بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى أحرار يكتبون رغم عتمة السجون في شهر حزيران 2019؛ ودوّنت على صفحتي انطباعاتي الأوليّة؛
عقّب الشاعر صلاح أبو لاوي: “المعنويات العالية والمثابرة على القراءة والعلم داخل المعتقلات دليلان أكيدان على أن هذا الشعب لا يمكن هزيمته، وأن الحرية لفلسطين ستأتي من داخل القضبان لخارجها وليس العكس .كل التحية صديقي على جهودك الجبارة وخطاك التي تترك العشب خلفها”.
وعقّبّت الكاتبة النصراويّة إلهام بلان دعبول: “شكرا لمشاركتنا قضايا الأسرى والأسيرات أستاذ حسن. أنت تزيح السّتار عن الغطاء البليد لتفاصيل حياتهم وتجعلنا نتعرّف عليهم عن قرب. وهذا بحد ذاته عمل وطني من أرفع المستويات”
“جامعيّة رغم القضبان”
وصلت سجن الدامون الساعة الثامنة والنصف صباح 31 آب 2021 ، انتظرت في باحة السجن فأطلّت عليّ الأسيرة ميسون موسى محمود الجبالي مبتسمة، ترافقها سجّانة عبوس، فاجأتنني قائلة: “هاي الابتسامة منّي ومن صاحباتي، خلّيها تنقهر بزيادة”.
اعتقلت يوم 29.06.2015 من مقاعد الدراسة، طالبة لغة إنجليزيّة، في جامعة القدس المفتوحة، وها هي تعود لمقاعد الدراسة الجامعيّة خلف القضبان رغم أنف السجّان، خدمة اجتماعية بإرشاد أم يافا؛ تدير مكتبة السجن (تساعدها ياسمين وملك) وتقرأ كثيرًا لتستغلّ المروحة في غرفة المكتبة، وحلمها أن تشاهد فيلمًا سينمائيًا في السينما، للمرّة الأولى في حياتها، ويا ريت يكون فيلم “مولان”(Mulan).
حدّثتني عن راس الواد وجارتها الشواورة، شرقيّ بيت لحم، واشتياقها للعائلة (14 أخًا وأختًا) التي كبرت وتعرف غالبيّتهم من الصور، فهي آخر العنقود. وكذلك عن سماعهن خبر المظاهرة الاحتجاجيّة بقرب السجن عبر الإذاعة والفستان التضامني مع زميلتها الحامل في الأسر، أنهار الديك، الذي صمّمته الفنّانة رنا بشارة.
حدّثتني عن “نادي حلوة للحلوات” الذي تديره تسنيم بعد تحرّر حلوة، وعن حلقة القراءة، والكتاب الأخير كان رواية “رجال في الشمس”، وعن تجربتها الكتابيّة.
“طفولة سليبة”
بُعيد لقائي بميسون أطلّت الأسيرة مرح جودة موسى بكير مرِحة، بخطى واثقة، فهي “الدوبِرِتْ”، ممثّلة القسم أمام الإدارة، وراق لي المشهد حين قدِمت السجّانة لتستأذنها باستشارة إداريّة عاجلة.
اعتقلت يوم 12.10.2015، وكلّنا يذكر ساعة اعتقالها ـ طفلة (مواليد 29.01.1999) مصابة بأربعة عشرة طلقة ناريّة ومحاطة بجحافل الاحتلال، وما زالت الأوجاع تلاحقها، والإهمال الطبي نصيبها، ورغم طفولتها السليبة وصلت لقناعة بأنّ السجن مدرسة مِحَن، “يا بنجح يا برسب”، ومرح نجحت في الامتحان.
تستمد مرح قوّتها من دعم الأهل المتواصل، طموحة لأبعد الحدود، صارت جامعيّة خلف القضبان، حلمها أن تصير محامية لتدافع عن الظلم اللاحق بشعبها، وبدأت ترسم وتكتب تجربتها الاعتقاليّة وما مرّت به.
قرّرت مرح أن الخيار بيدها؛ أن تجعل يومها روتينيًا أو مختلفًا؟ فجعلته متجدّدًا ومختلفًا، كلّ يوم تتعلّم شيئًا جديدًا من الكتب ومن زميلاتها في الأسر.
حدّثتني عن قلقها من وضع أنهار الديك التي تقترب من الولادة خلف القضبان (آملة بتحرّرها قبل الولادة)، وفرحتها وزميلاتها بتحرّر ليان ناصر.
كبُرت ونضجت خلف القضبان لتصير يومًا ما تشاء، والسماء حدودها.
“أكلة سمك”
بُعيد لقائي بميسون ومرح أطلّت الأسيرة المقدسيّة شروق صلاح دويات، تلازمها ابتسامة عريضة، وبادرت قائلة: “بعرفك من قبل، من زميلاتي ومن التلفزيون” لتخفّف المسافات والبدايات.
اعتقلت يوم 07.10.2015، شهران بعد أن بدأت تدرس مادتي التاريخ والجغرافيا في جامعة بيت لحم حال تخرّجها بامتياز في التوجيهي، ثلاث رصاصات في الرقبة والصدر وما زال الوجع يلازمها حتّى اليوم دون علاج. تريد أن تتحرّر لتزور قبر خالتها منيرة، وعدَتها عبر الإذاعة بقعدة كعك على أسوار القدس وتوفيّت دون وداع، وها هي شروق تنتظر اللحظة لتأكل الكعكة معها على قبرها، ومن ثمّ على السور.
شروق نائبة مرح، تتابع الأمور وطلبات البنات وولادة أنهار المنتظرة داخل السجن، تدرس مع سبع زميلات دراسة جامعيّة بإرشاد خالدة ممّا يزوّدها بالأمل، وحلمها بجولة في الكرمل، جنّة الله على الأرض و”السجن مبشّعها”.
لم تنجح برؤية البحر من البوسطة بطريقها للمستشفى، فوعدتها بجولة في الكرمل وحيفا والبحر يوم تحرّرها، واشترطت أن نُطعمها أكلة سمك في ذلك اليوم المنشود.
حدّثتني عن القعدة الأسبوعيّة لمناقشة أمور القسم والتوافق على طلبات موحّدة تجاه الإدارة.
تقرأ شروق الكثير، ففي القراءة تعيش جو الكتاب، وبدأت تكتب الخواطر “وبطلّعها أوّل بأوّل”.
لكن عزيزاتي ميسون، مرح وشروق أحلى التحيّات، والحريّة لكنّ ولجميع أسرى الحريّة.
آب 2021