن وزنازينه، تشقّ طريقها عبر نفق من الحريّة لتحلّق في سماء الحريّة المنشودة.

 

مبارك لك وشكرًا لك أمجد على هذا المولود،

 

جئتك من أعالي الكرمل، لأبارك(باسمي وباسم زوجتي سميرة) لنا ولك هذا المولود، وبين أهلك وفي بلدك الذي يشكّل شوكة في حلق المحتلّ؛

 

حاملًا تحيّات وتبريكات الأصدقاء الأسرى بمناسبة إصدار الكتاب،

 

وكذلك تحيّات حرائر الدامون اللواتي التقيتهن يوم الأربعاء الفائت،

 

وكذلك تحيّات الزملاء في التحالف الأوروبي لمناصرة أسرى فلسطين،

 

والزملاء في مبادرة “أسرى يكتبون” مع رابطة الكتّاب الأردنيّين وستكون لنا ندوة قريبة مع الكتاب في عمان.

وأخيرًا؛

الاهتمام بأسرانا أقلّ الواجب تجاه تضحياتهم،

نعم؛ الحريّة خير علاج للأسير.

 

الحريّة للعزيز أمجد ولكلّ أسرى الحريّة.

 

 

***مداخلتي في حفل إطلاق وإشهار كتاب “دراسات من الأسر” في عورتا  يوم

السبت25.12.2021

 

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*