مقدّمة كتاب عصر المؤامرات لعمر رزوق الشامي – بقلم سعيد نفاع

عمر رزّوق الشامي نبيّ غضب
ولكنّه شاعر تقليديّ بالشكل والجوهر!
دفع أليّ الشاعر عمر رزّوق الشامي مجموعة شعريّة أقدّمها، تحمل العنوان: “عصر المؤامرات”. أوّل ما أقترح عليه تغيير العنوان غير الشعريّ ولا الشاعريّ، وفي قصائده مخزون جميل غنيّ من العناوين الشاعريّة والشعريّة ظاهرًا وضمنًا، والضمنيّ منها: لهيب غضب أو ثورة غضب، والظاهريّ: صمت ودموع، آلام تشرين، شجى الأيتام ونزيف.
لا أكتب هذه المقدّمة كناقدٍ فلست كذلك، ولا أكتبها كشاعر ولست كذلك، أكتبها وقد وقع عليّ الاختيار دون خلق الله، كقارئ وكاتب. أن يتناول كاتب ليس هو بناقد انتاج شاعر ليس تقليديّا وليس سهلًا، وبغضّ النظر، فقد قبلت مبدئيّا وليس خجلًا من أو إحراجًا في وجه رفض، قبلت وبعد أن قبل الشاعر منّي تحفّظي الأوّل الكان مشروطًا بقراءة أولى، قبِل وعاد وأخذ المجموعة مع الكثير من “الخربشات الرصاصيّة”.
حين عاد “توكّلت على الله” ودون أن اقتفي أثر “الخربشات” وذمّتي بريئة والمحو في رقبة من محاها. في قراءتي الأولى والثانية هذه وجدتّني أكتشف “عُمرَ” شاعرًا متمكّنا يناطح في غالبيّة قصائده الشعر العمودي بعناد لافت في زمنٍ نظم الشعر العمودي ليس بالمهمّة السهلة، وقد كانت غزت مرابعنا “القصيدة” النثريّة مهرة أصيلة وإن شكّ في أصالتها كُثر، ولكن أظنُّني أن روّادها، وعظامهم رميم، يلعنون الساعة التي أطلقوها فيها وقد راح يعتلي ظهرها “خيّالون” ممّن هبّ ودبّ فانكفأت، إذ أنّ المهرة الأصيلة تأبى الانطلاق إلّا إذا امتطاها الفرسان.
حقيقة وكقارئ فاجأني عمر، فنظم القصيدة العمودية يتطلّب القدرة الشاعريّة والمخزون اللغوي الغزير وإلّا صارت أبياتها مليئة بالحشو، وعمر تحلّى بالأمرين وليس المعنى أنّه كامل الأوصاف، ولكنّ نظمه تحلّى بالكثير منها. لكنّي وجدتني أمام شاعر تقليديّ حتّى النخاع شكلًا وجوهرًا. حاول الشاميّ أن يراعي في قصائده ما قيل في القصيدة العموديّة فتراوحت محاولته بين نجاح وأقلّ نجاح، ولكن بالمجمل، وأقول ذلك كقارئ متذوّق، حالفه النجاح.
قيل في القصيدة العموديّة: ” تُعدّ من أرقى وأجملِ أنواعِ الشعر العربيّ، وأكثرها سموّاً ورفعةً، فمن خلالها يتبارى الشعراءُ في مقدرتِهم الشّعرية، وعمق أحساسهم، وسلاسة تعبيرهم، وقوته.”
عند الشاميّ يوجد من كلّ ذلك وإن بتفاوت!
وقيل: “تعتمد على المضمون، والشكل معاً؛ حيثُ يُكمّل أحدهما الآخرَ. تُعتبَر مفرداتُها من أكثرِ القصائدِ الشعريّة صعوبةً، وقوةً، والدّارس لأصل اللغة الأمّ بتمعّن قد يَفهم ما جاء في بعض منها، ويجهل الآخر، لما فيها من ثِقَلٍ لُغويّ، وبلاغةٍ شعريّة”.
الشاميّ لم ينجح دائمًا في المواءمة بين المضمون والشكل!
عُمر وقد محور الغالبيّة العظمى من قصائده حول موضوع واحد؛ “الزمن العربيّ الرديء” بحكّامه وشيوخه وناسه، جعله هذا التمحور في الكثير من المواقع مكرّرا، حتّى لتجد أنّ بعض الصياغات وما تحمل من قول منتشرة في كمّ لافت من القصائد وأحيانًا بنفس الكلمات.
