قراءة في رواية مسك الكفاية للكاتب باسم خندقجي 2014.بقلم: د. روز اليوسف شعبان

 

يقع الكتاب في 341 صفحة من القطع الكبير، ويحتوي على عشرين فصلًا.

يروي الكاتب في روايته سيرة الخيزران التي كان اسمها سابقًا  المقّاء.  وهي فتاة يمنيّة وقعت في سبي كتيبة من جند بني العبّاس، حين كانت في طريقها الى الحقل لترسل الطعام لأخيها. كان ذلك في بداية ثورة بني العباس على الأمويين وانتزاع الخلافة منهم، وإقامة الدولة العباسيّة، التي أنشأها عبدالله السفاح وجعل مركزها في الهاشميّة في العراق. ثمّ خلفه أبو جعفر المنصور الذي شيّد مدينة بغداد عام 762م. ليبدأ عهد الدولة العباسية الذي استمر ما يزيد عن ثلاثمائة سنة، بعد القضاء على جميع خلفاء بني أميّة والقضاء على العلويين  وسفك دمائهم.

يصوّر لنا الكاتب العصر العباسيّ من خلال سرده لقصّة الجارية خيزران التي تصبح محظيّة  المهدي وهو ابن الخليفة أبو جعفر المنصور، فيهيم بها المهدي لشدّة جمالها وذكائها وحكمتها ونفاذ بصيرتها وفصاحة لسانها، ويستشيرها في أمور الدولة  ولطالما أسعفته وأسدت له النصائح التي عادت عليه وعلى حكمه بالفائدة والمنفعة. ثمّ ولدت له ولديه موسى وهارون الذي أطلق عليه المهدي لقب  الرشيد لرجاحة عقله .ثم يعتق المهدي جاريته الخيزران ويتزوجها لتصبح زوجة الخليفة وام وليّ العهد موسى. لكنّ الخيزران تؤثر هارون الرشيد على ولدها موسى الذي لم تحبّه منذ ولادتها له،  فأوكلته الى مربية ترضعه وترعاه .وتقنع زوجها الخليفة بتعيين هارون الرشيد وليًّا للعهد. وأثناء سفر الخليفة إلى ولاية ابنه موسى ليعلمه بقراره، يموت الخليفة مسمومًا، وتتهم الخيزران ابنها موسى بتدبير مؤامرة قتل والده ليستلم هو الخلافة. عندها يستولي موسى على العرش ويقرّر الانتقام من والدته ، فيقصيها عن مقاليد السلطة ويمنع رجال الدولة من الاجتماع بها ومقابلتها الأمر الذي أغاظ الخيزران وهي التي لم ترض عنه ولا عن طريقة حكمه، حيث كان قاسيا ظالما منهمكا في اللهو والمجون ومجامعة الجواري، فأوكلت له ثلاث جاريات قتلنه خلال جماعه لهنّ. وبذلك يستلم هارون الرشيد مقاليد السلطة فيحكم بالعدل ويعلو شأن الدولة العباسيّة في عهده.

