وظيفة القراءة وأثرها في المتلقّي – د. محمود أبو فنّه

القراءة ليست ترفًا بل هي حاجة أساسيّة لتحقيق غايات كثيرة. ففي عصرنا، عصر انفجار المعرفة وتزايدها وتراكمها وتغيّرها، لا يمكن الاستغناءُ عن القراءة.

انعكاسات القراءة وفوائدها:

تُعتبر القراءة الوسيلة الرئيسيّة في اكتساب المعرفة وفي تحقيق التربية الذاتيّة الدائمة – مدى الحياة – يحتاج إليها المتعلّم والموظف والعامل وكلّ مواطن واعٍ.

والقراءة من أهمِّ وسائل المُتعة والتّرفيه التي تساعد الإنسان في استثمار أوقات فراغه المتزايدة وفي انتشاله من براثن الفراغ والملل.

والقراءة تُشبع العديدَ من الحاجات النفسيّة لدى الأفراد كما تظهر في سلّم ماسلو.

أمّا الترتيب الهرميّ للحاجات – كما بيَّنه ماسلو – فهي على النحو التالي:

– الحاجات الفسيولوجيّة: وهي الحاجات اللازمة للحفاظ على الفرد كالتنفّس والطعام والماء والإخراج…

– الحاجة إلى الأمان؛ الأمان الماديّ والأمان النفسيّ.

– الحاجة إلى الحبّ والانتماء.

– الحاجة إلى التقدير.

– الحاجة إلى تحقيق الذات.

– والحاجة إلى المعرفة والفهم.

والقراءة وسيلةٌ هامّة في توسيع آفاق الإنسان وإكسابه التجاربَ والمعارفَ والأفكار في شتّى المجالات والميادين.

والقراءة تسهم في إخراج الإنسان من دائرة اهتماماته اليوميّة المحدودة، وتدفعه للاهتمام بما يدور حوله من أحداث وقضايا متجاوِزًا دائرةَ حياته الضيّقة المتمثلة في أسرته أو بلدته أو وطنه.

والقراءة وممارستها تُتيح للقارئ قدرًا أكبر ليخطّطَ لحياته ومستقبله مبتعدًا عن الارتجاليّة والعشوائيّة.

والقراءة تساعد في تنمية ثقة الفرد بقدراته وكفاياته، وتقلّل من تعلّقه بالأنماط الحضاريّة والثقافيّة السائدة فيتّجهُ إلى التجديد والتغيير.

والقراءة، خاصّة قراءةَ الأدب والفنّ القصصيّ، تعمِّق فهم القارئ لنفسه والآخرين؛ فالتعرُّف على الشخصيّات القصصيّة وعالمها الداخليّ وتجاربها ودوافعها وصراعها … كلّ ذلك يمنح القارئَ فرصةً لإصدار الأحكام المرنة والموضوعيّة على الآخرين.

والإكثارُ من القراءة يشحذ الذهن، ويقوّي الذاكرة، ويقلّص احتمالات فقدان الذاكرة والخَرف في مراحل العمر المتقدّمة!

والقراءة وسيلة للتطهير والتخلُّص من المشاعر المكبوتة التي تؤدّي إلى القلق والضيق والمرض، وقد تُستعمل كثيرا كوسيلةٍ علاجيّة (بيبليوترابيا) للوصول إلى الصّحة النفسيّة للقارئ.

ونجمل فنقول إنّ القراءة تُعتبر من أهمِّ الوسائل في بناء شخصيّة الإنسان وبلورة مواقفه وعاداته واتجاهاته.. فعن طريق الامتصاص والتماهي والتذويت تتبلور هُويّةُ الفرد الفرديّة والاجتماعيّة والقوميّة والإنسانيّة.

الأدب/النصوص كوسيلة للعلاج النفسيّ:

تسهم القراءة في تحقيق الشخصيّة المتلقّي المتكاملة في أبعادها المختلفة: العقل والتفكير، الروح والقلب والإحساس، الإرادة والإبداع!

