هذا أٌحبّه هذا أُريده بقلم: مصطفى عبد الفتاح

 

أمسكت أُمي بذراعي وشدَّتني بقوَّة دافعة بي إلى الغرفة ثُمَّ أغلقت وراءها الباب، إقتربت مني وقالت بصوت مُنخفض، لا يخلو من نبرة غضب وعتاب:

  • هذه هي المرّة الثانية الَّتي يزورنا بها العم أبو وسيم وعائلته، ليباركوا تخرّجك مِن كلّية الآداب، وانت تتهرَّبين مِن ملاقاتهم واستقبالهم. هيَّا … رتّبي هندامك وادخلي إليهم واستقبليهم.
  • حسنًا …. حسنًا سأفعل إذا كان استقبالهم يريحُك يا أُمي.

كنت أُريده شخصًا مرموقًا، يحمل شهادةً جامعية، مثقفًا، رومانسيًا، وربَّما تخيَّلته نجمًا مِن نجوم السينما الَّتي كُنت أُتابعهم، تخيَّلته فارسًا على حصان أبيض يأتيني كلمح البصر، يحملني خلفه على صهوة جواده، ويطوف بيَ الدُّنيا، كنت أبحث عن فارس أحلام يُحب ما أحبه، ويكره ما أكرهه، كنت مستعدّة أن أنتظره أبد الدَّهر حتى يأتيني وبيده وردةً حمراء. إنتظرت فارس الأحلام الَّذي لم يأت.

  • الوقت ليس في صالح البنت يا بنيَّتي.

جملة لا تملّ أمي مِن ترديدها إلى أن يأتي جوابي مستخِفًا.

كانت أمي قلقة جدًا على مُستقبلي، ممَّا جعلني أتراجع عَن أحلامي الورديَّة، فكان وسيم إبن الجيران الَّذي يعمل حدادًا، مِن نصيبي، لم يكن به مِن الوسامة إلَّا الاسم، رجل بسيط ذو مستوى دراسي مُتوسّط، لا يُحب القراءَة ولا الكُتب، لا يُتقن التَّعامل الّا مع قِطع الحديد، ولا يطرب إلَّا على صوت طَرَقات المعادِن، لكنَّه لم يكن يخفي إشارات الاعجاب والحُب اتجاهي، على الأقل هذا ما لمستُه منه.

كان تنازلي عن أحلامي يُحزنني ويجعلني أفكّر بالتراجع عَن فكرة الارتباط برجل غامض، حتى أصبحت في فوضى مِن المَشاعر، فتارةً أرضخ لفكرة أُمي، وتارةً أتمسَّك بأحلامي، وأنتظر تحقيقها، حتى جاء يوم رضخت فيه لقول أُمي، فقبلت به تمشيًا مع قولها:

  • “تزوَّجي الذي يُحبّك، أفضل مِن أن تتزوَّجي الَّذي تحبينه”. وتستطرد أحيانا” الرجال -يا بنيَّتي – ليسوا بالمظهر”

بدأت حياتنا عاديَّة روتين قاتل، لكنَّها انتظمت بهدوء دون مشاجرات، هو يذهب لمحددته الَّتي كانت بجانب بيتنا المُتواضع، وأنا أذهب إلى المدرسة الَّتي كنت أعمل فيها مدرّسة للُّغة العربيَّة.

كانت أوَّل مواجهة لي معه، حين ذهبنا ذات يوم لشراء بعضُ أثاثٍ للبيت، كُنت أُريده أن يختار معي الأريكَة ولونها، أردته أن يعطي رأيه في لونها وشكلها، أن يكون شريكي في الاختيار لكنَّ ردَّه كان:

  • البيت بيتك ومِن حقِك اختيار الشَّكل الذي يعجبك.

اردته أن يثني على ذوقي في اختيار اللَّون والشَّكل، لكنَّ ردَّه كان أن ترك لي حريّة الإختيار:

  • إختاري ما يُعجبك.

لم تعجبني برودة أعصاب هذا الرَّجل الَّذي اقتحم حياتي، وقلب كياني، كظمت غيظي، وتجاهلت ردَّه وقلت في نفسي:

  • لا بدَّ مِن شيءٍ يستفزَّه، يحرِّك فيه مشاعره، أردت أن يُسمِعني كلمة اطراء، على الأقل أن يُشعرني أنْ ليس هذا ما يُحب أو ليس هذا ما يريد.

