حياةُ الإنسان سلسلةٌ منَ الحلقاتِ المتداخلةِ المترابطة، كلُّ حلقةٍ تتّصلُ بالأخرى وتمنحُ السّلسلة مزيدًا من الطّول والاتّساع!
ومع ذلك، في حياة كلٍّ منّا محطّاتٌ بارزةٌ في مسيرة العمر، كان لها تأثيرٌ حاسمٌ في تشكيلِ مصيرِنا ومستقبلِنا.
إحدى تلك المحطّاتِ في حياتي كانت عندما تركتُ قريتيَ الوادعةَ كفر قرع الرّابضةَ على هضاب “الرّوحة” في المثلّث الشّماليّ، وانتقلتُ للدّراسة والتّعلّم في المدرسة الثّانويّة في بلدة الطّيرة الواقعةِ في المثلّث الجنوبيّ! (في حينه لم تكن مدرسةٌ ثانويّةٌ في بلدتنا!).
لا زلتُ أذكر ذلك اليومَ المؤثّر، وبالتحديد في ساعات ما بعدَ الظُّهر، عندما تجمهر الأهلُ؛ الوالدان والإخوةُ والأخواتُ، والأقاربُ والجيرانُ في ساحة دارنا لوداعِنا – أنا وزميل لي – في رحلتنا إلى البلدةِ الجديدة للدّراسة.
في السّاحة توقفتِ السّيّارةُ الّتي ستقلّنا، وبُدِئ بتحميلِ الأغراضِ والحاجيات الّتي تلزمُنا في المسكن الجديد:
سرير قديمٌ ذو أعمدةٍ حديديّةٍ، فرشةٌ منَ الصّوف، وسادةٌ ولحاف، بعضُ الملابس، زجاجةٌ من زيت الزّيتون، قطرميز/برطمان مملوءٌ بحبّات الزّيتون، بابور كاز/نفط، قنديل، عددٌ منَ البيضاتِ البلديّة ، بعضُ أرغفةِ الطّابون، القليلُ من الخضروات والفواكه…
كلّ هذه الأغراضِ وُضِعت في صندوقِ سيّارة الشّحن الّتي ستقلّنا إلى سكنِنا الجديد في بلدة الطّيرة.
أمامَ هذا الحشدِ الذي تجمّع وقفتُ، أنا اليافعُ ابنُ الرابعةَ عشرةَ، مذهولًا حائرًا، أتأمّلُ هذا المشهدَ المؤثّر!
كان والدي- رحمه اللهُ – يقرأُ آياتٍ منَ القرآنِ الكريم، ويردّد الدّعواتِ، متضرّعًا إلى الله عزّ وجلّ أنْ يوفّقني في مشواري الجديد!
أمّا أمّي – رحمها اللهُ – فكانت تجهشُ بالبكاء، وترفع الدعاءَ لله أنْ يحفظَني ويرعاني ويشملني بالتّوفيق والنّجاح!
لم أتمالك نفسي، ورحتُ أذرفُ الدّموعَ وأشاطرُ الوالدةَ في البكاء!
وقبل الصّعود للسيّارة انحنيتُ أقبّل يدَيّ الوالد والوالدة وأتمتمُ بعباراتٍ متقطّعةٍ.. وأدعو لهما بطول العمر مع الصّحّة والعافية.
ثمّ سمعتُ صوتَ أمّي:
– “دير بالك يمّا على حالك وعلى دروسك، وقدّر ظروفنا الصّعبة، فالعائلةُ كلُّها تشتغلُ وتتعبُ لتوفّرَ لك كلفةَ المعيشةِ وما تحتاجُه في مدرستك الجديدة!”
لم يكن بمقدوري التفوّهُ بكلام ٍمسموعٍ من شدّةِ الانفعال، ولكنّني كنتُ أحادثُ نفسي مُعاهدًا الوالدين أن لا أخيّبَ الآمالَ المعقودةَ عليّ!
وتحرّكتِ السيّارةُ والكلُّ يلوّحُ لنا بيده مودّعًا مباركًا، ونحن واجمون حائرون يلفُّنا الحزنُ على فراقِ الأهل والبلدة، وتملأ قلوبَنا المخاوفُ والقلقُ كيف سنتدبّرُ أمورَنا وحدَنا بعيدًا عن الأهل والدّار!
في أثناء السّفر رحنا نتأمّلُ المناظرَ مِن حولنا؛ أشجارَ السّرو والكينا الّتي شمخت على جانبَيّ الشّارع، حقولَ الزّيتونِ واللّوز وبيّاراتِ الحمضيّات الّتي تتراءى لنا على امتداد البصر، السيّارات الّتي تقابلنا والّتي كنّا نتسلّى، أحيانًا، بِعدّها!
أخيرًا، وصلنا إلى بلدة الطّيرة قُبيلَ غروبِ الشّمس، وكانت روائحُ فاكهةِ أشجار الجوافةِ تفوحُ مُنعشةً، ومناظرُ كرومِ العنب تملأ النّفوسَ غبطةً وأملًا! (اشتهرت بلدة الطّيرة في تلك السّنوات بهذه الخيرات: الجوافة والعنب!)
توجّهنا إلى الغرفة الّتي سنسكنُ فيها، وهناك استقبلَنا صاحبُ المحلّ بالتّرحاب والحفاوة، وساعدنا في إنزال الأغراض وترتيب الغرفة!
رويدًا رويدًا، بدأ قرص الشّمس يختفي، والنّهار يودّع الكونَ ليحلَّ اللّيلُ والظّلام، ولأوّل مرّةٍ ننتبهُ للمصابيحِ الكهربائيّةِ الّتي بدأت تُضاء في البيوت والشّوارع،
فكم كانت فرحتُنا ودهشتُنا عظيمةً من هذه المناظرِ الّتي لم نعهدْها في قريتنا، فلم يكنْ في قريتنا- آنذاك – شبكةُ كهرباء، وكانتِ البيوتُ فيها تُضاءُ بالقناديل والسّرج!
أشعلنا القنديلَ في غرفتنا الجديدة (فقط بعد عدّة أشهرٍ دخلت الكهرباءُ غرفتَنا!)، تناولْنا ما تيسّر منَ الطّعام الذي زوّدتنا به الأمّهاتُ الحنونات، ثمّ بدأتِ الطّمأنينةُ والسّكينةُ تتسرّبُ إلى نفوسنا القلقة، فتبادلنا أحاديثَ السّهر والسّمر حتّى ذبلتِ العيونُ، فأوينا إلى الفراش وغِبنا في نوم عميقٍ تخلّلتْه أحلامٌ سعيدة واعدة!