حدائق جبريل فحماوي
يصوّر لنا الروائي صبحي فحماوي بمنظار مهندس الحدائق جبريل عرسال الحياة في مدينة إرم ذات العماد المحاطة بمخيّمات اللجوء من فلسطين وغيرها، يشيّدها ويبنيها على ذوقه ومن وحي خياله، مركّزًا على قصورها وحدائقها (رواية “حدائق شائكة”، 245 صفحة، الأهليّة للنشر والتوزيع، 2021).
هناك عدّة محاور في الرواية جديرة بورقة عمل مستقلّة؛
وعلى سبيل المثال، لا الحصر، تناول الكاتب لظواهر اجتماعية واقتصاديّة يعاني منها العالم العربي، وصارت علامة فارقة لشرقنا، مثل الرشاوى، صغيرة كانت أم كبيرة، وغيرها،
تناوله وضع المرأة في الخليج العربي، الزيف الاجتماعي والغش والخداع، ازدواجية المعايير وغيرها، وهذا موضوع بحاجة لدراسة بحدّ ذاتها.
النكبة والتهجير التي تلاحق اللاجئ الفلسطيني أينما كان، المعاناة الفلسطينيّة ومخيّمات اللجوء الحاضرة في الكثير من أعماله؛ “عذبة “،”سروال بلقيس”، “قصة عشق كنعانية”، “محرمتان ومحرم” وغيرها، يصوّر فيها معاناة التهجير والتشريد والفقدان، وما يحمله من ألم وأحلام وأمل، فيقول: “كان المشتّتون من فلسطين تدفيشًا وتعذيبًا وقتلًا للصامدين منهم يتدفّقون على هذه المدينة النابتة من بين رمال الصحراء (ص. 16)، “لا أشتهي سوى النقود.. لتحقيق مستوى معيشي يحفظ كرامة أهلي القاعدين في انتظار العودة في فلسطين” (ص.26)، ويتحسّر جبريل حين يرى صورة ساندرا الإنجليزيّة بالمايوه البكيني: “لم أسبح في البحر، لأن الصهاينة احتلوا بلدنا حيفا، وطردونا من البحر، وقللوا من بقي صامدًا في قريتنا، فحرمونا من مشاهدة مايوهات البحر هذه، التي أخجل حين أراها، خاصة وأنّني فلّاح من غابات الكرمل”(ص. 62) (والله يا صبحي، إم الزينات مشتاقة لأهلها!!!) وحين تناول مخيم الدامور لمشرّدي تل الزعتر بعد المجزرة (ص. 122-3)
توظيف ثقافة الكاتب الموسوعيّة فجاءت بنيويّة سلسة وليست استعراضيّة كاتبنا مثقفّ يستلهم بمحمود درويش:
“لا ينظرون وراءهم ليودِّعوا منفى،
فأمامهم منفى،
وقد ألِفوا الطريق”.
ناظم الغزالي، نجاة الصغيرة، فهد بلان، غابريل غارسيا ماركيز، بوشكين، بلزاك، ديستويفسكي، نزار قباني وغيرهم؛
تعرية العولمة التي نتشدّق بها رُغم أنّها تغني الغرب وتُفقِر الشرق مستغلّة موارده الطبيعيّة لمصالحها الاقتصاديّة، فصار العرب “طبعًا هم يستوردون، ولا يصدّرون شيئًا، سوى خيباتهم”(ص. 87)، ونجده يثور ضدّ “الأمركة والتأمرك”(ص. 156).
مشروعه الكنعاني المتواصل المتكامل؛
موقفه من التطبيع والأسرلة (ص. 179)؛ فيقول بحسرة “بعد محاولة التطبيع والتكرار، يتعلم الحمار.. فيصبح مُتَطَبِّعًا يحمل الغُلبَ والمرار..”
تبدو الرواية للوهلة الأولى وكأنها “اجتماعية”، ولكنّها تُعرّي الأثرياء الجدد والفقاعة التي يعيشون فيها وموبقاتها، فكل شي فرنجي برنجي؛ “الناس يزينون قاعاتهم بنباتات داخلية مستوردة، ويتنافسون بزراعة نباتات زينة أوروبية أمام محلاتهم، وفي حدائقهم، رغم أنهم لا يعرفون حتى أسماءها”. وغيرها.
وفي هذه المداخلة سأركز الحديث حول ثلاثة محاور:
– المحور الأوّل: السخرية السوداء
يستخدم الكاتب السخرية السوداويّة لتصوير الواقع المرير وتعريته؛ فيقول: “تجد الأغنام والماعز البلدية، ترعى بين شظاياها، وتأكل من أعشاب اليورانيوم المُنَضَّب وهي مُغلّفة بصوفها المصبوغ بتلوث البيئة البني أو الرمادي أحيانًا.. تجدها تحلب الحليب البلدي – البلدي الذي يحبه قلبك، وتقدم اللحوم البلدية الأصلية، المنقوعة بفوسفور بطاريات السيارات، وصدأ الأجنحة، ودخان الإطارات التي تشتعل فيها النيران”.