عُدنا إلى البيت والدَّم يغلي في عروقي كالمِرجل، من هذا الرَّجل غريب الاطوار، الذي اقتحم حياتي كأنه جسد بلا روح، ولكنّي كنت مصمِّمة على استمرار المُحاولة.

صبيحةَ اليوم التَّالي لبست فستانًا جديدًا جميلًا كُنت قد أُعجِبتُ بألوانه المُزركشة، لعلَّه يُلفِت نظر زوجي، دخلت المطبخ وصنعت القهوة، حملتُها وذهبت اليه بفستاني الجميل المُزركش وكلّي أمل أن أسمع تعليقًا أو كلمةَ إطراءٍ جميلةٍ رومانسيةٍ، كما كنتُ أحلم مِن فارس أحلامي.

جلست أمامه وقلت:

  • أُتْرك ما بيدك، خذ لكَ استراحة وتعال لنحتسيَ القهوة معًا.

بدأ يسكبُ القهوة لي فقلت:

  • إحذر أن تسكب القهوة على فستاني الجديد، قاصدةً لفت نظره وتقريب الحدث له، وأكملت حديثي وأنا أُلملِم أطرافه وأقول:
  • فستانٌ جديد، ولا أريد إفساد جماله.

رمقني بنظرة لا مبالاة وقال:

  • حقًا جديد! مبروك.

لم يكلّف نفسه النطق بكلمة حُلوة يُرضيَ بها خاطري، فزاد غضبي، وتوتُّر أعصابي، حملت القهوة وعدت إلى المطبخ وأنا أقول:

  • إنَّ لهذا الرّجل قلب أشد صلابةً مِن الحديد الذي يعمل به.

بقي قلبي مقفلاً إتّجاه هذا الرّجل، غريب الاطوار، قلت في نفسي، إصبري يا بنتْ، ربّما يكون السّر في الصَّبر، ربما لا يحتاج الزّواج إلى مفردات الحُب والرومانسية كحاجته إلى الصّبر والتَّفاهم.

كان يوم مرهقًا ومتعبًا لي، يوم أنْ تشاجرت مع زميلٍ لي في العمل، وكان السَّبب قلَّة أدبه، ومشاكسته لي، عدت إلى البيت، لاحظ وسيم، ارتباكي وكان الإرهاق باديًا على وجهي، سألني:

  • ما بك تبدين متعبةً؟ هل أتعبك العمل؟

قلت باقتضاب وبنبرة غضب:

  • لا.

رد قائلًا:

  • هل حدث شيء ما؟

عندما سمعته تشجَّعت وقلت في نفسي لا بدَّ أنْ أسرد له ما حصل مِن قلّة أدب زميلي في العمل. ورحت أُحدِّثه فيما حصل وأنا انتظر ردَّة فعله.

قال:

  • لا تغضبي، عليك ان تواجهي تلك الاشكال ببرودة أعصاب، وبثقة بالنفس، وأن لا تلتفتي إليه ثانية. كوني قوية لا تُبدي له ضعفك عبّري عن رأيك ولا تخافي، لا تعطيه الفرصة لأن يشغلك عَن اهتماماتك، كوني امرأةً قويّةً وجريئة.

ارتبكت وأنا أُصغي إليه، شعرت بفوضى تعتريَ حواسّي ومشاعري، تارةً يُدهشني كلامه فيزداد رجولةً وغموضًا، وتارةً تنتابني موجة غضب مِن برودة أعصابه فأقول لنفسي، لا بدَّ لي من فك شيفرة هذا الرّجل الغريب الاطوار، فتثور ثائرتي، لكن سرعان ما أهدأ وأعود لصوابي ما بين الغضب وعدم القبول، عشت ردحًا من الزمن بهذه الأجواء.