الغريب في أمر الخيزران أنها حين وقعت في السبيً، تمكنّ فارس مغوار  صعلوكيّ (الأنهد) ومعه مجموعة من الرجال الأشدّاء الصعاليك، مهاجمة الكتيبة  العباسيّة التي تحتجزها ، وأخذها معه إلى البادية حيث يقطن مع أهله وقومه.  فيعطف عليها، ويعلّمها الكثير عن الصحراء ويحدّثها عن بغداد وعن اليمن، وهي التي سبيت فتاة لا تتجاوز السابعة عشرة، ولا تعرف من أمور الدنيا شيئًا. كذلك تحضنها رقية وهي حبيبة الفارس الأنهد، فتعلّمها الكثير عن الصحراء.  ورغم استعداد الأنهد إلى إعادة الخيزران الى أهلها في اليمن، إلّا أنها ترفض وتصر على أن يأخذها ويبيعها لتاجر الجواري من أجل اهدائها للخليفة. هذا الأمر يثير جنون الأنهد الذي يتّضح لنا أنه أحبها لكنه احترم رغبتها بعد أن باءت جميع محاولاته لثنيها عن قرارها الغريب بالفشل. فمن يسلّم نفسه للسبي؟ وكيف ترضى أن تعامل كجارية من أجل إشباع رغبة الخليفة أو القادة أو الأمراء؟ لكن الجدّة العجوز حكيمة الصحراء، تطلب من الأنهد أن يترك الخيزران وشأنها، فهي قرأت طالعها ورأت في عينيها النور والسلطة والدماء. أما الخيزران فتأخذ بهذه الرؤية الني رأتها هي نفسها في أحلامها ورؤاها، لقد أرادت السلطة والملك وسعت من أجل تحقيق حلمها، وتحملت العذاب والسبي والألم حتى حقّقت حلمها فتزوجت الخليفة المهدي:” صوت صارخ في حلمي قال لي لا تعودي الى الطين، لا تعودي إلى أمك بما أصابتك به الراية السوداء من عار السبي: صرخ بي الصوت: ستظل اللعنة تلاحقك، ستذوين في بيت طينك البائد، ان عدت بثياب حرّيتك الممزقة، فتقدمي الى مقدمات قدرك، حيث المكتوب والمحتوم الذي سيحلّ عليك بعد قليل هناك..”. ص 311.

يمكننا اعتبار رواية مسك الكفاية  من روايات الحداثة، وروايات تيّار الوعي، التي يعرّفها غنايم(1992) بأنها نوع أدبي يوظف تكنيكات عديدة لتصوير الحياة الداخلية تصويرًا يحاول محاكاة حركة اللاعي الداخلية، في هذه المحاكاة تنكشف درامية النفس التي لا تتوقف، والحركة الموّارة التي تصطرع فيها.(غنايم، 1992، ص 15-16). فنجد أنّ الخندقجي قدّم على امتداد روايته وعي بطلته الخيزران، بالإضافة إلى وعي عدد آخر من الشخصيّات مثل  الأنهد و رقيّة)،  فيتفكّك الزمن ويتفتّت، وتزداد كثافة اللحظة، عندما يتفجّر وعي الشخصيّة ويتحلّل إلى عشرات الذرّات، ليتداخل الحلم والواقع، والوهم والذكريات.

كما اتّبع الكاتب في روايته  أساليب سرديّة تميّز رواية التيّار. فنجد أن السرد يتنقّل بين السارد العليم وهو الراوي نفسه و السرد بلسان البطلة وهي الخيزران (السرد الذاتيّ). تركّز الرؤية السرديّة في رواية مسك الكفاية على صوت المتكلّم(السرد الذاتيّ)، فالراوية (الخيزران) تقع في مركز الحدث وتقدّم ما حدث لها، كما يدور الحدث حول شخصيّتها، فهي التي ترى، وهي التي تتكلّم فتحكي عن أناها؛ لتكشف عن عمق الألم ومدى الضياع، فتحاور نفسها (المونولوج) وتكشف لنا الصراعات المضطربة فيها. “تتجلّى الموقعة الزمكانيّة في رواية التيّار في المونولوج الداخليّ ، حيث تقدّم فيه الشخصيّة نفسها وتكشف خباياها بلغة متميّزة، فتتبدّى في كلّ لحظة مختلفة عن اللحظات الأخرى، وتصطبغ كلّ لحظة بنفسيّتها، وبذلك تكتسب اللحظة خصوصيّتها”. (غنايم، 1992، ص 24.) كما في المثال التالي:” أنا المقّاء بنت عطاء بن سبأ، أنا سيدة الأعالي، أنا امتداد بلقيس في الأرض، أنفاسها، آثار سحرها وجمالها، وأنتم من أنتم في وجه إعصاري. أنتم حطام على حطام على حطام. أنتم عبيدي عبيد الشهوة وأنا التي أسود عليكم”. ص 130..