وحين يتحدّث عن اللاجئ الذي صار تاجر أراضٍ ومبانٍ ومن ثَمّ مدير بنك: “مديرا لبنك الوفاء الإسلامي.. الإسلامي، الإسلامي؛ ويقول لي: إنّ البيرة في الثلاجة.. اشرب منها وقتما تشاء”(ص. 38)، ويقول بحسرة سوداويّة من جزيرة هولنديّة خلّابة: “تصهل حولنا خيول عربية أصيلة لم تعد موجودة في بلاد العرب.. يا حسرتي..!”.
ووصل ذروته حين وصفت لينا مشهد ركوبها في حافلة النقل العام: “كان الركاب الواقفون أضعاف الجالسين.. ومن شدّة الضغط على جسدي الفائر من فوق ومن تحت.. كانوا يضغطون على جسدي من الأمام ومن الخلف، وبعضهم يضغط عليّ من أسفل إلى أعلى.. فوجدت نفسي أرتفع وأرتفع وأرتفع بين أصابع أيدي شبان تضغط علّي بقوّة من الأمام ومن الخلف…نزلت من الحافلة وأنا فائرة الشهوة” (ص. 66) (والله كثير هيك يا صبحي!!!)، وكذلك تدفيع صفاء للمُعيد الجامعي المتحرّش فاتورة العشاء عنها وعن صديقاتها الثلاث الذي كلّفه راتبه الشهري كلّه (ص. 73)، أو حين ذهبت لدكان (أبو شعبان) لشراء حفاظات نسائيّة لأمها التي حذّرتها من الفضيحة فخاطبته “أريد حفاظات دورة شهرية، لأبويي”(ص. 83)، وسخريته من القائد المناضل الفلسطيني الرمز الذي طلب توفير سيولة نقدية بمبلغ مليوني دولار تُصرف نقدًا “كي يرشُّها هكذا في ليلة واحدة على أُجرائه في فندق الخمسة نجوم.. لم يكن جيفارا أو هوشي منة أو ماو تسي تونغ يرُشُّ مثل هذا الرشّ حتى بعد انتصاراتهم!”(ص. 81). وكذلك حكاية أم عاصي واللحم البلغاري (ص. 110)
وتبلغ السخرية مبلغها حين يصوّر الحاج رائف البلغاري زيف المجتمع البرّاق (الشو، وشوفوني يا ناس) وبناء الحدائق المنزليّة البرّاقة “لا يرى الحديقة ولا يستمتع بها إلا أنت، الذي تتفنّن في تجسيمها وتنسيقها، وتبليط ممراتها وأدراجها، وتصميم نوافيرها، وزراعتها، وأما أنا فأدخل البيت كثور هائج، كل همي أن آكل لقمة، وأنام بعض الوقت، ثم أعود إلى أعمالي”(ص. 112)، ممّا جعل القنصل التجاري السويديّة كريستين مارتن تقول: “رغم أن بلادكم متخلّفة وفقيرة، إلا أن محلات الأزهار عندكم أكثر من المخابز” (ص. 119).
– المحور الثاني: اللغة السهلة والتعبيرات الشعبيّة
جاءت لغة الرواية “سهلة”، جميلة وسلسة، بلغة بسيطة تصل إلى القارئ العادي بسلاسة، بعيدة عن التعقيدات اللغوية وشد العضلات. فبعضنا يعقّدون حياتهم، فيحجبون الخير عن عقولهم، يتخندقون مما يعيق إبداعهم، وكما يقول ستيف تشاندلر في كتابه “مائة طريقة لتحفيز نفسك”: “معظم الناس لا يرون أنفسهم مبدعين وذلك لأنهم يربطون الإبداع بالتعقيد ولكن الإبداع هو بالبساطة”. فلنتوجه نحو التبسيط ولنبتعد عن التعقيد! وها نحن نجد صبحي فحماوي قد جمعت بين البساطة والإبداع… فجاء مبدعًا في بساطة لغته وبسيط في إبداعه الحدائقيّ والسرديّ، متبّلة باللهجة الفلسطينيّة وكان استعماله للأمثال الشعبيّة موفّقًا بامتياز، ممّا قرّب النص للمتلقّي؛ على سبيل المثال لا الحصر: “خُزقْ مخزوق، ومن الله مرزوق.. فلماذا تتضايق؟”، “دخّن عليها تنجلي”، “دُقّ الحديد وهو حامي”، “انحَنِ للعاصفة حتى تمر”، “يا جبل ما يهزّك ريح”، “لكل مقام مقال يا شاطر!”، “من يملك قرشًا يساوي قرشًا، ومن لا يملك، لا يساوي شيئًا”، “في الإعادة إفادة”، “الغريب للغريب نسيب”،” الدفع قبل الرفع”، “إذا وقع الجمل تكثر سكاكينه”
- المحور الثالث: توظيف أدب الرحلات
يطلّ علينا صبحي فحماوي بأدب “ترحال” من نوع آخر، أو أدب رحلات، إن جازت التسمية، من لون آخر…
يصوّر كاتب “أدب الرحلات” ما صادفه من أمور وأحداث خلال سفرٍ أو رحلةٍ قام بها لأحد البلدان، يتناول معالمها، عاداتها وتقاليدها، أهلها وتاريخها، يسجّل انطباعاته ممّا شاهده هناك، أمثال السيرافي ورحلته البحريّة إلى المحيط الهندي، والبيروني ورحلته إلى الهند، وسلام الترجمان ورحلته إلى جبال القوقاز، وشمس الدين المقدسي وكتابه “أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم”، والإدريسي وكتابه الموسوعيّ “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق”، إضافة إلى ابن بطوطة وغيره من الرحّالين؛ وها هو صبحي فحماوي يصوّر رحلات بطله بتفاصيل التفاصيل، كما فعل في باب الهوى وغيرها من رواياته.