عبّ عمر جام غضبه حتّى الثمالة وصبّه على حكّام هذه الأمّة وشيوخ هذه الأمّة ودون أن يحيد عن الأمّة نفسها، يعني وضع عمر “الحدّ في مارسنا” ولم يذهب وراء البحار يفتّش عن متّهم إلى إذا دعته حاجة موضوعيّة، وبالقدر الذي لا يغطّي على عيوبنا نحن. الخيط العابر بكلّ قصائد المجموعة هو هذا، ولعلّه بالغ في ذلك “حبّتين”!
نقرأ غضب الشاعر ومواضع غضبه في عناوين القصائد، وهاك عيّنة: “نسل زانية”، “سرّ المذلّة”، “ملوك وأمراء الفجور”، “كلاب الغرب”، “أعراب بلفور”، “سقوط الأمّة”، “فصول العهر”، “نزيف أمّتنا”، “طعنة أخي الدامية”، وهكذا. وأمثلة من أقوال الغضب “الساطع”:
في قصيدته الثانية “نسل زانية”، يقول:
فخرُ الأمير بعيرٌ دكّ ناقته … هذا وذاك غذاه العُشب والعلفُ
إنّ الشهامة في الأعراب فاجرةٌ … لها رؤوس على النهدين تنكشفُ
لا الحكم يترككم يا نسل زانية … لكنما العِرق فيكم فارق الشرفُ
ويضيف في قصيدته “سرّ المذلّة”، قائلًا:
سرّ المذلّة أنّنا في أمّة … تهدي إلى درب التفاهة جيلا
وطني نقشتك في فؤادي وردةً … لمّا أضأتك في السما قنديلا
لا تنتظر جمع التّقى من أمّة … تضع الحقيرً على الكريم وكيلا
وفي “ظلم وبلادة” يقول:
ظلمٌ وظلامٌ وبلادة … فجرٌ وخمورٌ ووسادة
وملوك تتّجر بدمائي … وتؤوب بغمزة قوّادة
وفي “الشيوخ الحاخمات”، يكتب:
أتانا الشيخ في وقت عصيبٍ … يدسّ لنا الفتاوى في الحِمال
كأنّ الشرعَ فتوى في حياضٍ … وأبكارِ الشهور رؤى الهلال
وفتوى للذبابة فوق زاد … حرام قتلها أو في حلال
يظلّ عمر رغم غضبه على الأمّة ورعاتها، متفائلًا، فيقول في قصيدته: “فحيح المُطبّعين”:
مهما تمادى الغدر في إجرامه … فلسوف يُزهر في البلاد ربيع
أبدًا ستبقى القدس وجهة سيرنا … ما دام فينا صارخ ورضيع
وفي “تطبيع وقلّة حياء” ” يكتب:
ستظلّ أرض القدس تروي أهلها … نسغ الشهامة من سريّ الماء
ولسوف يعلو في البلاد نشيدها … أنا للعروبة مسجدي وقبائي
في “حكّامنا الأنذال” يقول:
هل يهدر السيل إن غاضت منابعه … أم يخفق الرحم إن بادت به النّطف
لا يزهر الغصن إلّا حين يطعمه … جذر هنالك خير الأرض يرتشف
هزّي نخيلك يا أسوار واحتسبي … لن يسقط الخير حين العزّ يختطف
شمس الحضارة عن أعرابنا غربت … وسوف تشرق إذ يرجع لها الشرف
وللشام عند “الشاميّ” حصّة أسد، فيتناولها في قصائد عدّة ففي القصيدة “دموع الأقصى وأنين الشام” يكتب:
أنا للشّام حبّي وانتسابي … ومن شغف الشآم فهل يلاما؟!
فإنّ ترابها الشاميّ قدس … له يدعو الحبيب وفيه هاما
وتغنّى الشاميّ بفلسطين، فيقول في قصيدته “فلسطين يا أمّي”:
أرضي فلسطين، فالوجدان مرتاح … وعشقُها لامسَ الأضلاع نضّاح
شممتها وطنًا ينساب في بدني … فأزهرت ركَفًا للبرّ يجتاح
يا نحلة في خبايا الرّوض مبدعة … بشهدك النور ترياق وجحجاح
الشامي أيضًا مؤمن ومتديّن فالتّناص القرآني هو خيط وريد بين القصائد، ويلجأ في غضبه إلى الله متسائلًا تساؤل المؤمن مناجيًا كما في قصيدته “يا ربّ إلى متى؟”.
أعتقد أنّ الشامي بهذه القدرة “النظميّة” والمخزون اللغويّ الكبير الذي يملك، يجب أن يخرج عن تقليديّته، ويبحر في فضاء الشعر الواسع وعينيّا القصيدة النثريّة بلبوسها الأصيل وليس “المْرقّع بِتاع آخر زمن”، ولديّ الثقة أنّه سيكون بحّارًا ماهرًا متحرّرا من الكثير من قيود القصيدة العموديّة وليس على حساب المضمون، وقصائده العموديّة دليل.
