المقدس والمدنس في الرواية العربية النسوية / لبابة حمدان محمد حسن – رواية (الحافيات) لدينا سليم حنحن

في رواية “الحافيات” ١، تحكي دينا سليم ٢ قصة المرأة مهضومة الحقوق، مستلبة الإرادة، المهزومة تماما. فهي تتناول قصة وفاء التي يزوجها أهلها لابن عمها ناصيف قسرا، وتكون فيما بعد مضطرة إلى إنجاح علاقة زوجية مكللة بالكذب والظلم، تتجلى في قضية حيوية وهي “العقم”. لكن العقم هنا عقم الزوج، وليس عقم الزوجة.

لقد كان العقم وما يزال “يهدد مكانة المرأة، ويشعرها بعدم الاستقرار في حياتها الزوجية، وهي بالنسبة للمحيطين بها تفقد أهم مقومات المرأة، الخصوبة” ٣. فتواجه “صعوبات نفسية واجتماعية في حياتها الزوجية والأسرية. لا تعدّ المرأة “أنثى” أو “بالغة”، عندما تنادي بتلك المصطلحات التي ينادي بها الصبية والمراهقون” ٤، مثل “يا بنت”؛ ذلك لأن البيئة التي تعيش فيها لا ترى فيها إلا آلة للتفريخ لا غير، وعندما لا تستطيع أن تقدّم للرجل شعور الأبوة فهي عديمة الأنوثة في المجتمع ٥.

وفاء في رواية “الحافيات” تتمتع بالخصوبة، لكنها تشعر بعدم الاستقرار، وتواجه الصعوبات النفسية، ذلك أن المجتمع الذي يرفض عقم المرأة، ويرفض النظر إلى عقم الرجل ولا يعترف به، ولا يمكن أن تصيبه نظرة المجتمع بشيء من النقص، فهو أكمل من أن يكون عقيما في مجتمعه، فالرجل تحيطه هالة من التقديس والكمال.

تعكس دينا سليم في روايتها، مرض المجتمع، الذي يسعى إلى تدليس الحقائق، وقهر المرأة نفسيا في سبيل إخفاء عيوب الرجل، حتى لا يفضح في عيون المجتمع، وفاء عندما تخبر والدتها بأن زوجها عقيم، وبأنها لا تهتم بذلك تجيب والدتها: “يا حلالي، يا ملالي، زوج بنتي عقيم، يا حلالي ويا ملالي، شو هالفضيحة هذه”!!

  1. صدرت عام ٢٠٠٨ ، دار أزمنة للنشر والتوزيع، عمان.
  2. ينظر ترجمتها في مسرد الروائيات اللائي درست أعمالهن في الرسالة.
  3. فاتن شريف، الرؤية المجتمعية للمرأة والأسرة: دراسات في الإنثربولوجية الاجتماعية، ٢٠٠٧ ، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الاسكندرية، ص ٣٢٢
  4. المرجع ذاته، ص ٣٢٢
  5. انظر: إبراهيم خليل، من الاحتمال إلى الضرورة: دراسات في السرد الروائي والقصصي، ٢٠٠٨ ، دار مجدلاوي، عمان، ص ١٣١

فضيحة؟

طبعا فضيحة لأهل القرية” وعلم والدي بالأمر، أراد أيضا التستر على عيوب ابن أخيه، وأراد منحي الأمومة بأي شكل” ١

