متنفَّس عبرَ القضبان (40) حسن عبادي/ حيفا

 

بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى أحرار يكتبون رغم عتمة السجون في شهر حزيران 2019؛ ودوّنت على صفحتي انطباعاتي الأوليّة؛

عقّب الصديق الخليليّ مفيد شرباتي: “سرد جميل وتوصيف دقيق صديقي حسن، لكن كلماتك أقوى من الرصاص بتوصيف آلامهن وأوجاعهن؛ أسيراتنا الماجدات فلعل ألم الإهمال الشعبي أكثر وجعًا من إهمال الاحتلال الطبي والمتعمّد، فهنّ زهرات تحترق في أفران الاحتلال في ظل التراجع الشعبي والصمت الرسمي والتواطؤ الدولي، وما أشبه الدامون بسجن أوشڤتز النازي. الحرية لهن جميعاً، ودمت يا صديقي، فأنا لا أراك محاميا، ولا ممثل مؤسسة في اهتمامك ومساندتك لعموم الحركة الأسيرة، وبهيك جهد جبار الذي تقوم به أنت فعلا الفيلق الثامن في مسيرة الحرية والتحرير وبعدين بخبرك شو يعني فيلق ثامن. أنحني احتراما وتقديراً لجهودك ومثابرتك في خدمة الأسرى والأسيرات داخل سجون الاحتلال من الاهتمام بأن يرى أدبهم وابداعهم النور أو بإيصال كل أشكال الإنتاج الأدبي اليهم داخل عتمة الزنازين أو بزياراتك المستمرة  والتي تنفخ فيهم روح الأمل بالحرية والفرج القريب”

وعقّبت الكاتبة أسماء ناصر أبو عيّاش: “أخي وأستاذي الرائع والله يلجم اللسان ويجف القلم لدى محاولتي التعقيب في كل مرة على عذابات أسرانا وأسيراتنا.. ما أعظم ما تقوم به! ومن قلبي أقول أعانك الله وأنا معك بكل إمكاناتي لنعلي الصوت علّ العالم يسمع ويتحرك.. لفلسطيننا دم القلب ولأحرارنا شمس القدس والنصر وساحات فلسطين”.

“حاسّة حالي مروّحه”

بُعيد مشاركتي في معرض الكتاب الدولي بعمان كانت زيارتي صباح الأحد 03.10.2021 لسجن الدامون في أعالي الكرمل الأشم؛ التقيت بدايةً بالأسيرة مرح جودة موسى بكير مرِحة، وراق لي مشهد تداولها لأمور إداريّة مع السجّانين في باحة السجن بحكم كونها “الدوبِرِتْ”، ممثّلة القسم أمام الإدارة.

نقلت لي بداية سلامات زميلاتها في الزنزانة، بشرى وياسمين، وشكَت من انقطاع بثّ إذاعة الأسرى التي شكّلت وسيلة تواصل مع الأهل والخارج.

تحدّثت بحِرقة عن غياب الاهتمام بملفّ الأسرى على الساحة الفلسطينيّة، وأهميّة العمل على ملف الإداري ومتابعة ملف الإهمال الطبّي.

قالت لي فجأة: “حاسّة حالي مروّحه، كلّها سنتين ونص”، ويؤلمها بأن بعض زميلاتها سيبقين في الأسر، وحدّثتني عن الوفاء للأشخاص الذين غادروا السجن، فنادي حلوة ما زال يحمل الاسم، وتديره تسنيم.

حدّثتني عن القراءة خلف القضبان والعصف الفكري والثقافي مع زميلات الأسر ووعدتها بإيصال “رسائل إلى قمر” و”أسرى وحكايات” حسب طلبها.

وكذلك محاولات الرسم والكتابة، خواطر وتوثيق تجربتها الاعتقاليّة وما مرّت به.

كبُرت الطفلة مرح، ولم يكسرها السجّان، بل زادها قوّة وأملًا بمستقبل مشرق.

“شمس في الزنزانة”

بُعيد لقائي بمرح أطلّت الأسيرة المقدسيّة أماني خالد الحشيم مبتسمة، ومباشرة بعد تبادل التحايا باغتتني بالسؤال عن صديقي حسام زهدي شاهين ووضعه ممّا قصّر المسافات.

أسرت أماني قبل مناقشة الماجستير بيوم واحد (استراتيجيّات وتواصل دولي)، وكانت رسالتها بعنوان “السفراء الصغار لأجل القدس”، حدّثتني عن شغفها بتعلم اللغات، وها هي تتعلّم الإسبانيّة من زميلتها خواني، وتُدرّس الجامعيّات في السجن مع شذى عودة ومنى قعدان.

حدّثني عن ولديها أحمد وآدم (عمر أحمد ثلاث سنوات، وآدم أربع سنوات حين الاعتقال)، يكبران ومحرومة من احتضانهما ساعة الزيارة (في الأسر منذ 13.12.2016) وصوّرت لي بحرفيّة متابعة نموّهما وطولهما ورسمهما على حائط الزنزانة، ملامحهما وهما يكبران وأسئلتهما الذكيّة من لقاء لآخر واهتمام آدم بالحاسّة السابعة.

ناقشنا مشروعها الكتابيّ، “العزيمة تربّي الأمل” و”شمس في الزنزانة” ووعدتها بأنّ فراس حج محمد وصالح حمدوني سيهتمان بمراجعة العملين وتنقيحهما وتنضيدهما ومتابعة الأمر حتّى يريا النور، وتحدّثنا مطوّلًا عن مبادرة “لكلّ أسير كتاب” و”أسرى مبدعون”.

كان لقاءً مغايرًا!

“بِدّي أروّح”

بُعيد لقائي بمرح وأماني أطلّت أسيرة مقدسيّة أخرى؛ نوال محمد فتيحة بخطى متثاقلة، مكبّلة اليدين، ورغم احتجاجي لم تُفك القيود اللعينة.

اعتقلت يوم 21.02.2021 ورغم معاناتها الصحيّة والنفسيّة ترفض سلطة السجن السماح لها بالعلاج، تعاني من التنكيل والمضايقات كغيرها من المقدسيّات، تقبع في زنزانة فيها كاميرات مراقبة على مدار الساعة، على حدّ قولها.

تعاني نوال من اكتئاب دائم، وتشعر بالندم من تصرّفها مع العائلة أثناء الزيارة الأخيرة، وكذلك تجاه زميلاتها بسبب ظروف الاعتقال القاسية. ورغم ذلك بدأت تقرأ في السجن، تقرّبت من عالم الرواية فجاءها الأمل بمستقبل أفضل.

لم تنم خارج منزل العائلة من قبل، تفتقد لمّة العائلة والصديقات والأقارب، عزلتها قاتلة وتزيد وضعها سوءًا، وجبل المكبّر يبدو لها بوجه آخر ممّا اعتادت عليه وصار له حنين خاص لم تشعر به من قبل. السجن غيّرها وقلب حياتها رأسًا على عقب.

كلّ بضع دقائق، خلال اللقاء، صرخت: “بدّي أروّح!”.

لكن عزيزاتي مرح، أماني ونوال أحلى التحيّات، والحريّة لكن ولجميع أسرى الحريّة.

أكتوبر 2021

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*