وكان يوم، حين رنَّ هاتفي المُلقى على طاولة المطبخ، اسرعت بالرّد، كانت على الطَّرف الآخر صديقة قديمة مِن أيَّام الدراسة الجامعية، كدت أنْ انسى اسمها، تُعلِمني أنَّها ترغب بزيارتي، فرحّبت بها وبزيارتها. إستقبلتها بحرارة، كان برفقتها ابنها الصَّغير، جلسنا وتحدثنا في شتّى المواضيع، كنت في نفسي احسُدها وهي تُحدّثني عن كمّية الدّلال والحب الَّذي تتمتع به مع زوجها، الَّذي يدلّلها ويبادلها الحب والدَّلال، امَّا انا فلم أتطرّق لحياتي الزوجية كثيرًا معها، قلت أنَّني بخير وقبول مع زوجي، وأنَّ حياتنا عاديّة وتسير على أساس من التَّفاهم والانسجام. وبينما نحن نتجاذب أطراف الحديث، قام طفلها برمي كرة كان يلهو بها فكسر إبريقًا فخاريًا ثمينًا، جميل الزَّخرفة، كنت أعتز باقتنائه لكني ورغم غضبي الشّديد تمالكت نفسي وتظاهرت بأنَّ الامر عادي يحدث مِن تصرفات طفل، فلا داعي للحرج. وقلت:

  • لا بأس، إنَّها شقاوة الأطفال، فلا تنزعجي يا صديقتي.

رحت اجمع قطع الابريق المكسورة وبداخلي حزن وغضب على فقدانه، عندما عاد وسيم من عمله، رأى علامات الحُزن والغضب باديةً على وجهي، وبعد أن سمع ما حدث، قال:

  • لا بأس، اعرف أنَّ الابريق عزيز عليك، لا تغضبي، سأعيد تركيبه، ثم أضاف: تعالي لتساعديني.

إستغربْت طلبه المساعدة مني، ثم عاد يحمل صندوقًا من الأدوات والاشرطة، وقفت أمامه انظر ما سيفعل، قال:

  • ما بك هيا تعالي لتُساعديني.

كنت موقنة أنَّه ليس بحاجة لمساعدتي، لكن لماذا يطلب مني ذلك؟! كان يريدني إلى جانبه، اقتربت منه وصرت أناوله القطع واحدة وراء الأخرى، وأنا أراقب ما يفعل بشغف ودهشة، وما أدهشني أكثر عندما أعاد تركيب قطع الابريق بصبر وأناة كمن يركّب قطعة بازل بلمسة فنية مدهشة.

لا أنكر أنَّني ارتحت جدًا وأنا بقربه، أُساعده في إعادة تركيب قطع الابريق المهشَّمة، كما شعر هو برضائي عما قام به، فصار يُعلّمني بعض المهارات في المنزل، وأنا ارافقه في عمله، فكنت مساعدته في اصلاح بعض الاعمال في المنزل حتى تعلّمت تركيب السّتائر وإصلاح الحنفيّات المُعطلة، فك وتركيب مقابس الكهرباء، حفظت أسماء المفكات والبراغي، حتى طلاء جدران البيت قد برعت فيه.

دخلت البيت بعد يوم عمل طويل في المدرسة وانا اشعر بوعكة صحيَّة خفيفة، وسرعان ما تطور الامر، وبدأت حرارة جسمي ترتفع، رحت أسعل، شعرت بدوار في رأسي، أجبرني على التمدد على الاريكة كي أستعيد توازُني. عاد وسيم من عمله في المحددة، توجَّه إليَّ، شعر أنّي لست على ما يُرام، كان يبدو مرتبكا وخائفا ثم صار يسألني عن يومي في المدرسة، عله يصل إلى سبب الوعكة التي ألمَّت بي، ثم راح يمسِّد خصلات شعري بيده محاولًا التَّخفيف عنّي، مرّر يده على جبيني وقال: حرارتك مرتفعة، دخل المطبخ وأحضر كوبًا من الشّاي وبيده حبة دواء وقال إشربي هذا ستشعرين بالارتياح. كانت كلماته كقطرات النّدى تسقط على جبيني فتبرِّد من حرارة جسمي، وتُشعرني بسعادة غامرة.

شربت الشّاي، تذوقته فكان لي كالبلسم يسري في عروقي فينعشني. قلت في نفسي: إنْ لم يكن هذا هو الحب، فلتذهب كلّ كلمات الغزل والرومانسية إلى الجحيم فأنا لا أريدها.

يوما بعد يوم، يزداد اعجابي بزوجي ويزداد رجولة بنظري، زوجي لا يجيد كلام الغزل والاطراء، لا يجيد كلام الحب والرومانسية، ولم تعد كلمات الحب ذات قيمة أو ذات منزلة عندي، فزوجي لا يجيد هذا الكلام في الحب وإنَّما يصنعه.

كوكب 7.12.2021

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*