يتم التكتّم على حالة العقم لدى ناصيف – زوج وفاء في الرواية، وابن عمها، وترغم وفاء على مواجهة المسؤولية، فإما أن تنجب خلال عام، وإما أن تطلق. الخيار ليس خيار زوج، وإنما يفرض عليها من والدته، وهنا الاضطهاد الذي تواجهه وفاء من سلطة أنثوية داخل الأسرة تنصب نفسها عليها بدلا من المجتمع، سلطة النساء ضد النساء من جنسها الحماة/ زوجة الابن، ويتعدى الأمر مجرد سلطة تهدد استقرار حياتها، بل وتنتهك خصوصيتها، وخصوصية جسدها/ المقدس رمز العطاء والخصوبة، هنا تتحدث وفاء عن إحساس المرارة بالاضطهاد، واستلاب المرأة أمام المرأة، والقهر، والتبخيس الذي تُشعر به المرأةُ “هددتُ بالطلاق إن تأخرت سنة أخرى بدون إنجاب، أخذتني والدته من يدي وصعدت بي إلى غرفة مغلقة على السطح، أدخلتني وبدأت بالتحقيق معي، أرادت أن تعرف بأمر مجامعتي، وعدد المجامعات الأسبوعية، وتاريخ عادتي الشهرية، وإن كانت دورتي الشهرية منتظمة، بكيت بين يديها، ثم التزمت الصمت، لم أستطع البوح لها أن ابنها هو السبب، إنه لا يستطيع الإنجاب، لم تدعني لبكائي وتوسلاتي والكف عن التحقيق معي، أدخلت بعض النسوة المنتظرات خلف الباب، أوثقوني إلى السرير، عرّوني من ملابسي، وبدأوا بالبحث عن سبب وجيه ومقنع لتأخري عن الحمل، بكيت وتوسلت، حاولت التملص ولم أستطع، ناديت ناصيف لكي يخلصني من أيديهن الشرسة، لم يرد سماعي، لم يأت، لم يخلصني من الأيدي التي أباحت لنفسها استباحة كرامتي، وشرفي، وخجلي، لم أدر على ماذا بحثن داخل رحمي… استباحوا خصوصياتي، وغبت عن الوعي”. (دينا سليم، الحافيات، ص ٤٦).

يفسر عبد الله الغذامي سلطة الحماة على زوجة الابن إلى أنه نوع من الاحترام والاهتمام تكسبه المرأة بالأمومة، فيقول إن الأمومة “وجه للتقديس والاحترام يصل إلى حد منح المرأة سلطة داخل الأسرة تمارسها ضد النساء من جنسها (الحماة/ زوجة الابن). إن الحماة في ثقافتنا الاجتماعية، تملك سلطة قائمة على علاقة الأمومة التي تربطها بالزوج والابن، فتتحول إلى امرأة ضد امرأة، تملك سلطة قد تخوّلها إلى تطليق الزوجة، أو منافستها في مقدار العناية التي يمكن أن تنالها ماديا وعاطفيا” ٢. ودينا سليم بطرحها لقضية سلطة النساء على النساء فإنها ترفض صورة الأمومة المقدسة التي اكتسبتها المرأة من أعماق التاريخ “بوصفها أرقى أوضاع المرأة وأحسن حالاتها” ٣ لأن الأمومة فيها تُسلب من امرأة أخرى غير قادرة على الإنجاب، كيانها وحقها في الاحترام، مما يجعل زوجة الابن التي لم تنجب واقعة تحت سلطة قهرية مشابهة للسلطة الذكورية، فالمجتمع الذي أعطى الرجل قدسية، وأكسبه سلطة على المرأة، يعطي الأم قدسية، ويكسبها سلطة ” تعبّر عن علاقة معقدة، تتدخل فيها ميزة الأمومة كأساس وشرط موضوعي لممارسة الاضطهاد من طرف المرأة على امرأة أخرى” ٤، تمكنها من خلالها التحكم بمصائر زوجات الابن، وتخولها التعدي على حرماتهن، ولا يستطيع أحد التعدي عليها أو ردها.