تنطلق الراوية-البطلة، من الفصل الأوّل حتّى الفصل العشرين، بتبئيرها السرديّ إلى داخلها، وهذا ما يسمّيه جينيت “التبئير الداخليّ”   ويعني أنّ صورة “الأنا السارد تستأثر بهذا الجزء، وتغدو الرواية كأنّها ضرب من السيرة الذاتيّة، إذ يصبح الراوي واحدًا من الشخصيّات. وتتشكّل هذه الرؤية السرديّة من الداخل (الرؤية مع)، وتتّضح معالم الداخل للرّاوي من خلال التبئير الداخليّ بسيطرة الأحلام. وتأتي هذه الأحلام عادةً مُمثّلةً لأهواء الراوية وطموحاتها وخوفها من التذكّر”. شعبان(2006) ص 29.

كما نجد في هذه الرواية تقنيّات اخرى تميّز رواية التيّار مثل تقنيّة الاسترجاع وتقنيّة الأحلام. أما الاسترجاع فهو إعادة مخزون الذاكرة وغالبا ما يتفاعل مع صوت النفس وجنون المخيّلة في تكوين الحالة الحواريّة التي يشتغل بها الذهن داخليًّا(عبد السلام، 1999، ص 139). كما في الاسترجاع التالي للخيزران :” ولكن ليلي لا ينتهي.. إذ أصحو داخل الخيمة على دمعي الساخن المنساب على وجنتي، لأنفض ما تبقى من الرقاد، وأمضي صوب أمي وبلاد الأصل والبدء، إلى الجنوب، إلى حضرموت، إلى بلدتي الصغيرة الملقاة في أحضان الوادي الكبير وحدي أنا في ضيق الأرض وسط رايات سود وسيوف سُلّت في سبيل السلطان، كان بوسعي أن أهرب، أن أصرخ، أن أستنجد أن أفصح عن أهلي ونسبي، ولكن ويحي.. إبنة من أكون أنا حتى أفاخر بنسبي وألطم وجه أمير الجند؟”. ص 123.

وفي استرجاع آخر تقول:” أعود في هذا الليل إلى أمي التي كانت تقول لي عندما تلمس ضيق جمالي الآخذ بالنمو والتألق من قيظ الوادي وهجرانه المترامي الأطراف: أي بنية.. كان أبوك فارسا ذا عز فيما مضى”. ص 124.

أمّا الأحلام فتأخذ حيّزًا كبيرًا في الرواية، حيث تشكّل  وسيلة لهروب الشخصيّات إلى الماضي، حيث الطفولة والبراءة والأمّ والبيت والقرية والحقل، وكلّها مواضيع تبعث الحنين والدفء والأمان في نفس الشخصيّة الحالمة:” وحلمت من جديد. رأيت أبي شجرة وأمي حقل ورد.. لم تكن جنّة كان خلودًا وكان ظلّ وكان صمت في الوادي الكبير” ص 227.

 

الزمن في الرواية:

 

تتميّز روايات تيّار الوعي الحديثة بالزمن النفسانيّ بشكل خاصّ، حين تقوم بتكسير تعاقُبيّة الزمن السرديّ بشكل غير منطقيّ وغير منظّم تاريخيًّا؛ فهو الزمن الذي يرتبط بتقنيّات هذا النوع من روايات تيّار الوعي واللاوعي، المنهمر عبر فيضان الذاكرة والتداعي الحرّ والمونولوج الداخليّ والخيال والحلم، كما أنّه الزمن الذي يصعب قياس مدّته المعلومة، فقد يطول أو يقصر، بحسب الحالة النفسانيّة التي عليها الشخصيّة الروائيّة.(يوسف، 2015، ص 68).