في مقال لي حمل العنوان، “هل الرسالة الأدبيّة في إنتاجنا تعاني الضُّمور؟!”. كتبت فيما كتبت:
يبدو لي إنّ ما يعتور حياتنا الفكريّة والوطنيّة والاجتماعيّة في العقود الأخيرة من ارتجاجات (درجة 7 وما فوق على سلّم ريختر!)، جعل الانكفاءَ شبهَ الكليّ نحو الذات ديدَنا وبالتالي أسقط على أدبنا آخذا إياه نحو مدرسة أو نظريّة؛ “الفنّ للفنّ” استراقا وتسرّقا وعلى الغالب كمَثَل الغراب والحجل، فتضعضعت مكانة الرسالة الأدبيّة، وقد اتخذ الكثيرُ من النصوص أشكالا لا تتعدّى الصناعة الفنيّة وإخراجَها وأداءها، وربّما اتخذتها هكذا من حيث لا ندري انسياقا وراء الارتجاجات في المُثل والقيم أعلاه، اللّهم في لمحة في النصّ هنا وأخرى هنالك وضربةِ ريشة في اللوحة هنا ومثلِها هناك، وفي الكثير من الأحيان “تجمّلا”، فتجيء هذه اللمحات والضربات حشوا صارخا يسيء حتّى لمثل هكذا نصّ فنّه للفنّ.
قيل في الرسالة الأدبيّة:”رسالة الأدب ينبغي أن تزرع في قلوب أبنائها الشعور بالمسؤوليّة التي تحتّم عليهم أن يتجشّموا الصّعاب، ويأمنوا على أنفسهم مصارع الفِتن… ويزرعوا قيمة الأدب أخلاقا وآدابا قبل الالتزام بقواعده تعبيرا وأداء.”
وقيل: “رسالة الأدب العربي، رسالة مقدّسة يجب ألا تقتصر على الأغراض اللفظيّة، ولا المُتعة الذهنيّة، ولا المعاني الذاتيّة التي لا يشعر بها إلا الأديب المتكلّم نفسه، إنّها رسالة ومفهوم هذا اللفظ ممّا ينبغي ألّا يغرُب عن البال، فهو مهمّة تقتضي الهدم والبناء…”
أدّعي: إنّ الرسالة في النصّ الأدبيّ؛ هي الهدف الأسمى وبالتالي هي المقياس وهي المعيار لقيمته وقلّتِها، وقوّته وغيابِها، وأهدافه وضياعِها. الافتقار إلى الرسالة غيابا أو تغييبا، أو “كشوحها”، أو عدم وضوع عنوانها أو عدم وضوح ما نريد لهذا العنوان ومنه وهذا هو الأهمّ، كلّ هذه إن اعتورت النصّ تجعل من النصّ الأدبيّ “طقْع حَكِي” ومهما جمُل لبوسه بفاقع الألوان وعلا رَنينُهُ بمنغّم الألحان، فلن يشفع له لا جمال اللبوس ولا عذب الرّنين.
هذا هو التحدّي الأساس أمام حملة القلم، فإن انكفأت أقلامهم في نصوصها في وجه هذا التحدّي؛ ضمورَ رسالة أو كشْح رسالة أو حتى غيبةَ رسالة، فهذا خطأ ما زال يمكن إصلاحه، ولكن إن حَمل الانكفاء “تغييب رسالة” فهذه خطيئة لا تُغتفر لا بل جريمة جزاؤها حرق الأقلام والأوراق وليكن الحبر الوقود.
أدّعي: إنّ الرسالة الأدبيّة روح النصّ الأدبيّ، هي أولا وآخرا القضايا الأساس في حياتنا، والقضيّة الوطنيّة ومعوّقات رقيّها هي قضيّتنا المركزيّة كانت وما زالت وتصطخب اليوم أكثر، وإن افتقد النصّ مثل هكذا رسالة، والرسالة ليست فقط قول هي قول وفصل قول، إن افتقدها قلّت قيمته وضعُفت قوّته وضاعت حاجته. هذا هو المعيار الأهم لرقيّ أي نصّ أدبيّ وقبل وفوق كل المواصفات الأدبيّة النقديّة وبالذات المستوردة منها.
نصوص الشامي غزيرة بالرسائل الأدبيّة ولكنّها تقل غزارة في طريقها إلى المخارج، وهذا الجزء هو الأهمّ من الرسالة الأدبيّة. فلا يكفي توصيف الحال كجزء من الرسالة الأدبيّة وإنّما يجب الإشارة إلى طريق الخروج في أضعف الإيمان!
أو بلغة ما قيل، فالرسالة مهمّة تقتضي الهدم والبناء!
سعيد نفّاع
الأمين العام للأدباء الفلسطينيّين – الكرمل48
أوائل أيلول 2021

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*