. 1 دينا سليم، الحافيات، ص ٤٥

. 2 عبد الله الغذامي، الم أ رة واللغة، ١٩٩٦ ، المركز الثقافي العربي، بيروت، ص ٧٧

. 3 المرجع نفسه، ص ٧٧

. 4 المرجع نفسه، ص ٧٧

فيما بعد تنتقد وفاء في نفسها الأنوثة الخرساء، بأنها كانت مجرد جسد يستقبل اللغة ويخضع لها من جهة، ويرسل علامات صامتة خاضعة من جهة أخرى ١. تتجلى أنوثتها الخرساء فيرضوخها أمام زرع حياة في رحمها من رجل مجهول أخذت “منيه” من “بنك الزرع”، ويسر أهلها، وزوجها هذا الزرع، ويتباهى الأخير به على أنه منه “اقتدتُ كشاة أعدت للذبح، وكان الاتفاق مع القيمين بأن يكون الزرع لرجل أبيض اللون، وكان ذلك، اُخذتْ من أحدهم منيّ الحياة، ووضعوها في جوفي، مجهول الهوية يكون من حملتُ منه، وزوجي الماثل أمامي يتفاخر بمنيه الكاذب، يتفاخر بألاّ عيوب لديه، بأنه رجل متكامل، خلوق، حنون ومخلص، وصبر كثيرًا على تأخري بالإنجاب” ٢. هي أنوثة صامتة، ترفض وتحتج بصمت “لو أستطيع أن أسألها وتجيبني – تقصد والدتها- أسئلتي كثيرة وكبيرة، لو تستطيع منيرة الإجابة عن أسباب إقناعي بالزواج من ابن عمي أولا، لو تجيبني عن الأسباب التي دعتها لتأخذني إلى “بنك الزرع” لاختيار زرع مناسب من رجل  مجهول لكي أنجب لناصيف…” ٣.

تحاول “وفاء” رفض الزرع، إلا أنها عندما ترفض، تلاقي الضغط من أهلها وعائلة زوجها، فتزرع للمرة الأولى لتثبت أنه ما من عقم فيها، والعقم عقم الزوج، والمرة الثانية تزرع؛ لتؤكد أن زوجها قادر على الإنجاب، تقول منيرة – والدتها – لوفاء: “يجب أن تبرهني للجميع أن ماهر من ناصيف، وأن الأخير يستطيع الإنجاب، فهناك شكوك تحوم حول هوية الطفل” ٤.

في نهاية قصتها، تتمرد وفاء على سلطة الزوج، الذي رفض التحدث عن عقمه، والذي تفاخر زورا بقدرته على الإنجاب، وحمّلها العبء كاملا، رغم أن تمردها يأتي متأخرا، بعد وفاة والدتها.

1 انظر: عبد الله الغذامي، ثقافة الوهم: مقاربات حول الم أ رة والجسد واللغة، ١٩٩٧ ، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء،ص ٦٤

. 2 دينا سليم، الحافيات، ص ٤٨

. 3 المصدر نفسه، ص ٤٤

. 4 المصدر نفسه، ص ٤٩

إلا أنها تتفلت منه ومن حكمه في العزاء، وبعد الوفاة ، تنسى الجنازة والمراسيم، تغلق الباب عليها، لتجد نفسها في لحظات الكشف، والحلم، والفضح بعد مراسيم دفن مؤلمة “لن أكذب على نفسي، لن أقول سوى الحقيقة، لقد أهدرت حياتي وهذا ما أشعر به الآن وأنا واقفة أمام المرآة، والنور المشع يغتال الحجرة الكبيرة، تتسع لعدد هائل من الجيوش التي تركت بنادقها تحت سريري الزوجي، معبأة بالرصاص ومصوبة نحوي” 1.