وقد خرج الخندقجي،  عن المألوف في تعامله مع الزمن، فلم يلتزم بطريقة السرد الذي يتبع التسلسل الزمنيّ، لكنّه لجأ إلى التداعي والحلم .فنجده يقوم بتكسير تعاقبيّة الزمن السرديّ بشكل غير منظّم تاريخيًّا، فتارةً يستلم الراوي دفّة السرد فيحدّثنا عن العصر العباسيّ بأحداثه التاريخيّة الداميّة والصراعات على الخلافة، وتارةً يسلّم دفّة السرد للراوية خيزران بطلة الرواية، فتحدّثنا في فصل معيّن عن حياتها في الصحراء مع الأنهد وعائلته لتنتقل في الفصل الذي يليه فتحدّثنا عن حياتها ومعاناتها في قصر الخليفة المهدي بين الجواري والمحظيّات، ثم تعود في الفصل الذي يليه لتعيدنا إلى الصحراء، فتكشف لنا كلّ ما تعلّمته من الأيهم ومن رقيّة، لتكتسب منهما علمًا غزيرًا ولتكسبها الصحراء تجربةً فريدةً فتغني شخصيتها وتوسّع مداركها، ليغدو هذا سلاحها لتغزو فيه قلب الخليفة المهدي.

فالزمن إذن في الرواية لا يخضع لترتيب تاريخي أو زمني  واضح وإنما يتقطّع ويتلاقى وفق سيرورة الأحداث التي أرادها الكاتب أن تكون.

من كل ما ذكر أعلاه نخلص إلى أن رواية مسك الكفاية هي رواية التيّار بكل ما تحويه من استرجاعات وأحلام ومونولوج وتعدّد السرد وسيطرة السرد بلسان بطلة الرواية الخيزران  التي تكشف لنا عن مكنوناتها ومشاعرها وأحلامها ورغباتها من خلال أحلامها وحواراتها الداخليّة واسترجاعاتها…

ويبقى السؤال : هل أراد الخندقجي من استخدامه لرواية تيّار الوعي، الولوج إلى العالم الداخليّ لشخصيّة الخيزران، ليكشف رغبتها الجامحة في التحرّر والانعتاق  من سلاسل العبوديّة والسبيّ؟ ليشير بذلك إلى رغبته هو نفسه في التحرّر من الأسر والحصول على حرّيته؟

وهل تصويره لإصرار الخيزران على تحقيق حلمها بالوصول الى السلطة ونجاحها بعد آلام شديدة ومعاناة وذلّ، رمز إلى متابعة نضال شعبه من أجل تحقيق حلمه بالاستقلال؟

وتبقى الاجابات لدى الكاتب نفسه، الذي أجاد في روايته فنقلنا إلى عالم مليء بالصراعات والفتن والشهوة والظلم وسفك الدماء، ورغم ذلك أضاء لنا بقعة نور تجلّت في شخصية الخيزران التي مثّلت الانسانة الطموحة الواثقة بنفسها الساعية بكل إصرار نحو تحقيق هدفها لتصل في النهاية الى مسك الكفاية وتكون سيّدة الظلال الحُرّة.

المراجع:

.

شعبان، 2006                      شعبان، هيام (2006)، إشكاليّة المؤلّف-السارد-البطل في أعمال غالب هلسا القصصيّة والروائيّة، رسالة ماجستير، الأردنّ: جامعة اليرموك.

عبد السلام، 1999          عبد السلام، فاتح (1999)، الحوار القصصيّ، تقنيّاته وعلاقاته السرديّة، بيروت: المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر.

غنايم، 1992                        غنايم، محمود (1992)، تيّار الوعي في الرواية العربيّة الحديثة، بيروت: دار الجيل.

يوسف، 2015                      يوسف، آمنة (2015)، تقنيّات السرد في النظريّة والتطبيق، بيروت: المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، ط. 2.

بقلم: د. روز اليوسف شعبان

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*