والأدب نوعٌ من أنواع الفنون، ودور الفنّ كما يراه سقراط:

“يجب أن يكون لخدمة الأخلاق والجمال، ويجب أن يؤدّيَ إلى الخير لا إلى اللذّة الحسّيّة”.

فالأدب، كما ذكرنا، يمكن أن يكون وسيلة علاجيّة يُسهم في إحداث التوازن النفسيّ لدى المتلقّي!

وفي كتابه الشهير “التحليل النفسيّ للحكايات الشعبيّة” (ترجمة: طلال حرب) يؤكّد برونو بتلهايم على دور الحكايات الشعبيّة في تسلية المتلقّي وإمتاعه، وفي كونها تنير للمتلقّي ذاته، وتؤمّن نموَّ شخصيته (المصدر، ص 31)، بل قد تستطيع تلك الحكايات أن تغيّر شخصيّته، وتطهّر نفسه، وتحرّره من عواطفه ومشاعره السلبيّة كما حدث للملك شهريار في حكايات “ألف ليلة وليلة”.

فالملك شهريار، بعد خيانة زوجته له (وخيانة زوجة أخيه)، طغى عليه الحقد والكراهيّة، وفَقَد الثقةَ بالنساء، فقرّر الانتقام من بنات حواء.

ولتحقيق هذه الرغبة الجنونيّة الحمقاء، صار يتزوّج كلّ ليلة فتاة عذراء، ثمّ يقتلها عند الفجر كي لا تكون لها فرصة لتخونه!

وهنا تظهر شهرزاد بنت الوزير التي قرّرت الزواج من الملك وأن تضحّي وتخاطر بحياتها علّها تنقذ بنات جنسها من طغيان هذا الملك الذي يعاني من عقدة الكراهيّة للنساء بعد اكتوى بنار الخيانة الزوجيّة.

أمّا الوسيلة التي لجأت إليها شهرزاد فكانت أن تروي كلّ ليلة، وعلى امتداد ألف ليلة وليلة، حكاية مشوّقة ممتعة للملك الذي أُعجِب كثيرًا بتلك الحكاية، فكان كلّ ليلة يؤجّل قتل شهرزاد ليستمع إلى تتمّة الحكاية التي كانت شهرزاد “تقطعها عند لحظة حاسمة، مع الفجر، في الليلة التالية.” (ن. م، ص 121)

بفضل سرد تلك الحكايات الأخّاذة، وخلال ثلاث سنوات تقريبًا، نجحت شهرزاد في تحرير الملك من “انهياره العميق” وتمّ ترميم شخصيّته المتفكّكة وعلاجه من عقدته القاتلة!

وكانت النهاية سعيدة حقّقت فيها شهرزاد بحكاياتها “الخلاص” للملك، فقد أصبحت شخصيّته سويّة متكاملة تحرّرت من الحقد والكراهية للنساء، وعرفت قيمة الحب المتبادل للمرأة الوفيّة الحكيمة!

ويستعين بتلهايم في تحليله بمفاهيم مستمدّة من علم النفس؛ فالملك الحاقد على النساء – في أعقاب الخيانة الزوجيّة – أصبح خاضعًا بصورة مطلقة للميول العدوانيّة وللنزوات والرغبات المكبوتة المتمثّلة بما يُعرف ب- (الهو)، وجاءت شهرزاد التي تخضع ل – (الأنا) الواقعيّ العارف الحكيم، والمتسلّحة ب – (الأنا الأعلى) – القيم والمثل العليا – المتمثّلة في استعدادها للتضحية بحياتها لإنقاذ الآخرين.

لا غرابة، إذن، أن تزداد في العقود الأخيرة الدراسات والأبحاث والمساقات حول موضوع العلاج بالنصوص!

المراجع:

– بتلهايم، برونو – التحليل النفسيّ للحكايات الشعبيّة. ترجمة: طلال حرب. دار المروج للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت 1985.

–  בטלהיים, ברונו. קיסמן של אגדות ותרומתן להתפתחותו הנפשית של הילד. תרגם: נ’ שליימן. רשפים, ת”א 1980.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*