في الرواية أيضا تكشف “وفاء” عن شخصية والدتها “منيرة”، فهي تكشف المسكوت عنه في أحاسيس والدتها/ المرأة، فوالدتها أيضا تُجبر على الزواج من والدها، ويكون حلم والدتها الغناء، يمنعها زوجها من ذلك عندما ينتقل من الريف إلى المدينة، حتى لا تتأثر بشوائب المدينة. تصف وفاء منع والدها لها بالتمرد، والتمسك بالعقائد البالية “تستمر معاناة منيرة بينما تحاول التوفيق بين هوايتها الأحب على قلبها وأصدقائها الكثيرين الذين التفوا حولها مشجعين، أو الحفاظ على أسرتها، وزوجها الذي وصل تمرده أقصى حدود حرمانها مما تحب، أصرّ على موقفه متخذا عقائده البالية حجة لذلك، خاصا بالذكر أنهما جاءا من القرية، ويجب عدم التمرغ في تراب المدينة” ٢.

تواجه منيرة كبتها وتتمرد عليه، لكن بالصيغة الأبشع، وهي الخيانة الزوجية التي تصفها وفاء فيما بعد ب “لغز”، في حين تعامل منيرة زوجها مع لغزها ” تغيرت معاملته فأصبح سلبيا، لا أذكره إلا مخمورا، غليظ اللسان، أجش المعاملة، عامل أهل بيته بسلطوية غير متناهية، صرخ، وضرب، وأهان” أرادت أن يمنحها بعض الحرية، فرفض، أن يمنحها فرصة لتكون مغنية مشهورة، بعد أن تعرفت على فرقة موسيقية تعمل في الإذاعة، منعها من مزاولة هوايتها، وضيّق عليها الخناق فهربت منه مجددا، لم تعد إلا بعد أن تفاجأ بسماع صوتها من الإذاعة، فما كان ردة فعل زوجها سوى التنكر والخجل منها”.

السؤال هنا، ما الذي أرادت دينا سليم أن تقدمه على لسان بطلتها؟، وما الذي أرادت الكشف عنه؟ إنها تقدم خيانات الزوجة وأخطاءها بألفاظ ضعيفة ومنكسرة “الحرية، لغز” لتبحث عن تعاطف القارئ معها، في حين تصف ردة فعل الزوج لخياناتها المتكررة بالسلطوية، وانتظرت منه أن يعامل زوجته بإيجابية. يرى كل من إلهام طه ومصلح النجار في بحث بعنوان “الأدب النسوي والنقد النسوي” أن “اشتغال النساء على إبراز السلطة الأبوية، والزوجية، بصورة بطريركية قاسية لن يفضي إلى تحرر المرأة  واستقلالها، وسعادتها؛ لأن التفريط بسلطة الأب سينعكس سلبا على الرجال والنساء، وسينال من فكرة النظام في الأسرة، وفي المجتمع، مما سينعكس سلبا على سعادة الطرفين معا” ٢. وهذا ما حدث فعلا مع منيرة في الرواية، فعلى الرغم من انفلاتاتها المتعددة بحجة البحث عن الحرية، إلا أنها فرّطت بالسلطة البطريركية داخل المنزل، مما جعل حياتها مع زوجها شبه مستحيلة، هاجسها الأوحد فيها الانتقام “مرت السنين عليها قاسية، تخلت عن أحلامها، أجهضت مخططاتها، وبدأت تكرس جل تفكيرها في الانتقام من زوجها الذي حد من تحركها ووضعها في شباك، وقيود عقائده البالية، جانب التزاماتها زماتها الزوجية”.

لقد كتبت سليم لترفض جملة من القضايا الاجتماعية في روايتها و”اتجهت اتجاها معاكسا، وأدارت ظهرها للتقاليد وللأسرة، منتقدة ما في حياتها من زيف اجتماعي، يجعل المرأة تعيش حياة غير حياتها وتحيا عمرا غير عمرها”.

. 1 دينا سليم، الحافيات، ص ٤٠

. 2 إلهام طه حسين ومصلح النجار، الأدب النس وي والنقد النسوي، ص ١١٣

. 3 دينا سليم، الحافيات، ص ٤١

. 4 ابراهيم خليل، من الاحتمال إلى الضرورة، ص ١٢٤

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*