يصوّر لنا الرحلة إلى آلسمير وهولندا؛ أهلها وعاداتهم وتقاليدهم ومأكولاتهم، مناقصة بيع الورود بالمزاد العلني، فلسفتهم الحياتيّة ونمط معيشتهم، تصوير بلاد الخضرة والمجوهرات والألبان ومزارع الأزهار، كأنني أتجوّل بمعيّة صبحي/ آسف، جبريل، يدًا بيد، في ربوع هولندا. (ص. 51-5).
كذلك الأمر بالنسبة لرحلته إلى هونج كونغ (ص. 93)؛ يصوّر لنا بكاميرته البانوراميّة المطار على حافة الشاطئ، مطاعمها وطقوس الشرب والأكل و(التشوب ستيكس)، الرحلات السياحيّة اليوميّة المنظّمة، صِدق المعاملة والأمانة، وتجارتها.
ورحلته إلى تايوان؛ بجغرافيتها وتاريخها ومعالمها، والرحلات الفندقيّة الكاشفة للتعرّف على البلد، بحلوها ومرّها، مأكولاتها ومطاعمها، عاداتها وتقاليدها، طقوس طبخ الأفاعي وأكلها، المبغى والمواخير.
وكذلك رحلته إلى فلورنسا الإيطاليّة؛ أشجارها الباسقة، خُضرتها الغامقة، الغواني والبغايا والصبايا أشباه العاريات فيباغته مضيفه: “أنت أول رجل عربي يرفض رؤية هذه الغواني، ويتجه للتفتيش عن أشجاره كما يفتش الرئيس حرس الشرف” (ص. 158) وطبيعتها الخلّابة. رحلة من نوع آخر.
همسات لا بدّ منها: لن أتناول التجنيس الأدبي للكتاب/ الرواية، وهذا الأمر سأتركه لصديقي فراس وللنقّاد المختصّين، ولكن راق لي توظيفه للجهاز الخلوي لتمرير فلسفته الحياتيّة/ السياسيّة ورؤيته لأمور الساعة وتصوّراته للمستقبل كشاهد على العصر ويتألّم لوضع أبناء شرقنا، بعيدًا عن النص وبمعزل عن مجريات الأمور (ص. 47-8 ، 86، 92، 116-8، 127-8، 206، 225، 239-40) فوجدته صاحب رؤية ورؤيا وينهي الرواية بإحداها: “أشاهد تفجيرات تضيء أقصى سماء الغرب… قرأت أن هجومًا سيبرانيًا عطّل مراكز الإدارة في مطار بنغوريون الذي كان اسمه مطار اللد… ملايين الإسرائيليين يركبون البحر.. مهاجرين إلى مواطنهم الأصلية التي جاءوا منها.. حيث أن المطارات كلها قد عُطّلت سيبرانيًا”.
وقع الكاتب في بعض الهفوات، فهناك أخطاء؛ عدم توحيد الأسماء: الشوكولاتة مثالًا، هونغ كونغ/هونج كونغ (ص. 93 ) صاحب رواية “الجميلات النائمات” هو الياباني ياسوناري كاواباتا وليس كما جاء في الرواية.
ولي بعض الهمسات لكاتبنا: الأوزو يتغيّر لونه إذا صببت الماء فوقه (ص. 58) وغابت عنك لأنّك “مِش شرّيب”! وأكلة السمك العراقي الشهيّة تُدعى “المسكوف” وليس “المسقوف” على حدّ قول أصدقائي العراقيّين علي بدر وعامر الطيّب.
وأخيرًا؛ أحسدك على تغزّلك بالنباتات والأشجار والحدائق كما جاء في صفحات الرواية.
حسن عبادي/ حيفا
*** مداخلتي في حفل إشهار الرواية يوم الاثنين 27 أيلول 2021 ضمن فعاليات معرض عمان
الدولي للكتاب